ذكرى الميلاد: مكانك تحمدي أو تستريحي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللجنة القومية للاحتفال بسبعينية الإمام الصادق المهدي

كلمة الإمام الصادق المهدي

مكانك تحمدي أو تستريحي

25/12/2005م

الاحتفال بيوم الميلاد بدعة سنتها والدتي لي تفاؤلا بأنه صادف أول شوال هجريا و25 ديسمبر ميلاديا، بدعة يمكن أن تكون حسنة إذا صارت وقفة حساب مع الذات وموقف وصال مع الأحباب. ويمكن أن تكون بدعة سيئة إذا صارت يوم تفاخر ومباهاة بلا تأمل ولا عبرة. وواصل الاحتفال بعد وفاة الوالدة رحمها الله أسرتي ثم مكتبي وأسرتي، وجريا على هذا التقليد أقيم هذا الاحتفال مع الفارق أنه يصادف بلوغي السبعين من العمر.

السبعون من محطات العمر السبع التي يمر بها الإنسان أي: المولد- البلوغ- الزواج- الشدة- الكهولة- الشيخوخة- وأخيرا العجز. إنني اليوم إذ أشكر كافة من احتفى بذكرى يوم ميلادي السبعين أحدثكم عن وقفتي مع الذات لعام 2005م ثم عن وقفة أطول مع سيرتي في محطة السبعين.. حديثي في سبعة محاور:

أولها: حصاد هذا العام:   وكالعادة أتناول بعض أهم ما جاء فيه مستعرضا ومعلقا:

الحدث الأول الذي سوف أتناوله هو توقيع اتفاقية السلام في بداية هذا العام. رحبنا جميعا باتفاقية السلام لأنها أوقفت الحرب ولأنها وضعت التحول الديمقراطي في أجندة الوطن. الترحيب العام بالاتفاقية كان خادعا، ومع أنني أصدرت كتابا يوضح ما لها وما عليها وكذلك الدستور الإنتقالي إلا أنني أعتقد أن نبرة النقد لم تكن بالحدة التي يوجبها ما انطوت عليه من أخطاء وما أغفلت من مسائل وما ركزت عليه من مصالح حزبية لطرفيها متغافلة بعض أهم القضايا الوطنية.

لن أخوض هنا في تفاصيل اتفاقية نيفاشا للسلام ولا الدستور الذي انبثق منها فقد قتلناهما بحثا، ولكن الخطايا الآتية كانت ولا زالت توجب منا موقفا أكثر رفضا لتنبيه طرفي الاتفاق والرافع الدولي الغافل عن خطورة الإصرارا على عدم التصحيح.

  • لا يمكن لصفقة بين حزبين لا يمثلان كل القوى السياسية المدنية ولا كل القوى السياسية المسلحة في السودان أن تدعى سلاما شاملا، والإصرار على هذه الصفة وهم سوف تبدده الأحداث.
  • الصفقة الثنائية سكنت في الدستور الانتقالي فصار بدعا من الدساتير التي تنص على حقوق وواجبات المواطنين أما هذا الدستور فينص بالإضافة لحقوق المواطنين على حقوق حزبي التفاوض. يمكن تمييز حزب أو اثنين سياسيا لفترة انتقالية معينة، ولكن أن يكون هذا التمييز دستوريا فاستهانة بالدستور وتوهين لشرعيته.
  • التزمت الاتفاقية ودستورها بحقوق الإنسان المثبتة في المواثيق الدولية ولكنهما (الاتفاقية والدستور) حرما من لا يبصم على صفقة المنافع الحزبية الثنائية من حقوقه السياسية والانتخابية.
  • أعطت الجنوب حقوقا تمثل سابقة لاستحقاقات الأقاليم الأخرى ولكنها قفلت باب إعطائها تلك الحقوق باعتبار أن اتفاقية نيفاشا هي اتفاقية السلام الشامل النهائية. وما دام هذا الوهم مستمرا فلا مجال لتسوية مطالب غرب السودان ولا شرقه ولا أية جهة سياسية أخرى.
  • الاتفاقية والدستور وضعا معادلة اقتسام السلطة بين الجنوب والشمال على أساس الثلث والثلثين. ولكنها نصت على المناصفة في أمر القوات المسلحة. وهي معادلة مستحيلة.
  • الحل الوسط الذي قام عليه بروتوكول ميشاكوس بأن يطبق الإسلام في الشمال ولا يطبق في الجنوب حل معقول. ولكن الذي خلا من المعقولية والعدالة هو استمرار أسلمة الأحكام باجتهاد المؤتمر الوطني ودون مشاركة أغلبية المسلمين.
  • ترتيبات حل قضية أبيي صادرت حقوق جميع الفرقاء لا سيما سكان المنطقة، واعتبرت لجنة الخبراء التي عينها المفاوضان محايدة وهي ليست كذلك وأن قراراتها نهائية، دون وجه حق.

اتفاقيات السلام تقوم عادة على قاعدة سياسية عريضة وتحقق فعلا سلاما شاملا وتحولا ديمقراطيا.. اتفاقية نيفاشا تلفظت بالقومية، والشمول، والمشاركة الجامعة، ولكنها نفت تلك المبادئ في الواقع. بل أوجبت قيام استقطاب حاد في البلاد وقفلت أبواب السلام الشامل.

آن الأوان أن نتجاوز عاطفية الترحيب بالسلام الجزئي والحرية النسبية وأن توضع النقاط على الحروف في المخاطر المحيطة بالبلاد وإمضاء العزم لمواجهتها.

الحدث الثاني هو تدهور أوضاع دارفور. إن لدارفور مشاكل تقليدية كان جلها واردا في أطر تقليدية. ولكن نظام الإنقاذ في حملته المخططة لاستمالة أهل دارفور مزق النسيج الاجتماعي وجاء بأربعة معالم لم تكن موجودة في دارفور هي: الإثنية المسيسة- الانتفاضة المسلحة ضد الحكومة- المأساة الإنسانية المروعة- والتدويل.

أمام تدهور الحالة الأمنية في دارفور ارتكب النظام أربعة أخطاء هائلة:

  • كانت شرارة التحدي المسلح الأولى في درافور محدودة ولكن النظام قرر أن يلقن المسلحين درسا لاسترداد هيبة الدولة التي استنزفت في مفاوضات وإملاءات نيفاشا.
  • وافترض النظام خطأ أن الأسرة الدولية سوف تغمض عينها عما في دارفور لرضاها عن موقف النظام في مفاوضات نيفاشا.
  • وافترض خطأ أنه يستطيع أن يقمع التحدي المسلح باستخدام قوى غير نظامية معادية إثنيا للمسلحين وأن هؤلاء بعمل مشترك مع قوات الحكومة سوف يروعون أهل المسلحين ويعزلونهم منهم.
  • افتراض أن هذا العمل الضخم يمكن إخفاؤه من الرأي العام السوداني والدولي.
  • وبعد كل هذه الأخطاء الهائلة ما زال النظام السوداني يطمع في أن تحل أزمة دارفور داخل سقوف نيفاشا وفي إطار سياساته المقررة وهو يأمل أن يضغط الاتحاد الأفريقي والأسرة الدولية على قيادة الانتفاضة المسلحة لتقبل ذلك إنقاذا لاتفاقية نيفاشا.

مرونة موقفنا الحريص على حل قومي أوهمت النظام أننا يمكن أن نقبل أطروحاته القومية شكلا الحزبية فعلا. آن الأوان أن نقول بوضوح بوجوب تخلي النظام تماما عن أطروحاته وأن يقبل دون تحفظ الوثيقة القومية التي اتفقت عليها القوى الوطنية أساسا لحل محنة دارفور وأن تتخذ فورا إجراءات بناء الثقة المطلوبة. إن تمييز الموقف القومي الحقيقي من موقف الحكومة السودانية إجراء مطلوب لبناء صدقية التوجه القومي بعيدا من مناورات الشكل القومي ذي المضمون الحزبي.

الحدث الثالث هو مقتل د. جون قرنق في حادث طائرة في يوليو 2005م. أقول عن الفقيد أنه:

  • عبأ وبلور إرادة الجنوبيين لنيل تطلعاتهم بالقوة.
  • فاوض وحقق لهم معادلة استرداد حقوق محددة.
  • فتح الطريق بالقدوة للآخرين في جهات أخرى من السودان لطرق نفس الأسلوب.
  • أعطى الجنوبيين خيارا آخر غير الانفصال هو الوحدة الطوعية ضمن سودان جديد.
  • انفرد بالقيادة فخلق داخل حركته وجيشه استقطابا ضده.
  • حصر الكسب في الاتفاقية وفي الدستور في حزبه لا في إقليمه فأثار استقطابا جنوبيا مضادا.
  • إن كثيرا من المطالب الجنوبية شكلت ضمن تحالف بيننا وبين الحركة ولكنه في مرحلة التفاوض النهائي تجاوز مطالب ومصالح حلفاء الأمس.
  • السودان الجديد الذي دعا له يجد تأييدا في الجنوب وفي مناطق أخرى من السودان وهو المقابل المضاد للتوجه الحضاري.
  • اعتمد كثيرا جدا على الدعم الخارجي سواء في مرحلة منقستو أو المرحلة الأخيرة الأمريكية.
  • مهما كانت أوضاع السودان فإنها بعد اتفاقية السلام ودستورها تتجه نحو تغييرات جذرية تتجاذبها رؤى التوجه الحضاري والسودان الجديد، وربما كان الجاذب الأكبر هو الدينامية الشعبية السودانية لتحقيق سلام عادل وشامل وتحول ديمقراطي حقيقي.
  • إن على قيادة الحركة الشعبية والجيش الشعبي التي خلفت د. جون قرنق أي السيد سلفا كير وزملاؤه واجبا خلاصته:
    • المحافظة على وحدة الحركة.
    • تحويلها إلى حزب سياسي ديمقراطي.
    • خفض حجم الاعتماد على الخارج.
    • إجراء حوار جنوبي جنوبي جاد.
    • التجاوب مع فكرة السودان العريض الديمقراطي ضمن توازن العدالة بديلا عن السودان البديل الذي لا يفرض إلا بالقوة، وعن الانفصال، وعن التمكين الثنائي. هذا سوف يمكن الحركة من القيام بدورها الثوري التجديدي التاريخي.

الحدث الرابع رحلاتي الخارجية: قمت أثناء هذا العام بعشرين رحلة خارجية موضوعاتها دبلومساية شعبية نحو بلدان هامة عربية، وأفريقية، وأوربية وأمريكية. كذلك لحضور مؤتمرات وورشات عمل حول موضوعات التحول الديمقراطي، التنمية، السلام، المياه، حوار الأديان، وحوار الحضارات. بعض الناس يرون أن هذه الرحلات أكثر مما يجب، ولكنني أدفع بأمرين:

الأول: هو أن عالم اليوم تداخلت فيه القضايا بصورة أدخلت الوطني في الإقليمي في العالمي وصار واجب القوى الحية أن تحاول التأثير على مؤتمرات ودراسات تتناول قضاياها وسوف تؤثر عليها حتما.

الثاني: هو أن النظام الحالي في السودان وقد أصر على تهميش القوى السياسية الداخلية أعطى وزنا كبيرا للتفاوض مع معارضيه المسلحين، تفاوض يجري عبر وساطات خارجية تسهله وأحيانا تقوم بدور المحكمين فيه. والغريب أن المدافعين عن النظام السوداني يعيبون علينا مطالبة الأمم المتحدة بدور يحمي حقوق الإنسان في السودان لأننا نخشى أن يهضم الحكام حقوق المواطنين.. أقول هذا مدهش فالنظام هو الذي أتى بالأمم المتحدة للسودان بهذا الحجم الكبير لتساعد في تنفيذ الاتفاقية ولكي تقوم بدور “الحكم” بين طرفي الاتفاقية.. أحلال على الأمم المتحدة أن تحمي حزبي الحكم من جور بعضهما على بعض وحرام عليها أن تحمي الشعب السوداني من جور الحكام؟ مالكم كيف تحكمون؟.

ويمكن أن يقال إن المال المصروف في هذه الرحلات لا يتناسب وأولوياتها الفكرية والسياسية.. الحقيقة هي أن هذه الرحلات مدفوعة التكاليف من منظميها والخبر السار هو أنني حيث ذهبت في هذه البلدان أجد أن لدينا تنظيما متماسكا قادرا على تنظيم الاجتماعات الفكرية والسياسية والاتصالات الدبلوماسية في البلدان المعنية، وحيثما ذهبت تولى جماعتنا الصرف على ما يتجاوز الميزانية المعتمدة من المنظمة التي وجهت الدعوة..

تفاصيل هذه الرحلات مرفقة، وقد درجت بعدها أن أقدم تنويرا لحزب الأمة ولهيئة شئون الأنصار للدراسة والمتابعة. كما درجت على كتابة خلاصة المؤتمرات والورش في مقالي الأسبوعي بجريدة الشرق الأوسط.

الحدث الخامس حيوية تنظيماتنا:

منذ المؤتمر العام السادس لحزب الأمة والمؤتمر العام الأول لهيئة شئون الأنصار انطلقت التنظيمات المنتخبة تحقق حيوية فعالة جسدها تحرير الاتحادات الطالبية من القبضة الشمولية في 14 جامعة- الزيارات الإقليمية المختلفة- التحضير لتحرير النقابات من قبضة الشمولية- وفاعلية تنظيمات المهجر..

هذه الأنشطة في هذا العام اندفعت بتمويل ذاتي قاعدي نقل صيغة التمويل لدينا من الأبوي والخارجي للذاتي، وكان مشهد الاحتفال بذكرى أم دبيكرات الشهر الماضي آخر حلقة في الأنشطة الإقليمية الجماهيرية التي اعتمدت على المبادرات والتمويل القاعدي.

الحدث السادس  الأنشطة الاجتماعية التي بموجبها درجنا على برنامج عيادات وعزاءات وزيارات واسعة كل جمعة بعد الصلاة وقد استطاعت اللجنة الاجتماعية المعنية أن تسد بهذه الأنشطة فجوة هامة.

الحدث السابع حرص حزبنا وهيئة شئون الأنصار على المشاركة في كافة أنشطة منظمات المجتمع المدني بأوسع نطاق والتواصل مع الصحافة السودانية والدولية وكذلك أجهزة الإعلام. مع أننا لا نملك أجهزة إعلام خاصة بنا فإننا نحظى بالتغطية الأوسع في أجهزة الإعلام. كثيرون يأخذون علينا عدم تملك صحيفة أو إذاعة أو فضائية وهي مطالب تقعد دونها الإمكانات ولكن إن توفرت هل هذا التملك ضروري؟ أنا أعتقد أنك إذا أنتجت أفكارا وصنعت أخبارا فإن الإعلام هو الذي سوف يسعى إليك فما الحاجة للامتلاك؟ لا سيما إذا كنت تنشد الموضوعية وتنفر من التطبيل!!.

الحدث الثامن كنت أتحاشى الدخول في أعمال استثمارية ولكن مع هامش الحرية الذي تحقق دخلنا في هذا العام بصورة واسعة في نشاط استثماري. لقد أشركت في عملي الاستثماري زوجتي وبناتي وأبنائي، إذا كنت أعتقد أنهم امتداد عضوي لي فلنجسد هذه الحقيقة في الحياة قبل الممات.

أنا أنتمي لأسرة عريضة عرفها الإمام المهدي بأنها تشمل نسل سبعة آباء: الإمام المهدي- الخليفة عبد الله- الخليفة علي الحلو- الخليفة شريف- أخوان المهدي وهما إثنان، والأمير يعقوب أخو الخليفة عبد الله.  أحاول توحيد هذه الأسرة العريضة، وربما تحقق ذلك بعيدا عن أية اعتبارات أخرى سوى علاقة الرحم. أما أسرتي الخاصة فقد كان أخشى ما أخشاه عليهم ثلاثة مهاو: الغلو الديني الذي جعل كثيرا من الشباب غرباء في أسرهم، أو  الاستلاب الثقافي الذي جعلهم في غربة ثقافية تامة، أو اتخاذ مواقف هي ردة فعل مضاد لما أنا عليه وهي ظاهرة حدثت لكثير من الأسر. أنا أحمد الله أنني بالقدوة والشورى والحرية النسبية حصلت على أولاد وأصهار مبرئين من الغلو، والاستلاب، وردة الفعل المضادة.

وأخيرا المرجعية، والثورة الثقافية، وحقوق المرأة الإسلامية والإنسانية.. وهي الكتب الثلاثة التي أصدرتها هذا العام. أما المرجعية فهي أطروحة لمرجعية إسلامية متجددة وقد سرني أن عددا من الجهات تقدمت لتمويل مؤتمر العلماء والمفكرين الذي سوف يدرسها ويصدر رأيا جماعيا بما جاء فيها. ونحن في إطار هيئة شئون الأنصار الآن بصدد اختيار الجهات التي لن يؤثر تمويلها على حرية واستقلالية المؤتمر المزمع.

المحور الثاني: وقفة على عتبة السبعين: الإنسان لديه ثلاثة أعمار: عمره الإحصائي المعدود منذ يوم ولادته، وعمره الفسيولوجي الذي يتوقف على صحته وأسلوب حياته، وعمره النفساني الذي يعتمد على حالته النفسية. نعم كل عمر إلى نهاية:(وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا[1]). أسلوب الحياة الصحيح يؤخر ولا يلغي الشيخوخة وكذلك الحالة النفسية. الناس عادة يقولون: العقل السليم في الجسم السليم، لكنني قلبت هذه المقولة، الصحيح أن نقول: الجسم السليم في العقل السليم، لأن العقل السليم هو الذي يصوغ ويصور ويحقق الجسم السليم باختياره أسلوب الحياة الصحيح.

أمام تقدم العمر نجد اختلافا كبيرا، فشاعرنا الفحل الشيخ محمد سعيد العباسي نعى نفسه في سبعينه:

سبعون قصّرت الخطى وتركنني   أمشي الهوينى ضالعا متعثرا

قد كنت مثل الليث إذ أطأ الثــــرى تيها وأستهوي الحسان تبخترا

ولكن غيره وصف حالا مختلفا، قال شاعرهم:

يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا               وقد يكون شباب غير فتيان!

وقال العراقي:

عمري إلى السبعين يركض مسرعا          والروح باقية على العشرين!

وحول اليشكري تقدمه في العمر لصفات إيجابية:

كيف يرجون سقاطي بعدما         جلل الرأس بياض وصلع؟

فكرت مليا كيف أعنون وقفتي على عتبة السبعين وتزاحمت علي الخواطر، وتأملت حياتي حتى الآن فوجدت أنني في الحقيقة كنت مرشحا بمولدي لحياة ناعمة هنيئة يرفدها الحسب والإرث. وربما هذا كان ممكنا لولا التقلبات الانقلابية ولولا التصدي للسلطان الذي أقامه الانقلابيون لا سيما وقد عرض علينا جميعهم التعاون معهم ومشاركتهم والاستمتاع بالحظوة معهم. ولكن التمسك بمواقف مضادة لهم إنحيازا لمبادئ معينة جعلهم يسلقوننا بألسنة حداد ويبطشون بنا ويغرون أهلنا ضدنا بكل وسائل الترغيب والترهيب. فكرت مليا في هذه الحالة وتذكرت كيف أن النفس كانت أحيانا تميل للمساومة، ولكنه ميل لم يدم.

بعض زملائي وبعد كذا شهر من الحبس كان يقول لي إنك يابس أكثر مما يلزم ولا بد للسياسة من قدر من المرونة، والمدهش أن نفس هؤلاء يقولون في مجال آخر: الصادق متردد ولا يتخذ القرار إنه يريد إرضاء الجميع وهذا مستحيل! .. رميت بالعناد واللين في آن واحد!.

الحقيقة هي أنني بسرعة وبعد دراسة اتخذ القرار في كل أمر يطرأ عليّ، بل تجدني إن أردت جاهزا بقرار محدد في أية مشكلة داخلية أو خارجية. ولكنني مهما كنت حاسما في قراري وموقنا من صحته أترك حتما مساحة للرأي الآخر حتى في أخص خصوصياتي. وأرى يقينا أن هذا اللين أو التدبر في اتخاذ القرار بما يوسع المشاركة هو سياسة النبوة: “ما خاب من استشار”، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ[2])، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[3]).. أما أمام ظلم الظلمة وفي وجه السلطان الجائر فالعناد هو الفضيلة: أعاند لأحمي مبدأ المشاركة في اتخاذ القرار، وفي سبيل ذلك العناد أدفع الثمن اعتقالات ومصادرات وإهانات ومؤامرات تحاك ضدي مع الأباعد والأقارب.. وبينما جالت في خاطري هذه الحياة التي انقلبت بإرادتي من النعومة إلى الخشونة خطرت ببالي أبيات ابن الاطنابة:

أبت لـــي همتي وأبـى  بلائـي            وأخذي الحمد بالثمـن الربيـحِ

وإقحامي على المكروه  نفسـي          وضربي هامة البطل المشيـحِ

وقولي كلما جشأت  وجاشـــت           مكانك تحمـدي أو تستريحـي

لأدفع عـن مآثـر صالحــــــــات          وأحمي بعدُ عن عرض صحيحِ

فاخترت عبارة: “مكانك تحمدي أو تستريحي” عنوانا.

نعم للحرص على اتخاذ القرار ولكن ينبغي أن تسبقه دراسة وتصحبه مساحة للرأي الآخر. لقد شقيت بلادنا كثيرا بالتطلع للقرارات الفوقية الحاسمة لا سيما عندما صحبتها فكرة تعميد جيل جديد من القيادات. لقد شقيت بلادنا كثيرا في عهدي مايو والإنقاذ بسبب شعارين هما تجديد دماء القيادة وسرعة اتخاذ القرار.. تجديد الدماء عن طريق تواصل الأجيال ضرورة أما طريقة النظام المايوي ونظام الإنقاذ في تجديد الدما ء والحسم في اتخاذ القرار فقد سببت لبلادنا ما لا حد له من الدمار.

المحور الثالث: أهم محطات الحياة: أبنائي وبناتي في مكتبي رأوا أن أكتب بمساعدتهم مذكراتي، كنت في الماضي أرفض هذه الفكرة باعتبار أنني أوثق الأحداث الهامة في كتبي ولا أؤيد فكرة المذكرات لتمجيد الذات، ولكن في النهاية اقتنعت بأن هنالك بعض الدروس المستفادة من تجاربي المختلفة وبعض التفاصيل الهامة لا يغطيها نوع الكتابة الذي مارسته، وتفلح المذكرات في نقل تلك التجارب والدروس المستخلصة منها للأجيال الناشئة والقادمة، فوافقت أخيرا على فكرتهم، فحضروا ما عليهم، وخططوا لإقامة حلقات سردية ممتدة في محاور ثمانية على أن تكتمل المذكرات وتنشر بمناسبة بلوغي السبعين، ولكنني لم أستطع تكملة الجزء الخاص بي، واتفقنا أن نرجئها إلى عام آخر، ولكنني في هذا المحور سوف أتناول عشر محطات في حياتي وسيأتي يوم إن شاء الله أكتب فيه مذكرات كاملة وموثقة، فحياتي رغم مطاردة أجهزة الأمن لإخفاء أوراقي من بطشهم وضياع بعضها وبعض أنفس الكتب بسبب تلك المطاردة موثقة بصورة شبه كاملة ولا أخالني أذكر حقيقة هامة دون دعمها بوثيقة واضحة.
  1. الطفولة: مع أن جدي الإمام عبد الرحمن كان منذ الثلاثينات من أثرى أثرياء السودان فإنه تعامل مع المال الذي جمعه كقوة اجتماعية، شيد به كيانا دينيا قويا وكيانا سياسيا جامعا، ودعم به الأنشطة الأهلية في كل المجالات: بناء المساجد، والمعاهد والمدارس، ودعم التعليم الأهلي وبناء المستشفيات ورعاية الأنشطة الدينية والأدبية والفنية وممارسة الدبلوماسية الشعبية في تكريم كل الوافدين للوطن، ومد اليد السخية للكافة.. مع ذلك كنا نحن أسرته الخاصة حتى الخمسينيات نعيش كأواسط الناس، وكانت طفولتي منقسمة ما بين أم درمان حيث كنا نسكن حي العباسية، والجزيرة أبا حيث كان يعمل والدي.. أهم ما في هذه المرحلة ثلاثة أمور الأول عاديتها من الناحية المادية، وحريتها إذ كان لنا مجتمعنا الخاص بالأطفال شبه المستقل عن مجتمع الكبار، والثالث أنني منذ نعومة أظفاري بدأت أسمع عبارات أكبر من سني: عبارات مثل ما قاله الإمام عبد الرحمن لوالدتي وأنا دون العاشرة “يا رحمة ولدك هذا هو الذي سوف يسد فرقتي”. وبكت أمي قائلة: ” يا سيدي فرقتك إن شاء الله ما نشوفها ولو بسفر طويل”. فقال لها: هذا شيء لا بد منه. ولدى إصابتي بالإلتهاب السحائي جاء الإمام عبد الرحمن ومسك رأسي وكانت حياتي في خطر وردد دعوات ثم قال: اللهم إن وعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد. ما قالته السيدة أم سلمة جدتي لأمي: يا رحمة ولدك هذا سيكون له شأن عظيم فقد رأيته في المنام يخاطب جمعا كبيرا ثم قال: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق[4]ٍ).
  2. التعليم: كان تعليمي عاديا في البداية في الخلوة وفي كتـّاب الأحفاد في أم درمان وفي كتاب الجزيرة أبا. ولكن بعد ذلك حدثت طفرة بدخولي كلية كمبوني في الخرطوم، ثم كلية فكتوريا في الإسكندرية. كان هذان المعهدان أجنبيين وكان مناخ كمبوني تبشيريا وإن كانت الإدارة ملتزمة بعدم استغلال التعليم للتبشير المباشر. أما كلية فكتوريا فكانت تتعمد التبشير الثقافي الأنجلوفوني لدرجة لم أجدها محتملة فتمردت على التعليم فيها وقاطعت التعليم الحديث كله لفترة عامين متتلمذا للشيخ الطيب السراج، ثم عدت للتعليم الحديث في جامعة الخرطوم لمدة عام ونصف ردتني عن التعليم المضاد للحداثة وغير النظامي وألحقتني بالتيار التعليمي العادي، وعرضتني بقوة لتيارات الفكر والسياسة التي سادت الأوساط الطالبية في أوائل الخمسينيات، ثم تحولت لجامعة أكسفورد ضمن ظروف قصصتها في مجال آخر وربما كان فيها تخطيط غير مرئي في وقته، فقد كنت منذ عام 1948م قد التقيت السيد جراهام توماس صديق جدي وأحد أعضاء الإدارة البريطانية في السودان بمناسبة عيادته في مرضه نيابة عن جدي الإمام عبد الرحمن وتسليمه هدية عبارة عن “أبجورة” صناعة سودانية. وكان السيد جراهام شخصية واعية ومرحة فدخل معي في نقاش سياسي وديني طويل وبعد ذلك كما روى لي بعد حين كتب للسكرتير الإداري السير جيمس روبرتسون يقول له: إنه التقى طفلا هو شخصي سوف يكون قيادة للسودان في المستقبل. في عام 1953م انقطع تعليمي في كلية الخرطوم الجامعية وهيئ لي خيار بديل لم يكن في حسباني هو التوجه للتعليم في جامعة أكسفورد ببريطانيا. كانت تلك مرحلة مهمة تناولتها بالتفصيل في مقام آخر. ولكن أهم ما فيها أن المؤثرات والنشاط اللا صفي الذي اشتركت فيه في تلك الفترة في أكسفورد نفسها، وفي لندن لدى عضويتي في اللجنة التنفيذية للطلاب السودانيين في المملكة المتحدة ورئاسته في لندن كانت أهم كثيرا من التعليم الصفي الذي نلته.
  3. السودان المستقل: كان لاتحادنا في لندن دور هام في الضغط على رئيس وزراء السودان آنئذ السيد إسماعيل الأزهري للانحياز للاستقلال، والتخلي عن الاتحاد ولدى زيارته للندن دعوناه وفي اجتماع محضور ألقى السيد مرتضى أحمد إبراهيم نيابة عن الاتحاد كلمة يطالبه والوفد المرافق له بالانحياز للاستقلال. تحقق استقلال السودان في عام 1956م، وبإجماع كافة القوى السياسية السودانية. ولكن كان واضحا أن الحياة الديمقراطية الجديدة سوف تواجه ثلاثة عوامل تبدد استقرارها: العامل الأول التطلعات الجنوبية لوضع خاص للجنوب، والثاني المخاوف المصرية على مصالحها في السودان، والثالث انعكاس العاملين سلبا على استقرار ووحدة القوى السياسية السودانية. بعد الاستقلال مباشرة وقع الانقسام الأول في الحزب الوطني الاتحادي وأجريت انتخابات في فبراير 1958م ألف بعدها حزب الأمة والشعب الديمقراطي (الذي يؤيده الختمية) حكومة ائتلافية. كنت شخصيا قد اشتركت مع صغر سني في عمل سياسي كبير لصالح حزب الأمة في الانتخابات. وكان واضحا لي أن المناخ السياسي لا يناسبني لذلك اعتبرت مساهمتي في الانتخابات “مأمورية” انتهت بنهايتها والتحقت بالخدمة المدنية السودانية موظفا في وزارة المالية. وبدأت أحس بحركة انقسام غير مرئي في حزب الأمة ما بين تيار يقوده رئيس الوزراء والأمين العام السيد عبد الله خليل ويحرص على الإبقاء على الائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي بقيادة السيد علي عبد الرحمن، وتيار مناوئ يقوده رئيس الحزب السيد الصديق المهدي يرى عدم جدوى ذلك الائتلاف وضرورة استبداله بائتلاف مع الحزب الوطني الاتحادي بقيادة السيد إسماعيل الأزهري. حدة صراع هذه الرؤى ضمن عوامل أخرى هي أسباب اقتناع رئيس الوزراء بعدم جدوى العملية السياسية التعددية واللجوء للقوات المسلحة السودانية منقذا للموقف، فأدى ذلك لاستلامها السلطة وقيام نظام 17/11/1958م. هذا الحدث جرني رغم أنفي للسياسة السودانية مرة أخرى فقد اعتبر أبي الانقلاب مؤامرة ضده وضد حزبه وكان غائبا في أوربا فعاد مسرعا ولم يكن في استقباله بالمطار أحد فكنت سائق العربة التي نقلته من المطار وكان ثائرا على الانقلاب معلنا رفضه. وقد صادف هذا الموقف موقفي لأنني منذ يوم الانقلاب قررت الاستقالة من الخدمة المدنية باعتبارها لم تعد كذلك بل صارت أداة تنفيذية لإرادة غير شرعية، وهذا ما كتبته في خطاب استقالتي، فناداني رئيس قسمي السيد عبد الهادي حمدتو وقال لي هذا النص لخطابك يجر لنا المتاعب فأرجو أن تكتب استقالتك دون إبداء أسباب سياسية ففعلت. لقد كانت خطة التسليم والتسلم التي اشترك فيها السيد عبد الله خليل، مبنية على اتفاق معين مع قيادة القوات المسلحة يستلموا فيها الحكم ويكونوا حكومة قومية ويكتبوا دستور البلاد الدائم ويعلنوا الانتخابات بعد ستة أشهر. هذه الخطوة  عارضها 13 من أعضاء المكتب السياسي للحزب الخمسة عشر، وحتى السيد عبد الرحمن علي طه الذي أذاع بيان التأييد من الإمام عبد الرحمن المهدي فعل ذلك فقط احتراما لرغبة الإمام وابتعد بعدها عن العمل السياسي، ثم سرعانما لحق السيد عبد الله خليل بمعارضة الانقلاب. فبسرعة تحركت القيادتان الشرقية والشمالية “لتصحيح” اتجاه الانقلاب في بداية عام 1959م، وبسرعة أدرك الإمام عبد الرحمن الذي قبل الانقلاب كأقصر وسيلة لكتابة دستور البلاد ثم استئناف الديمقراطية، أدرك بطلان هذه التوقعات. وأنا شخصيا أعتقد أن الإمام عبد الرحمن وقد كان حساسا جدا للأحوال العامة قد فجع ومات أكثر الناس حزنا وقد سمعنا منه في أواخر أيامه ودون في أوراقه الخاصة ما يدل على حالة قصوى من خيبة الأمل. وبعد وفاته في مارس 1959م خلفه والدي المعلن عداءه لنظام الحكم العسكري المتعرض حتما لقهره. هذا المشهد هو الذي أجبرني على التخلي عن خططي الخاصة بمواصلة تعليمي والمهنة الزراعية والوقوف إلى جانب أبي في مواجهة البأس الدكتاتوري.
  4. ثورة أكتوبر 1964م: انقلاب 17/11/1958م اكتسب بعض الشرعية لوجود عنصر تسليم وتسلم فيه من رئيس الوزراء، ولبيان التأييد الذي أصدره السيدان. هذه الشرعية تلاشت بموجب الموقف السياسي المتحد الذي اتخذته القوى الوطنية الديمقراطية بقيادة الإمام الصديق المهدي. وعلى طول عمر النظام وهو ست سنوات تضافرت 4 عوامل عرته من أية شرعية وأطاحت به هي:
  • القوى السياسية الشعبية.
  • الاستنزاف الذي أحدثته المقاومة المسلحة الجنوبية.
  • الإضراب السياسي الذي حققته النقابات.
  • الانحياز لصالح الشعب الذي ظهر في موقف كثير من الضباط.

أدى التفاعل بين هذه العوامل لثورة أكتوبر 1964م. كان طلبة جامعة الخرطوم هم رأس الرمح وفي ساحتهم اندلعت الشرارة الأولى. وكان دوري هو تنسيق موقف القوى السياسية والنقابية وتقديم الميثاق الوطني الذي حدد الأهداف السياسية للثورة. وبعد توحيد موقف القوى السياسية والنقابية قدت التفاوض مع قادة قيادات القوات المسلحة لوضع برنامج التحول الديمقراطي عبر إجراء انتخابات عامة حرة.

ثورة أكتوبر حققت ثلاثة إنجازات هي: نقل الثقل السياسي لجيل جديد، تحقيق التحول الديمقراطي، تكريس التوجه نحو الحل السلمي للحرب الأهلية في الجنوب.

  1. الديمقراطية الثانية: كنا أثناء مقاومة الحكم العسكري نعمل في مجلس أعلى سياسي باسم مجلس الإمام. وبعد سقوط النظام العسكري شرعنا في إعادة تكوين حزب الأمة. كنت وعدد من زملائي نمثل القوة السياسية المتحركة داخل كياننا وكان رأينا أن يعاد تكوين حزب الأمة على أساس انتخابي وكان الحرس القديم يرى أن يعاد التكوين بالتعيين تحسبا لأية مفاجآت، وتغلب رأينا وأعيد التكوين بصورة لم يرض عنها الحرس القديم. ونتيجة لذلك انتخبت رئيسا لحزب الأمة بأغلبية ساحقة في وجه منافسي في المنصب. ومع أن القوة الشبابية المتحركة، ببرنامجها “نحو آفاق جديدة” وبحيويتها، هي التي جعلت حزب الأمة في انتخابات 1965م الرقم الانتخابي الأول، فإن الحرس القديم كان له ما شاء في تكوين الحكومة الائتلافية الجديدة برئاسة السيد محمد أحمد محجوب. الهيئة البرلمانية الجديدة التي انتخبت ببرنامج حزب الأمة كانت مختلفة عن سابقاتها وفيها عدد كبير من النواب المتعلمين. السيد محمد أحمد محجوب واصل معاملة الهيئة الجديدة بالأسلوب القديم وهو باعتبارهم نواب طاعة بينما كانت الحقائق تدل على أنهم في الغالب كانوا نواب مشاركة ومساءلة مما خلق توترا مستمرا بين رئيس الوزراء والهيئة البرلمانية.

وبعد ندوة في كلية التربية بجامعة الخرطوم سارت مظاهرات قصدت رئيس مجلس السيادة السيد إسماعيل الأزهري يقودها عدد من الحركات الإسلامية التي رمت متحدثا في الندوة بالإساءة للسيدة عائشة زوج النبي (ص)، قيل إن المتحدث حينها كان منتميا للشيوعيين وطالبت المظاهرات بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان أو الجمعية التأسيسية. كان الرئيس إسماعيل الأزهري قد استشعر خطر الحزب الشيوعي على قواعده خصوصا عندما فاز السيد عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي على السيد أحمد زين العابدين في دائرة الأزهري بأم درمان شمال بعد أن تركها لدى انتخابه رئيسا لمجلس السيادة. استقبل الرئيس الأزهري المظاهرات وأيد مطالبها وقال نمهل الحكومة والجمعية وقتا حدده فإذا لم ينفذوا هذه المطالب فإنه شخصيا سوف ينضم للمظاهرات. هذا الاتجاه أيده الإمام الهادي المهدي بشدة وفي الظروف السائدة غلب هذا التيار على النواب ونفذت المطالب. نعم كان بعضنا متحفظا مثلي والسيد محمد أحمد محجوب والأمير عبد الله نقد الله، ولكن الجميع التزم بقرارات الجماعة. ولضمان تنفيذ القرارات دون اضطرابات اصطحبت معي السيد عبد الله نقد الله وذهبنا لمقابلة اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي في دارها وشرحنا لهم الظروف وطالبناهم التعامل مع القرارات بهدوء، وقد كان.

بعد مرور عام من تكوين حكومة السيد محمد أحمد محجوب الائتلافية بلغ سوء الحال بينه وبين الهيئة البرلمانية في حزب الأمة أنهم سحبوا منه الثقة وفكروا في استبداله، ولكنه وهو اللبرالي المشهود له حول المواجهة إلى جهة أخرى عندما قال للنواب أنا عينني الإمام وأنا مسئول له لا لكم!. ههنا وقع اختلاف حاد لا في مبدأ أن يكون للإمام دور سياسي ولكن في حدود ذلك الدور. وهو اختلاف شبيه بما حدث في مرحلة ماضية ما بين حزب الأمة والإمام عبد الرحمن في عام 1950م وحسم الإمام عبد الرحمن الخلاف بإصدار منشور أكد فيه ألا يكون للإمام حق النقض لقرارات حزب الأمة. وقع الانقسام في حزب الأمة في عام 1966م حول هل صلاحية اختيار رئيس الوزراء للإمام أم للهيئة المنتخبة. تداعى هذا الانقسام حتى فرق حزب الأمة إلى جناحين. أعقب ذلك تكوين حكومة ائتلافية جديدة برئاستي يدعمها ثلثا نواب حزب الأمة ونواب الحزب الاتحادي.

حكومتي نجحت في الآتي:

  • الاهتمام بقضايا التنمية والخدمات.
  • الانفتاح غير المسبوق على الأقاليم.
  • الاهتمام بالحل السلمي للحرب الأهلية بإعطاء أكبر أهمية لتوصيات لجنة الاثنى عشر وبعقد مؤتمر جميع الأحزاب لدراسة تلك التوصيات وحسم ما بقي فيها من نقاط خلاف وتبنيها قوميا.

أحس الحرس القديم بخطورة هذا النجاح على تطلعاتهم لرئاسة الجمهورية لا سيما وقد صار كثير من الصحافيين المستقلين يرددون احتمالات اكتساحي للانتخابات الرئاسية القادمة. لذلك تكونت لوبيات ضدي طرحت الثقة في رئاستي للوزراة بعد أن أفلح الشريف حسين الهندي في استغلال مخاوف الرئيس إسماعيل الأزهري وتوحيد حزبه في ائتلاف جديد يساند إعادة السيد محمد أحمد محجوب لرئاسة الوزراء. بعد هذه التحالفات طرحت الثقة في رئاستي للوزارة، واستطعت أن أحافظ على نواب الأمة وكافة النواب المستقلين وعدد من النواب الاتحاديين والنواب الإسلاميين وفي التصويت النهائي كان الفرق بين كتلتينا 8 أصوات فقط أي أنه إذا انحاز لنا 5 منهم لهزمنا التحالف. حكومة السيد محمد أحمد محجوب الثانية صادفت الهجوم الإسرائيلي على مصر في 5/6/1967م ولعبت دورا ناجحا في تضميد جراح الرئيس المصري جمال عبد الناصر واستقطاب دعم عربي لدول المواجهة عبر مؤتمر القمة العربي في الخرطوم. ولكن تلك الحكومة كانت حكومة الحرس القديم وقفت ضدها كل القوى التي خططت ونفذت ثورة أكتوبر في الأحزاب وفي النقابات. ووقف ضدها اليسار الذي طرد نوابه من البرلمان. ومع أن تلك الحكومة الائتلافية أسدت للرئيس جمال عبد الناصر خدمات جليلة إلا أن الناصريين بقيادة السيد بابكر عوض الله تآمروا عليها. حكومة الحرس القديم في السياسة السودانية سارت بكتابة الدستور الدائم لعرضه للجمعية التأسيسية، وكانوا يعتبروني الخطر الديمقراطي الوحيد عليهم لذلك وضعوا سن المرشح للرئاسة 40 عاما وكان سني في ذلك الوقت 33 عاما.

قال السيد محمد أحمد محجوب في كتابه عن الديمقراطية إني قلت له في وجهه أنك لا تصلح لرئاسة الوزارة. نعم ولكن في أي إطار؟!. في أواخر عام 1968م كنت في زيارة لبيروت وصادف أن زارها في الوقت نفسه السيد محمد أحمد محجوب فزارني في غرفتي بفندق كارلتون وقال لي: أنت تعلم أن الدستور الدائم على وشك أن يجاز وستكون الجمهورية رئاسية. وأعلم أنك غير وارد لسنك دون الأربعين. وينبغي أن تعلم أن الأزهري وعمك لا يصلحان لهذه الرئاسة. ولذلك سأرشح نفسي لهذه الرئاسة وسوف يصوت لي الجنوبيون “هذا وعد أعطاه له السيد بوث ديو” وجماهير المدن وسوف أضمن الفوز إذا وقفت أنت إلى جانبي، وأنا رغم كل ما دار بيننا جئت لأعرض عليك أن تسندني في الدورة الأولى وهذا يضمن نجاحي وسوف أسندك في الدورة الثانية للرئاسة. فما رأيك؟!. قلت له أنت رجل ذكي وأديب وقانوني متمكن ولكنني طعنت في صلاحيتك لرئاسة الوزارة فهل يعقل أن أقدمك لرئاسة الجمهورية الرئاسية؟!. ولدى اقتراب موعد إجازة الدستور الدائم احتد التنافس بين السيدين الرئيس إسماعيل الأزهري والإمام الهادي واشتدت المخاوف عند جماهيرنا أن الانقسام سوف يهدر حقنا في الانتخابات فأدى ذلك في النهاية لإعادة توحيد حزب الأمة على أساس أن يكون الإمام مرشحنا وأن تتكون مؤسسات ديمقراطية للمشاركة والمساءلة. توحيد حزب الأمة زاد من ضعف الحكومة الائتلافية لأن حزب الأمة تطلع لمراجعة الائتلاف على أساس يمثل وزنه الجديد.

لم يكن السيد محمد أحمد محجوب راضيا على أسس التوحيد الجديد واعتبره على حسابه وفي احتفال التوحيد قال قولته المشهورة: “اتفقوا ولو علينا!”  وفي مناخ التوتر السياسي الذي زاد بعد توحيد حزب الأمة وتوالي محادثات القصر البطيئة بين الحزبين، قدم السيد محمد أحمد محجوب استقالته للضغط على الحزبين للإسراع بالاتفاق مما خلق فراغا مهد السبيل لانقلاب 25/5/ 1969م.

  1. العهد المايوي 69- 1986م: بدأ يساريا متطرفا متبنيا شعارات الحزب الشيوعي ومزايدا عليها. وكون أول نظام شمولي في السودان وهو الذي استن الأمن المطلق اليد، والإعلام المزيف، والأيديولوجية الأحادية، والحزب الواحد بل والتحالف الخارجي المحوري في الأول مع الشرق وفي أيامه الأخيرة مع الغرب. تبنى في أول عهده شعارات الحركة الشيوعية وانحاز للمعسكر الشرقي واقتبس كافة أدوات القمع الناصرية، وتبنى في آخر عهده شعارات الحركات الإسلاموية وصحب ذلك انحيازا للمعسكر الغربي.النظام منذ بدايته اعتدى علينا وصنفنا أعداء للشعب واستباح حقوقنا كلها. هذا النهج الحاد النافي للآخر هو الذي أدى لطائفة من الأحداث في الجزيرة أبا، وفي ودنوباوي في عام 1970م ثم فيما بعد في 1976م. واستحدث كياننا في وجه هذا العدوان وسائل جديدة كالهجرة إلى الخارج والعمل السري في الداخل، والاستعانة بأصدقاء في الخارج، والعمل العسكري المضاد. وبعد إخفاق قمة المواجهة في 2 يوليو 1976م سلط النظام علينا بأسه مستعينا بحلفائه في مصر. الاعتقال المتشدد لكل عناصرنا في الداخل، واحتواء تحركنا بالخارج نتيجة للدعم الذي وجده النظام من مصر وأمريكا هي العوامل التي جعلتنا نتجاوب بالإجماع مع دعوة المصالحة الوطنية. الدعوة التي تبناها النظام –خداعا كما اتضح فيما بعد- لأنه أدرك أن القوى السياسية التي أقنعته تحليلات الأدعياء أنها انقرضت ما زالت حية وينبغي التفاهم معها. كان للنظام المايوي ثلاث إنجازات هي اتفاقية السلام في 1972م- والمصالحة الوطنية في 1977م- واكتشاف البترول في 1980م.

أما الإنجاز الأول: فقد صحب اتفاقية الجنوب درجة من الحقوق الديمقراطية واقتسام السلطة لم يكن النظام الشمولي قادرا على احتمالها فقوضها.

أما الإنجاز الثاني: فإن النظام أثبت أنه غير مستعد لدفع استحقاقات المصالحة فقوضها.

أما الإنجاز الثالث: فقد منع استغلاله تدهور الوضع الأمني في البلاد.

ومع أن إخلاف النظام قوض المصالحة الوطنية إلا أن بعض آثارها بقيت وهي حرية نسبية لنا في الداخل، وحرية نسبية للنقابات. وفي مواجهة النظام مع القضاة لجأ لسياسة هجومية متكئة على شرعية تطبيق الشريعة وواصل موقفه الهجومي هذا مع النقابات إزاء تحركاتها المطلبية. وفي هذا المناخ قامت الحركة الطالبية مرة أخرى بدور رأس الرمح في جامعة أمدرمان الإسلامية هذه المرة. واستطعنا أن ننسق بين التحرك السياسي الذي قدناه، والتحرك النقابي الذي جسده التجمع النقابي، والعناصر العسكرية التي استعدتها تقلبات النظام. مرة أخرى قمت بتنسيق تحركات الجهات المختلفة، وكتابة ميثاقها الوطني المحدد لأهدافها المشتركة. وتداعت الأحداث حتى أدت لانتفاضة رجب/ أبريل 1985م.

  1. الديمقراطية الثالثة: قام بعد الانتفاضة وضع انتقالي مزدوج تمارس فيه قيادة القوات المسلحة السيادة والتشريع ويمارس فيه مجلس وزراء مدني التنفيذ وكنت قد رأيت أن يكون التجمع النقابي مجلس الوزراء لتنصرف الأحزاب لمهمة إعادة البناء بعدما لحقها من تدمير في عهد الشمولية الأولى وتستعد للانتخابات القادمة بعد عام. كانت الفترة الانتقالية قلقة للغاية يؤججها صراع بين المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء المدني، واضطراب بين مجلس الوزراء المدني والتجمع النقابي الذي كونه. ومع أن الترتيبات الانتقالية هذه التزمت بالميثاق الوطني في أمر إجراء الانتخابات في موعدها إلا أنها عطلت بندين من بنود الميثاق هما: إلغاء قوانين سبتمبر سيئة الصيت، والقصاص الشعبي من سدنة النظام المايوي إذ أعدوا لهم محاكمة قانونية لا سياسية قانونية كما نص على ذلك الميثاق. المجلس العسكري وضع قانونا للقوات المسلحة جعلها شبه مستقلة من مجلس الوزراء. والوزراء في مجلس الوزراء تصرفوا إلى حد كممثلين لنقاباتهم فتحولت الفترة الانتقالية في بعض وجوهها إلى مزايدات نقابية فأورثت البلاد عنترية نقابية كان لها أثرها السالب على الاستقرار الديمقراطي فيما بعد. وكان أسوأ ما في المرحلة الانتقالية، وقد كان قادتها مستعدين للتفاوض من أجل الحل السلمي للحرب الأهلية التي فجرها من جديد نظام مايو بخرقه لاتفاقية السلام، أن الحركة الشعبية لتحرير السودان رفضت الاعتراف بحقيقة التغيير الذي حدث في السودان واعتبرت الفترة الانتقالية مجرد امتداد لنظام مايو. في الانتخابات التي أجريت في عام 1986م كافأ الشعب السوداني حزب الأمة على الإصلاح السياسي الداخلي الذي مارسه، وعلى صموده في وجه البلاء الدكتاتوري، وعلى دوره في الانتفاضة فنال الحزب أكثرية المقاعد، وعاقب الحزب الاتحادي الديمقراطي لغياب أي برنامج إصلاحي سياسي داخلي، ولموقف قيادته المهادن لنظام مايو، ونالت الجبهة الإسلامية القومية أكبر عدد من المقاعد في تاريخها ساعدها على ذلك أن كثيرا من العناصر التي انخرطت في نظام مايو احتمت بها، وساعدها كذلك دقة تنظيمها وحصولها على مصادر تمويل خارجية فاقت كل المتاح للأحزاب الأخرى. بعد الانتخابات اختلفت الرؤية في حزب الأمة. كنت أرى أن نعتبر الحكم الجديد انتقاليا ونكون حكومة جميع أعضاء الجمعية على أساس وزير مقابل كل عشرة نواب ونركز بصورة قومية على القضايا القومية الخمس وهي: كتابة الدستور، تحقيق السلام، التنمية، إيجاد معادلة قومية للأسلمة، نهج علاقات خارجية متوازنة. ولكن رأيا آخر أيدته الأغلبية في حزب الأمة كان يرى أن نقيم ائتلافا مع الحزب الاتحادي لتحقيق تلك الأهداف.  الحزب الاتحادي الديمقراطي نفسه أبرم اتفاق “مناورة” مع الجبهة الإسلامية القومية أهم معالمه رفض إعلان كوكادام “مارس 1986”  للحل السلمي للحرب الأهلية، ورفض تشريع قانون القصاص الشعبي، والالتزام أن يدخلوا الحكم معا أو أن يقفوا معا في المعارضة. وبعد تفاوض شاق كون حزب الأمة حكومة ائتلافية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي رفض أن يدخل في برنامج الحكومة الجديد إلغاء قوانين سبتمبر 1983م، كما رفض الالتزام بإصدار قانون للقصاص الشعبي من سدنة نظام مايو. وكانت النتيجة الاتفاق على حل وسط هو تجميد تلك القوانين إلى حين إصدار بديل لها. كانت أهم ثلاث مشاكل في التعامل مع الاتحادي الديمقراطي: أنه منقسم على نفسه بين تيار يقوده السيد محمد عثمان الميرغني وآخر يقوده الشريف زين العابدين الهندي- إن وزراءه لا يعملون كفريق يل يتصرفون بصورة فردية- إن وزراءه لا يحظون بدعم هيئتهم البرلمانية التي تتصرف كأنها مستقلة من حكومتها. في الفترة من مايو 1986م إلى فبراير 1989م أجريت ثلاث تعديلات وزارية كبيرة في محاولة لاحتواء تلك المشاكل. ومن جهة أخرى فإن الجبهة الإسلامية القومية لم تكتف بدور المعارضة الدستوري في البرلمان بل اتخذت موقفا تقويضيا للنظام الديمقراطي نفسه وزادت من حدة المعارضة خارج الأطر الدستورية، وسخرت في سبيل ذلك إمكانات خارجية تفوق القدرات السودانية. ومع ذلك فإن النظام الديمقراطي استطاع أن يصمد بل وأن يعالج كل الأزمات التي طرأت عليه في نطاق الشرعية الدستورية. تعرض النظام الديمقراطي لثلاث أزمات كبرى هي انهيار الخدمات في العاصمة وكثير من المناطق نتيجة الأمطار والفيضانات في أغسطس 1988م، ومذكرة القوات المسلحة في فبراير 1989م. وبصرف النظر عن التآمر ضد النظام الديمقراطي والإطاحة به وهو تآمر معلوم وموثق وسوف أفصله في مجال آخر فإن الذي قوض الديمقراطية  الثالثة ثلاثة عوامل داخلية وثلاثة عوامل خارجية. العوامل الداخلية كانت ضعف السلطة التنفيذية بسبب مشاكل الائتلاف وبسبب وضع القوات المسلحة شبه المستقل منها، وفوران الحركة المطلبية النقابية التي واصلت زخمها منذ الفترة الانتقالية، وتمدد المعارضة خارج المؤسسات الدستورية بتدبير الجبهة الإسلامية القومية وإمكاناتها الزائدة عن حجمها. أما العوامل الخارجية فهي الموقف الأمريكي السالب من الحكومة الديمقراطية لأننا تخلينا عن سياسات النظام المايوي في ترحيل الفلاشا وفي تقديم تسهيلات عسكرية لهم وفي الانحياز للمعسكر الغربي لذلك أوقفوا ما كانوا يقدمونه من دعم لحكومة مايو وشجعوا حملات تشويه إعلامية قوية مضادة. الحكومة المصرية اعتبرت موقف الحكومة السودانية المنتخبة السالب من الترتيبات التي عقدها معها النظام المايوي من تكامل ودفاع مشترك موقفا معاديا وتصرفت معنا بعدم الرضا واستنبتت المشاكل. حكومة منقستو في أثيوبيا قوضت محاولات الحل السلمي للحرب الأهلية لأنها كما أوضح لي وزير خارجيتها آنذاك قال “لا يمكن أن نكرر خطأ الإمبراطور في تسهيل إبرام السلام في السودان كما فعل عام 1972م دون مقابل مما مكن نظام جعفر نميري من دعم السياسات الأمريكية المضادة لأثيوبيا في البحر الأحمر ودعم الثورة الإريترية ضدنا. لذلك لن نسمح بسلام في السودان مع جنوبه إلا مقترنا بسلام في أثيوبيا مع شمالها”.
  2. نظام “الإنقاذ”: يتحدث الناس عن الحكومات المتعاقبة وعن إنجازاتها واخفاقاتها. النظم الانقلابية استولت على السلطة بوسائل غير مشروعة هذا هو إخفاقها الأساسي ولا يشفع لها ما فعلت أو تركت. ما لم نضع هذا المقياس فإننا بذلك نقنن الوسيلة الانقلابية في الواقع.  لقد تناولت الحديث عن نظام “الإنقاذ” في مجالات أخرى ولكن يهمني هنا أن أثبت له ثلاث إنجازات هي: استغلال البترول السوداني- إبرام اتفاقية نيفاشا للسلام- قبول مبدأ التحول الديمقراطي السلمي في السودان. أما البترول السوداني فإن إيراداته استغلت بطريقة شبيهة بما حدث في نيجريا وهي تشجيع إهمال مصادر الثروة المتجددة الزراعية والصناعية،  ورفع درجة الفساد المالي في البلاد إلى مستوى جعلها في نظر الخبراء الأكثر فسادا في العالم العربي وفي العشر الأواخر في العالم.

أما اتفاقية نيفاشا فإنها أوقفت الحرب الأهلية في بعض جبهاتها ولكن إبعاد القوي السياسية الأخرى منها قوض قوميتها وحصر هيكلها في مكاسب ثنائية قفل باب الاتفاق مع جبهات اقتتال أخرى بناءا على ما حققت من سابقة للجنوب.الاتفاقية بشكلها الحالي سوف تتعثر حتى في إطارها الثنائي وتخلق استقطابا سياسيا حادا في البلاد وتمنع مفاوضات السلام الأخرى من أي تقدم حقيقي. بل تعطى دافعا حقيقا للتطلع أن يسيطر السودانيون على عملية سلام بلادهم من قادة عسكرين عينوا أنفسهم أوصياء بموجب وضعهم العسكري وغفلة شركاء دوليين أعمتهم الرؤية قصيرة النظر عن رؤية الجدوى والشمول. الأنانية الداخلية والغفلة الخارجية كلاهما ساهم في عدم سماع الصوت القومي السوداني.

مبدأ قبول التحول الديمقراطي السلمي محمدة ولكن النظام حتى الآن يسير فيه بفقدان تام للرؤية الاستراتيجية وانقباض شديد عن دفع استحقاقاته كما ينبغي.

وأهم إخفقات النظام ثلاثة:

أولاً: التطبيق الحزبي السلطوي للإسلام مما ربطه بالاستبداد والتخبط وأضافه شاهدا آخر لشواهد تشويه الإسلام كما حدث في باكستان وأفغانستان وغيرهما.

ثانياً: التوظيف الأمني للجهاد والسياسات الداخلية الأخرى التي حرصت على إقصاء الآخرين أدت في النهاية إلى تفتيت الوطن بصورة غير مسبوقة وإلى ظواهر لم يعهدها السودان من قبل هي:الإثنية المسيسة ـ والحزبية المسلحة ـ والجهوية المتحالفة مع الخارج. والمآسي الإنسانية التي استباحت السودان لأوسع درجات التدويل.

ثالثا: السياسات التوسعية الخارجية في الماضي، والاخفاقات الداخلية، وفجوة الثقة بين طرفي التفاوض في نيفاشا أدت إلى جعل السودان محمية دولية بل وجعلته الآن مسرحا لعدد من الجيوش الأجنبية بعضها برضاء الحكومة وبعضها برغم أنفها.

  1. الرئاسة والإمامة: انتخبت لرئاسة حزب الأمة في عام 1964م بعد إعادة تكوين حزب الأمة نتيجة لثورة أكتوبر 1964م. بعض الناس يظن أنني قدمت للرئاسة من أسرتي. العكس تماما هو الذي حدث ففي الاجتماع التأسيسي لإعادة تكوين الحزب رشح للرئاسة السيد محمد أحمد محجوب شخصان هما عمي السيد أحمد المهدي وثناه السيد محمد داؤد الخليفة. وكانت المبررات التي قدمها الذين رشحوني هي دوري القيادي في معارضة النظام العسكري الأول وقد كنت أثناءه الأمين العام لجبهة المعارضة الوطنية ودوري القيادي في ثورة أكتوبر التى حققت التحول الديمقراطي وفي ذلك الاجتماع صوت كبار أسرتي ضدي. أعيد انتخابي رئيسا لحزب الأمة مرة أخرى في مؤتمر الحزب العام في 1986م وكانت المبررات التي قالها المؤيدون هي دوري في مقاومة نظام مايو وفي ثورة رجب/أبريل 1985م. وجدد انتخابي بالإجماع هذه المرة في مؤتمر الحزب السادس في أبريل 2003م وكان المبرر دوري في قيادة الحكومة الديمقراطية، وفي التصدي لاستبداد نظام “الإنقاذ” فكريا وعمليا. الحقيقة أن انتخابي لرئاسة حزب الأمة لم يكن بتدبير من أسرتي ولم يكن تلقائيا بل كان باستمرار خاضعا لمراجعة وحيثيات متجددة. ومع أن الفترة بلغت الآن 41 عاما فقد كان الحزب كله معطلا لمدة 27 سنة هى عمر النظامين الشموليين. إذا عددنا 16 سنة لعهد مايو وإذا اعتبرنا أن شمولية الإنقاذ انتهت عمليا عام 2000م.

الجماهير لا تعطي ثقتها وحبها وتأييدها مجانا. الثمن الذي تتقاضاه هو العطاء والتضحية. حرصت حرصا شديدا منذ مقتل الإمام الشهيد الهادي المهدي واتجاه أنظار الأنصار نحوي للقيادة بحكم الأمر الواقع أن أكون مؤسسة ذات شخصية اعتبارية للأنصار مؤسسة تقوم على المشاركة والمساءلة والإدارة الدستورية. وفي سبيل ذلك قاومت محاولات أفراد قياديين في أسرتنا أرادوا أن يؤخروا عقارب الساعة نحو إمامة أبوية. وقاومت مؤامرات الشمولية الأولي (مايو) والشمولية الثانية(الإنقاذ) لاختراق أو تعطيل كيان الأنصار أو تدجينه.

نظام مايو ونظام الإنقاذ على طول عمرهما تآمروا ضد كيان الأنصار في السودان لا سيما في الجزيرة أبا ، وحاولوا دائما إبعاد كيان الأنصار من المركز العام في مجمع بيت الإمام المهدي وحاولوا دائما إبعاده من المسجد الذي أسسه الإمام المهدي في البقعة وشيده خليفة المهدي بعده وسمي مسجد الخليفة وهي تسمية جاريتها مع أن الحقيقة هي أنه مسجد المهدي، جاريتها لسببين:

الأول: لأحياء ذكر الخليفة الذي نال من الإساءة أكثر مما كيل للإمام المهدي.

الثاني: لكيلا أدعم خطة الاستعمار في التفريق بين المهدي وخليفته وهي خطة برمجوا عليها كثيرا وتبعهم في ذلك بعض الطامعين. ومع ذلك كنت أقاوم نصائح كثيرين على رأسهم السادة أمين التوم ، صلاح عبد السلام ، عمر نور الدائم ، الحاج عبد الرحمن نقد الله، تبيرة هباني . لأتقدم  لبيعة الإمامة . كانت حجتي:

أولا: الإمامة بموجب وصية الإمام الصديق يجب أن تكون انتخابية.

ثانياً: نحن نتطلع لدور قومي داخل السودان ودور إسلامي عام خارج السودان والإمامة تحبس صاحبها دون ذلك.

ثالثاً: الإمامة بمقياسي تحتاج لدرجة من التأهيل لم أبلغها.

ولكن محاولة  ” الإنقاذ ” اختراق كياننا علت كثيرا في عام 2002م وربطوا بالاختراق السياسي اختراقا أنصاريا بل بدا كأن دولة عظمى دخلت في حلبة الإمامة.

هذه العوامل حرضت عناصر كثيرة في كيان الأنصار على العمل الدؤوب لعقد مؤتمر هيئة شئون الأنصار الأول ولم يكن بتدبيري بل كانت ملاحظتي للمكتب التنفيذي للهيئة أننا لا نستطيع أن نعقد مؤتمر الهيئة إلا بعد الفراغ من مؤتمر الحزب، ولكنهم طالبوني بالموافقة ودعم ما يفعلون وأنهم قادرون على عقده ففعلت وفعلوا. وكان لسيدنا الراحل عبد الله اسحق والأمير عبد المحمود أبو دور مفتاحى في تحقيق ذلك. وقبل انعقاد المؤتمر نظمت هيئة شئون الأنصار ورشة لبحث أجندة المؤتمر لا سيما موضوع الإمامة. وكتب السيد عبد الحميد الفضل ورقة فحواها تجاوز موضوع الإمامة مؤقتا، ووجدت ورقته تأييدا منى. ولكن إشفاق قواعدنا من خطر التدابير المضادة عبأ الكافة لحسم موضوع الإمامة بقرار من المؤتمر رغم تحفظاتي، فدفعوني إليها دفعا وحق لي أن أقول: “هجمت عليّ الإمامة”. طورت نص البيعة لأدخل فيها الشورى، وحقوق الإنسان، والطاعة المبصرة وبعدها التزم بمفرداتها من جانبي وأرجو أن يوفق الآخرون للوفاء بالجانب الآخر لأنها التزام من طرفين. ومنذ إبرامها شهدت من التزام الطرف الآخر “الأنصار” ما يسر ويفرح.

  1. . محنة الدين والوطن: لا أحد ينكر أن الإسلام يمر بمرحلة أشد خطورة من أية مرحلة مضت تستهدفه الصهيونية العالمية والهيمنة الدولية: الغزاة. ويحاول اختطاف مستقبلة من أهله الغلاة. ويعيق حركة شعوبه الطغاة. ولا بد من فكر وحركة قادرين على حمايته واستنهاض دوره الحقيقي في توجيه الصحوة الدينية لدى أهله وتزويد الإنسانية كلها بعطائه.

ولا أحد ينكر أن السودان يمر بمرحلة أشد خطورة من أية مرحلة مضت. يواجه في آن معا مخاطر التشظى والوصاية الخارجية. ولا بد من وحدة وطنية تنقذه من هذه المخاطر وتحقيق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الذي يربط بين الديمقراطية والتوازن والنهضة التنموية ذات الأهداف العدالية.

المحور الرابع: إخفاقاتي: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[5]. محاسبة النفس محمدة . ابن آدم خطاؤون ومن ادعى العصمة أو الكمال فقد سقط.  روى صاحب الكامل أن قتادة قال: ( ما سمعت شيئا قط إلا حفظته. وما حفظت شيئا قط فنسيته. ثم قال يا غلام هات نعلى) فقال الغلام: هما في رجليك ففضحه الله. وفي ذات يوم قال لي العميد الراحل يوسف بدري: يا فلان ما سمعتك تتحدث في موضوع إلا وردت فيه ضمن حديثك نبرة اعتذار كأنك تتهم نفسك! ومهما كان تحصيلي أنفر نفسيا عن كل من تحدث في موضوع بخيلاء مثلما تحدث المتنبي:

إن يكن عجب فعجب عجيب              لا يري فوقه من مزيد

وأجد راحة نفسية في دعوات راتب الإمام المهدي لأن فيها كسبا روحيا بإحصاء حالات الضعف البشري لا سيما قوله: “اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه، أدعوك آمنا وأسألك مستأنسا فإنك المحسن إليّ وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك، تتودد إلى بنعمك واتبغََّض إليك بالمعاصي، ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك، فعد بفضلك وإحسانك على إنك أنت التواب الرحيم”.

  • دار بيني وبين أحد زملائي الأخ الدرديري إبراهيم نقاش ذات يوم ونحن طلاب في كلية الخرطوم الجامعية. وكان يقول إن الناس يمكن إن يعملوا باطلا حتى إذا عرفوا الحق. وكنت أقول متى عرف الناس الحق فإنهم سوف يتبعونه. وبعد ذلك بسنوات وجدت نفس الاختلاف بين أفلاطون الذي قال بما يشبه رأيي وسقراط الذي قال بما يشبه رأيه إذ قال لا تكفي معرفة الحق والباطل بل ينبغي أن تتوافر إرادة إحقاق الحق وهذه تحول دونها عوامل واعتبارات ومصالح. ووجدت في كتاب الله ما يدعم هذا الرأي: قال تعالي:( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[6]) افتراض أن الناس تقف مع الحق بمجرد معرفتهم لذلك افتراض أوقعني في كثير من المشاكل لا سيما في نطاق الحياة العملية.
  • تعليمنا لا سيما في الغرب جعلني أعتقد أن الديمقراطية المعيارية نظام حتمي وأن الالتزام به منتظر من كافة الأطراف. لم أتبين بالسرعة الكافية أن كثيرا من النخب السياسية تعتبر الديمقراطية القائمة على الصوت الواحد للشخص الواحد منافية لمقاصد الديمقراطية لأنها تعتمد على ولاءٍ “طائفيٍ” أو “عشائريٍ”.. هذه الذهنية تجد تجاوبا لدى كثير من ضباط القوات المسلحة. وهي المسئولة عن أيديولوجيات الوصاية. وعن بعض الإضرابات السياسية. وعن الانقلابات العسكرية. وكنت أحسب أن الغرب تلقائيا منحاز للديمقراطية بينما الحقيقة أنه يفضل من يخدم مصالحة بصرف النظر عن الشرعية الديمقراطية لأن القيادات الديمقراطية لا تستطيع تخطى مصالح ناخبيها. ولأنها لا تقبل التعامل مع الدول الكبري ما لم يؤسس على عدالة. افتراضاتي في هذه المجالات كانت خاطئة وأوقعتني في كثير من المشاكل.
  • حسبت أن الناس يتطلعون لعلاقات معقولة ولكن الحقيقة أن بعضهم عاطفيا يعتقدون أحيانا عقائد في غاية الغرابة والشذوذ وكذلك يلتزمون بولاءات عاطفية لرحم أو عشيرة مجردة تماما من المعقولية وفي غاية الغرابة. في كثير من الأحيان لدى البشر العقل خادم للعاطفة والعاطفة لدى شخص ما يمكن أن تكون غريبة جدا لغيره.
  • هنالك نوعان من السلوك الأخلاقي. السلوك الأخلاقي الفردي المنضبط في حرمة الخمر والميسر والعلاقة بالجنس الآخر ومرعاة المظهر السائد في المجتمع. والسلوك الأخلاقي الاجتماعي في قول الصدق، وعفة اليد، والوفاء بالوعد، والتواضع، والحكمة ، واحترام الآخر ..الخ. والإنسان مطالب باحترام النوعين من السلوك إلا أن المجتمع الأكثر تطورا يعطي الأخلاق الاجتماعية قدرا أكبر من القيمة والعكس تماما في المجتمع التقليدي فإنه يعلى شأن القيم الفردية. أنا أوافق على إلزامية النوعين من السلوك وأقدم الالتزام الاجتماعي مما سبب لي متاعب وفتح أبواب الغمز واللمز.
  • لم أدرك بالقدر الكافي مخاوف المصريين من احتمالات الضرر الذي قد يصيبهم في السودان: العقدة التي خلقها الإنجليز بعقاب مصر بإجراءات في السودان، لدرجة يرحبون فيها بأي كلام معسول من أية جهة سودانية بصرف النظر عن صدقيتها ويتهمون وجهات النظر الأخرى. كما أننا ننزع من خلفية تتهم المصريين بأجندات خاصة في السودان، هذه الكيمياء المصرية السودانية فاتني أثرها وهي مازالت مفتقرة لتطبيب جوهري.
  • كنت ولا زلت على المستوي العقلاني من أكثر الناس مبادرات بشأن تحقيق علاقات عدالة وتوازن مع الجنوب والجنوبيين. واستطعت أحيانا أن أكون علاقات صداقة وثقة متبادلة مع كثير منهم على نحو ما كان بيني وبين المرحوم وليم دينق. ولكن الخلفيات الثقافية والاجتماعية السائدة في السودان غطت بسلبياتها على الإيجابيات العقلانية في كثير من الأحيان، ولوثت علاقاتي مع كثير من الجنوبيين.
  • النظم الاستبدادية عاملتنا كأننا مجرمون مع أننا لم نرتكب خطأ يستحق هذه المعاملة بل هم الذين ساقهم الطمع والوهم لخرق الدستور والقانون. هذا الظلم الفادح جعلنا نلجأ للتعاون مع دول أجنبية ضدهم. وفي مذكراتي لعام 1998م وبعد أن علمت حجم تعاوننا مع جهات غير سودانية أسفت كثيرا ودونت الأسف وقلت لو كنت أعلم أن الأمر سيبلغ هذا الحد لما أقدمت عليه. وصار من بعض نقماتي على هذه النظم أنها أجبرتنا على أمور نرفضها ونأباها.
  • ومن أكبر الأخطاء تصديق وعود الطغاة لأنهم لا يقدمون عليها إلا كجزء من حل لمشكلة فإن حلت فإنهم يتنصلون تماما من وعدهم وهذا ما حدث من أمر تصديقنا لوعود جعفر نميري بإجراء الإصلاحات المطلوبة لبرنامج المصالحة فتخلى عنها وتخلينا عنه. ومع ذلك فإن المصالحة نفسها مع أنها لم تحقق أهدافها مهدت الطريق بما أتاحت من حريات نسبية لانتفاضة رجب أبريل 1985م.
  • استمرت صحيفتا الأيام والصحافة تصدران كصحف قومية أثناء الفترة الانتقالية. ولكنني بعد تكوين الحكومة الائتلافية تفاهمت مع أصحابهما لإصدارهما بعد رفع الحكومة يدها عنهما. وكان ينبغي أن يستمر صدورهما إلى أن تنتقلا إلى إدارة أصحابها . ولكن هذا لم يحدث، وأدت الفجوة إلى ترك فراغ صحافي كبير ملأته الصحافة الملغمة.

لا شك إن هذه الأخطاء حسبت علىّ بصورة أو أخرى ولكن يبدو أنها لم تذهب بالثقة الشعبية في شخصي، لعل الذي شفع لي وغطى على أخطائي ما يكرره لي كثيرون وهو: أنك كنت  المواجه الأول للطغاة المتعرض لبأسهم وبطشهم ـ إنك صرت المدافع الأول عن الديمقراطية والحرية ـ إن يدك خالية من دماء الأبرياء ـ وجيبك خال من المال العام وأموال الآخرين.

المحور الخامس: إنجازاتي:

  • الطريق الثالث: منذ اطلاعي على الخلاف الفكري السياسي في كلية الخرطوم الجامعية ظهر لي إن أهم تيارين هما الإخواني والشيوعي، وأن الأول ضحى بالتحديث من أجل التأصيل، وأن الثاني ضحى بالتأصيل من أجل التحديث. وأن الطريق الصحيح هو اعتبار الأصل والعصر جزءا من معادلة جدلية لكل طرفيها حقيقة موضوعية وأن المطلوب هو إيجاد معادلة لتوفيق هذه الجدلية بحيث يكون لوفائنا مستقبل. هذا الموقف جلب لي تقدير بعض الإسلاميين ونقمة جماعاتهم المنظمة. وذلك لأن هذه الجماعات أسست خطابها على أن القوى التقليدية ميتة لترثها فما بال الصادق يحاول إحياء الموتى وبالتالي حرماننا من الميراث؟ وجلبت لي بعض تأييد قوي اليسار على أساس أنني أقود اليمين بتقدمية اليسار. ولكن اليسار المنظم نظر لي في نطاق صراع السلطة ولدى مشاركتهم في السلطة أثناء الفترة الأولي من العهد المايوي سيروا مظاهرات ضدي هاتفين: لا تحفظ بل إعدام!!.

ورغم ذلك ثابرت على هذا الطريق الثالث الذي يبدو الآن أن ما تعلمه الطرفان من الأيام جعلهما أقرب إليه.

  • الوزارة الأولي(1966م ـ 1967م)

اتخذت فيها نهجا جديدا وأشركت فيها جيلا جديدا بأسلوب شرعي لا انقلابي وغرست نهج الحل السلمي للحرب الأهلية، النهج الذي تأسس على مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الإثني عشر، ومؤتمر كل الأحزاب السياسية وعبرها وضع برنامج الحل السياسي للحرب الذي تبناه فيما بعد نظام مايو وبشهادة أحد مهندسي الاتفاقية الأستاذ محمد عمر بشير كان أساس اتفاقية السلام 1972م.

واتخذنا نهجا أكثر مهنية في التعامل مع قضية التنمية بإشراك السيد حمزة ميرغني وزيرا مستقلا للمالية.

واتخذنا نهجا أكثر التزاما بمواجهة المظالم الإقليمية بالتحالف مع السيد وليم دينق عن الجنوب ومشاركة السيد أحمد إبراهيم دريج رئيس جبهة نهضة دار فور سابقاً.. تحالف ومشاركة انعكسا إيجابيا في برامج حكومتي الأولى.

واتخذنا نهجا منفتحا للأقاليم بمشاركة أبنائها في السلطة المركزية. وبتكثيف الحضور الحكومي في رئاساتها بصورة أشبه بنقل مجلس الوزراء للانعقاد في رئاسات المديريات. هذا النهج الجديد جعل كثيرا من الأقلام المستقلة تتحدث عن غلبة تيارنا ولدى سقوط وزارتي ذهبت لأجمع أوراقي من مجلس الوزراء فقابلني أمين الرئاسة السيد حسن حسين على رأس موظفي الخدمة المدنية في رئاسة مجلس الوزراء وكان أغلبيتهم محايدين وقالوا لي نحن نأسف إذ نقول لك إن السودان ما عنده حظ فمن يعزيه في هذه الخسارة. وجاءني في منزلي أحد أهم الشخصيات الوطنية الواعية المستقلة السيد عبد الحافظ عبد المنعم وقبل يدي باكيا وقال لي ظلموك يا سيدي!. وكتب أحد أعلام الصحافة السودانية المستقلة الأستاذ سيد أحمد نقد الله: فقد السودان أنجح رئيس وزراء عرفه!

  • الوزارة الثانية: 1986- 1989م

أولاً: أقمت تكوينا وزاريا ممثلا للطيف الجهوي السوداني لدرجة أن أحد أصحاب الملح نكـّت في جريدة: أبكر ـ آدم .. الخ هذه وزارة أم سكن عشوائي؟

ثانياً: دعونا لمؤتمر اقتصادي قومي واتخذنا من توصياته أساسا للتنمية وإصلاح ما أفسدته مايو.

ثالثاً: جعلنا إصلاح التعليم العام والعالي مستمدا من مؤتمرات قومية واتخذنا من توصياتها برامجنا.

رابعاً: اعتبرنا قضية السلام قضية البلاد القومية وفي النهاية تجاوزنا الخلافات حول المبادرة السودانية (الميرغني/قرنق) واتفقت القوى السياسية والنقابية على برنامج القصر (29 حزبا ونقابة) واتفق على عقد المؤتمر القومي الدستوري في 18/9/1989م.

خامساً: حاولنا جعل مشروع الأسلمة أيضا قوميا ومع التوتر بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية قطعنا شوطا في هذا الطريق لولا أن الجبهة قطعت الطريق أمام الجميع بالانقلاب في 30/6/1989م.

سادساً: ركزنا على لامركزية حقيقية وجعلنا أبناء الأقاليم المختلفة يديرون أقاليمهم بصورة أشبعت تطلعاتهم وصار المناخ الإقليمي صحيا للغاية.

سابعاً: كان الأداء الحكومي البرلماني ناجحا وفي يوم 29/6/1989م في المساء كان نقاش الميزانية العامة قد اكتمل وعندما طلب رئيس الجمعية من الأعضاء المؤيدين للميزانية أن يقفوا وقف كل أعضاء الجمعية بالإجماع. ولكن كان أعضاء الجبهة الإسلامية القومية قد سجلوا غيابا من الجمعية ضالعين في التآمر الذي وقع بعد ذلك والذي أدي للانقلاب الذي لا شك الآن أن صنـّاعه نادمون عليه غاية الندم لأنه فتح على السودان أبواب جهنم. الطريف أنني بعد أن وقف الجميع تأييدا للميزانية قلت لوزيرالمالية الأخ عمر نور الدائم وكان جالسا بجانبي قلت له : هذا المنظر سوف يسحر !! قال لي: أعوذ بالله.

  • ماذا بعد انقلاب ” الإنقاذ “؟
    • كانت القوى السياسية كافة في سجن كوبر وتفاكرنا واتفقنا على مواصلة اتحادنا الذي كوناه حول برنامج القصر الانتقالي والذي قوضه الانقلاب. هكذا ولد التجمع الوطني الديمقراطي.
    • سعينا لضم الحركة الشعبية لهذا التجمع وتحقق ذلك وعقدنا المؤتمر الأول للتجمع في أسمرا في يونيو 1995م وأدي ذلك لإصدار القرارات المصيرية التي ساهم حزبنا فيها بالنصيب الأوفر.
    • قرارات مؤتمر أسمرا وما تبعها من عمل ثم تهتدون في 1996م أدت إلى حصار نظام الإنقاذ لذلك بدأ منذ عام 1997م التخلي عن أجندته الأيديولوجية.
    • اقتنعنا أن النهج الجديد أدى لتطبيع علاقات النظام السوداني مع دول الجوار وأدى إلى السماح بهامش حرية واقترحنا على التجمع أن تستمر المواجهة مع حملة السلاح منا إلى أن يبرم اتفاق سياسي، على أن يتجه الآخرون لخلق جبهة نضال سياسية في الداخل بأسلوب الجهاد المدني. رفضوا ذلك فاتجه حزب الأمة للداخل واستطاع أن يعيد بناء مؤسساته ديمقراطيا دون تفريط في مبادئه. الأحزاب السياسية الأخرى في التجمع راهنت على أن الحركة الشعبية وجيشها سوف تحقق نصرا شاملا يشاركون فيه أو أنها عبر التفاوض سوف تحقق للتجمع مركزا ممتازا. الحركة الشعبية في مرحلة لاحقة تفاوضت ولكنها تفاوضت ووصلت لاتفاقية السلام كحركة شعبية وليس كرافد للتجمع.
    • بعد اتفاقية سلام نيفاشا فإن جماعتنا هي التي تولت النقد الأساسي للاتفاقية والتوجه لبناء تحالف عريض لمعارضة التحكم الثنائي ولتحقيق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي.
    • أغلب المفردات الوفاقية التي وردت في اتفاقية السلام كانت في الأصل من مبادرات حزب الأمة وهذا موثق: قبول تقرير المصير أساسا للوحدة الطوعية ـ المواطنة أساس للحقوق الدستورية ـ التعددية الدينية ـ التعددية الثقافية ـ حقوق الإنسان الدولية جزء من الالتزام الوطني.
    • المبادرات بشأن دارفور منذ اندلاع الأزمة الأخيرة اتصلت حتى وصلت إلى توقيع الوثيقة القومية الأخيرة. ومهما طال الأمد فإن الحل السياسي الشامل في دار فور سوف يكون وفق ما ورد في هذه الوثيقة.
    • احتواء كافة الاختراقات المضادة لحزبنا بصورة سلمية وناجحة تركت الجسم الأساسي للحزب قويا ومتوسعا وكافة المحاولات في حالة من الحصار والتشظى.

المحور السادس: رسالتي: أستطيع أن أقول إنني جددت العلاقة مع قاعدتي الشعبية على أساس متجذر في الماضي ومتجاوز له. واستطعت أن أفتح جسور تواصل فكري وسياسي واسع مع الآخرين بحيث أصبح موقفي متجذرا حزبيا وأنصاريا متصلا قوميا وأمميا.  نعم هنالك نقـّـاد وهذا طبيعي فلا يوجد شخص بدون عيوب أو لا يخطئ، وأنا أرحب بالنقد الذي ينطلق من البحث عن الحق والموضوعية إذ “رحم الله امرئً أهدى إليّ عيوبي” كما قال عمر رضي الله عنه، ولكن بعض هؤلاء سدنة الشمولية، أو أسرى الأصداء التاريخية ، أو الذين ينتقدون الآخرين كوسيلة دفاع عن عجزهم:

وأجرأ من رأيت بظهر عيب  على عيب الرجال أولي العيوب

إنني أطرح الآن فكرا معتدلا ذا أصداء عربية وأفريقية وإسلامية وعالمية وأسعى لتكوين منابر وهيئات للتعاون في تلك المجالات. والسؤال تعاون من أجل ماذا؟ من أجل:

  1. إخراج المهدية من ظلال الطائفية إلى رحابة الدعوة الإسلامية العريضة.
  2. إخراج الإسلام من الفهم النقلي المنكفئ، ومن نقيضه التبرء الوافد المستلب، وإلى الصحوة والمساهمة في البناء الإنساني.
  3. وضع أسس قومية وعالمية للتنمية والتعاون القومي والدولي من أجلها.
  4. وضع أسس قومية وعالمية للتحول الديمقراطي والتعاون القومي والدولي من أجلها.
  5. أما بالنسبة للسودان تحقيق:
    • دستور قومي ديمقراطي.
    • بناء سلام عادل وشامل.
  6. وفي نطاق حزب الأمة تطوير المؤسسية والديمقراطية والطابع القومي إلى أعلي درجة ممكنة.
  7. إحكام تجاوز الأنصار لكافة علائق ” السلطنة الزرقاء ” إلى علاقات حديثة ومتجذرة في ماضيها.
  8. بناء العلاقات مع الآخر الدولي والملي على أساس المصلحة الذاتية والتعاون المشترك.

هذه الأهداف طبعا لا يمكن تحقيقها بدون تفهم وتعاون ومشاركة واسعة من الآخرين الذين لا يفتر جهدي من مشاركتهم الواسعة.

المحور السابع: الأنموذج القدوة:

قيل لسقراط أنت تقول يا حكيم إن الفضيلة وسط بين رذيلتين، فالكرم وسط بين البخل والإسراف والشجاعة وسط بين الجبن والتهور وهلم جرا، فأعطنا مقاييس نعرف بها المعادلة الصحيحة!. قال لهم: هذا مستحيل ولكن الإنسان الحكيم يدرك بحكمته أين الوسط الذهبي . وما  عليكم إلا أن تبحثوا عن حكيم وتقلدوه.

لذلك عندما أتحدث عن أعلام موتانا أحاول أن انتزع القدوة من سيرتهم. وأما بالنسبة لي والقدوة التي أريد غرسها فتبدأ بدعوة إلى أن سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية تكمن في إشباع موزون لعشر ضرورات هي: روحية ـ مادية ـ عاطفية ـ عقلية ـ اجتماعية ـ أخلاقية ـ جمالية ـ رياضية ـ ترفيهية  وبيئية.

وأرى أن عدم الإشباع المتوازن لها ينعكس سلبا في اتزان الشخص النفسي وفي توازن المجتمع. إن على الذين يعملون في الحقل العام أن يدركوا هذه الحقيقة لمراعاتها في أنفسهم وفي مهامهم التربوية نحو الأجيال الجديدة.  نعم للإنسان أن يتخذ مهنة ويجيدها وأن يتخصص في مجالات معينة ولكن ينبغي ألا ينسي إنسانيته ومطالبها العشرة.

نعم للتخصص في الشأن السياسي ولكن إذا حبس الإنسان نفسه في صراع السلطة مشاركا أو معارضا فإنه يفقر نفسه ويفقر السياسة. نعم للتدين ولكن إذا حبس الإنسان نفسه في المسجد أو في الامتثال للنقليات فإنه يفقر نفسه ويفقر الدين.

لقد سعيت وسوف أواصل إلى ما شاء الله الالتزام بمنهاج الضرورات والإشباع المتوازن، سيرة أسجلها بواقع حياتي وسوف أدون تفاصيلها للآخرين وأوجه عناية خاصة بالناشئين في كتابي “أيها الجيل” إن الحياة حصيلة ومادة جهد ومشتقاتها من جهاد واجتهاد تحقق معانيها. وفي هذه المرحلة من حياتي أقول لقد غرست غرسا أرجو إن يثمر في مقبل الأيام أجنيه أو يجنيه آخرون.

ومثلما للأنا وجود حقيقي في الوجدان فإن في الوعي البشري وفي العقل الباطن وجوداً لـ”نحن”..  الواحد منا امتداد جيناتي لأسلافه، كما هو حتما عضو في جماعة تراثية الانتماء، إيمانية ، أو فكرية، أو مصلحية.

إننا حتى نهاية هذا العالم عُمـّاره، يأخذ الموت جزءا ماديا منا ولكن جزءا آخر يبقى في جيناتنا. وأعمالنا تبقي في الدنيا بجودتها مثلما تبقى أرواحنا في الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. بكى يائس المعرة:

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب                       فأيـــن القبور من عهد عاد؟

سكان تلك القبور يا صاح كامنون في بدنك، وفي أبدان جيلك متنقلون في الأجيال من صلب إلى رحم إلى وجود. كامنون معرفيا، أنت وهم، في الثقافة التي أشرقت فيها وأرسلت الشعاع جيلا بعد جيل.

قال: أكثر المفسرين إن الآية: (ِإنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[7]. هي إحصاء للغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وفي هذا المجال فتن العلم الحديث، الذي اكتشف وسائل لمعرفة نوع الجنين، فتن بعض من تلقى ذلك التفسير، ولكن أقول هذه الآية شاهد آخر على إعجاز القرآن لأنها قالت إن الله ينزل الغيث، وأنه يعلم ما في الأرحام، ولكنها لم تقل إن غيره لا يفعل ذلك. ولكنها في الأمور الثلاثة الأخرى أكدت أنه لا يعلمها إلا الله: عنده علم الساعة ـ ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ـ ولا تدري نفس بأي أرض تموت.

في نهاية هذا العام الأول لإبرام اتفاقية نيفاشا تكاثرت الغيوم على بلادنا ظلمات بعضها فوق بعض. وهذا هو المناخ الدافع لجميعنا  استنهاض قدراتنا الروحية، والفكرية ، والمادية، للخلاص الوطني وأضيق الأمر إن قدّرت أوسعه.

 

 

[1]  سورة الحج الآية 5

[2]  سورة آل عرمان الأية 159

[3]  سورة الأعراف الآية 199

[4]  سورة الحج الآية27

[5]  سورة القيامة الآيتان 1و 2

[6]  سورة النمل الآية 14

[7]  سورة لقمان الآية 34