مجلس الأمن في الخرطوم

بسم الله الرحمن الرحيم
مجلس الأمن في الخرطوم
11 يونيو 2006م

لو أن أشياخنا في الديانة والوطنية شهدوا الخرطوم تحت الوصاية الدولية، ولو أنهم شهدوا أطراف السودان تتمزق كما يجري الآن في ربوع البلاد لاطمأنوا حقا على أن باطن الأرض خير من ظاهرها، ولتشككوا في قيمة التضحيات في الأنفس والأموال والثمرات التي بذلوها ليحرروا السودان وليوحدوه مرتين في تاريخه الحديث في 1885 وفي 1956!
لا يستطيع وطني مهما اتسعت ذمته الوطنية أن يمسك دموعه وهو يرى السودان منذ أربع سنوات تحت الحماية الدولية بموجب الفصل السابع. هنالك وجود دولي في جبال النوبة منذ 2002، ووجود دولي في جنوب النيل الأزرق وجنوب السودان والخرطوم لحراسة اتفاقية نيفاشا منذ 2005، هذا الوجود تحت الفصلين السادس للحراسة، والسابع لحماية القوات نفسها.
هذا الوجود الدولي المكثف هو مقياس عجز الإدارة الوطنية التي صنفت حسب مقاييس معينة الأكثر عجزا في العالم. وأهم مظاهر عجز الإدارة الوطنية، الانفلات الأمني المتسع في الجنوب رغم وقف إطلاق النار بين قوات المؤتمر الوطني والجيش الشعبي، فالنزاعات تدور حول مآل قوات دفاع جنوب السودان، والمليشيات القبلية، والموقف من جيش الرب الأوغندي. أما في دارفور فإن الانفلات الأمني خارج النزاع بين الحكومة السودانية وجيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وغيرها كان واضحا لكل ذي عينين. ولكن بعد اتفاق أبوجا الناقص انطلق التشظي بين القيادات السياسية والميدانية وبين الأحزاب المسلحة، كما أن التوتر بين القبائل العربية وغير العربية ارتفع نوعا وكما.
منذ أربع سنوات وباستمرار بعد ذلك، كنا نقول بإلحاح شديد، إنه ما لم تحسم قضايا الوطن بصورة شاملة وعادلة ومنهجية، فإن التدويل والتشظي قادمان للوطن. ولكن القائمين على الأمر في السودان سفهوا كل رأي آخر، وحصروا قضايا المصير الوطني من سلام وحكم في أنفسهم ـ أي الانقلابيين ـ وفي حملة السلاح، أي في الخارجين على القانون بالانقلاب العسكري أو بالانتفاضة المسلحة.. نعم إن الاتفاق بين هؤلاء ضروري، ولكنه وحده ليس كافيا لبناء السلام وحسم أزمة السلطة في البلاد.
الأسرة الدولية تتابع وتحصي تدهور الحالة السودانية، وترى كيف أن عجز الإدارة الوطنية قد أدى لنقل كثير من مهام الإدارة الوطنية لجهات دولية، لا سيما في دارفور، حيث أوكلت مهام كثيرة للقوات الأفريقية.
الأسرة الدولية تتابع الحالة في دارفور، وأمامها تقارير عن الانفلات الأمني، وعن انسحاب منظمات الإغاثة الإنسانية بسبب غياب الأمن وترى استعصاء القوات غير النظامية على نزع السلاح، كما ترى تخوف النازحين في معسكراتهم من هجمات، كما ترى التهاب مشاعر النازحين ضد كل شخص يعتبرونه من الذين اعتدوا عليهم.
أعلن الاتحاد الأفريقي عجزه عن احتواء هذا الانفلات الأمني، وقبل من حيث المبدأ، تحويل المهمة للأمم المتحدة. وفي لقاء ممثلي الأسرة الدولية مع نائب رئيس الجمهورية السودانية في بروكسل، أعلن الأخير أنهم لا يمانعون في تحويل المهمة التي عجز عنها الاتحاد الأفريقي للقوات الدولية بعد التوقيع على وثيقة سلام دارفور.
واصل التوسط الأفريقي عمله لإبرام اتفاق أبوجا. كانت المفاوضات متعثرة لأن مفاوض المؤتمر الوطني حرص على الإبقاء على سياسات نظامه في دارفور كما هي ـ الإبقاء على تقسيم الإقليم مثلا ـ وحرص على ألا يمس اتفاق دارفور سقوف اتفاق نيفاشا.. وفي النهاية وتحت الضغط الأفريقي والدولي، وقع السيد مني أركو ميناوي على وثيقة سلام أبوجا.
هلل النظام السوداني والاتحاد الأفريقي والأسرة الدولية له، واحتجوا به على الحكومة السودانية أن تقبل دخول القوات الدولية كما وعدت. ومع أن الحكومة السودانية كانت وما زالت تتحدث بأكثر من لسان، فإن الحجة كانت كافية لإقناع مجلس الأمن للتصويت بالإجماع للقرار 1679.
إذا كانت هناك حاجة لمراقبة وقف إطلاق النار في دارفور، وحماية المدنيين، وحماية الإغاثات الإنسانية، ونزع سلاح القوات غير النظامية، وإذا كان معلوما أن القوات الوطنية السودانية غير قادرة على تحقيق ذلك، ولذلك وافقت على قيام قوات الاتحاد الأفريقي بالمهمة، وإذا أعلنت هذه القوات عن عجزها عن القيام بالمهام المطلوبة، فمن العاقل الذي يتردد في نقل هذه المهام لجهات دولية تستطيع القيام بها؟!
لا يمكن للعاقل المعترض أن يحتج بالخوف على السيادة الوطنية فهذه مرغت مرارا، حيث لم يكن الداعي مماثلا وكانت الضرورة أقل. القوات الدولية التي دخلت لحراسة اتفاق نيفاشا كانت لتلافي مشكلة قد تحدث، ولكن ليس لضرورة إنسانية وإغاثية وأمنية ماثلة، كما هو الحال في دارفور. ولا يمكن مقارنة هذا الدور بغزو أمريكا للعراق فقد كان خارج القانون الدولي، بينما الأمر المزمع بموجب القانون الدولي.
ولكن يمكن للوطني العاقل المطالبة بضبط مهام القوات الدولية واشتراط ألا تتكون من دول ذات أجندات خفية.
هنالك سؤال مطروح: أليس من التناقض أن يشكو الوطني السوداني من التدويل ويرحب في الوقت نفسه بالقوات الدولية في دارفور؟!
الترحيب بالقوات الدولية في دارفور للقيام بالمهام المذكورة ليس اختيارا بل ضرورة لمن يهتم بأمن وسلامة وإغاثة إنسان دارفور.. إنها ضرورة صنعتها سياسات النظام الحاكم في السودان التي حزبنت القوات السودانية وأججت الاقتتال في دارفور وصنعت التدويل والتشظي في البلاد.
بعد اتخاذ القرار 1679، انتدب مجلس الأمن سفراء للسودان للاستطلاع حول مسألة القوات الدولية ووضع برنامج للتنفيذ على هداه. قابلت بعثة مجلس الأمن الحكومة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني في الخرطوم، ثم مجلس الأمن والسلم الأفريقي في أديس أبابا. الحكومة السودانية كعهدها تحدثت بلسانين: المؤتمر الوطني متحفظ والحركة الشعبية مرحبة. المعارضة السودانية ممثلة في القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي قابلت البعثة تفهمت الأمر واعتبرته ضرورة للحالة الأمنية والإنسانية في دارفور، كذلك كان موقف حركة تحرير السودان، الشريك الجديد في «حكومة الوحدة الوطنية». ذكرت الأحزاب والمنظمات الملتقاة إقصاءها من طاولات اتفاقيات السلام المبرمة وضرورة بناء السلام في ظل الإجماع الوطني مما يقتضي عقد منبر قومي لذلك. كذلك قصور الترتيبات الديمقراطية الماثلة وضرورة كفالة حقوق الإنسان وضمان نزاهة الانتخابات القادمة. بعثة مجلس الأمن وقفت على هذه الحقائق وعلى المؤتمر الوطني معزولا في رفضه الاستعانة بقوات دولية لاحتواء فلتان أمني ومآس إنسانية هو صانعها!.
القوى التي حكمت السودان منذ الاستقلال لم تفرط شبرا في السيادة الوطنية، ولم تعرض البلاد أبدا للتشظي، وهم إذ يقبلون الدور الأمني والإنساني للأمم المتحدة في دارفور الآن فمن باب ارتكاب أخف الضررين:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن