نحو خريطة طريق للإصلاح السياسي العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

نحو خريطة طريق للإصلاح السياسي العربي

5 فبراير 2005

بمقاييس الحكم الراشد القائم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون، كانت أجزاء عريضة من العالم محرومة منه لا سيما في جنوب وشرق أوربا، وأمريكا الجنوبية، وجنوب شرق آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، والعالم العربي. وعبر تطورات تاريخية جرت في الثلث الأخير من القرن العشرين انتقلت غالبية تلك الدول إلى نظم دستورية ديمقراطية، وصار من المسلم به مؤخرا أن الديمقراطية هي أفضل نظام لحفظ كرامة الإنسان وصون حقوقه وتنميته. انطلقت موجة الديمقراطية من أوربا الجنوبية في سبعينات القرن العشرين (أسبانيا، والبرتغال، واليونان) وعمت أمريكا اللاتينية في الثمانينات (ما يسمى بالموجة الأولى) وتمددت في أوربا الشرقية في التسعينيات (الموجة الثانية)، ثم ضربت أفريقيا في العقد الأخير ولا زال مد موجة الديمقراطية الثالثة متواصلا في إفريقيا،  ليبقى العالم العربي عامة في ذيل العالم في مجال الحكم القائم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

الإصلاح السياسي الديمقراطي مطلب نادت به قطاعات شعبية عريضة في البلدان العربية. وهنالك بلدان عربية كالسودان، على طول الحكومات الديكتاتورية فيها – حيث حازت على ثلاثة أرباع المدة منذ الاستقلال-  ظلت تلك الحكومات قلقة كالجالس على أسنة الرماح.

نعم المطلب الديمقراطي العربي بين الشعوب وجد منذ فترة،  ولكن صوته كان خافتا لخمسة أسباب أساسية هي:

الأول: الرؤى الأيديولوجية التي هيمنت على الطبقة السياسية كانت تعطي أولوية لأهداف أخرى: أهداف التحرير والوحدة القومية، والعدل الاجتماعي الاشتراكي، والتأصيل الإسلامي، والتنمية الاقتصادية. وعندما تراجع دور الأيديولوجيات العلمانية القومية بعد هزيمة يونيو 1967م تمددت المشروعات الإسلاموية وهي بدورها همشت المطلب الديمقراطي.

الثاني: ضعف منظمات المجتمع المدني الحزبية والنقابية وهي لبنات البناء الديمقراطي.

الثالث: الثقافة التقليدية السائدة التي تعتبر الديمقراطية أداة غزو ثقافي فكري غربي.

الرابع: القمع الذي مارسته النظم والحكومات ضد تيار الديمقراطية وآلياتها.

الخامس: موقف قوى الهيمنة الدولية أثناء الحرب الباردة وبحث المعسكرين عن حلفاء لهما دون قيد أو شرط ما داموا حلفاء، بل تفضيل التعامل مع الديكتاتوريين، فالحكومات الديمقراطية المنتخبة تحكمها مصالح الشعوب ويعصمها ناخبوها عن التبعية العمياء.

وبعد نهاية الحرب الباردة في 1989م تفجرت ثورة ديمقراطية في أوربا الشرقية ولكن في بقية أنحاء العالم لا سيما العربي وقفت الولايات المتحدة الأمريكية داعمة النظم الحاكمة باعتبارها الأفضل لحماية مصالحها وأهمها: النفط، وأمن إسرائيل، وحرية الممرات المائية والبرية والجوية عبر البلدان العربية.

هذه الصورة حطمتها أحداث11سبتمبر2001م في نيويورك وواشنطن إذ تعرضت الولايات المتحدة لحرب غير تقليدية فانبرت تواجهها حربا عالمية ضد الإرهاب ومصادره. وصار واضحا للولايات المتحدة أن النظم الاستبدادية تفرخ الإرهاب ولا بد من إصلاح ديمقراطي يجفف هذا المصدر.

وجاء تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002م يعلن موقفا ناقدا من نظم الحكم العربية ويحدد شروط التنمية البشرية وعلى رأسها الحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.. هذا التقرير صار بمثابة نداء معزز بحيثيات قوية لصالح التحول الديمقراطي في العالم العربي.  واعتمدت عليه المبادرة الأمريكية المسماة شراكة من أجل مستقبل مشترك في الشرق الأوسط الكبير. وعرضت على ملتقى قمة الدول الثمان في جزيرة البحر “سي آيلاند” بجورجيا الأمريكية في يونيو 2003م وتسربت منها تفاصيل أزعجت بعض الدول العربية واعتبرتها تدخلا غير مشروع في شئونها الداخلية.

الدول العربية نفسها تداولت الأمر ووضعت تصورا مشتركا للإصلاح الديمقراطي في مؤتمر القمة العربي الأخير في تونس 24 مايو 2004م .

على ضوء الاعتراضات الرسمية العربية راجعت الولايات المتحدة صيغة مبادرتها وانتهى الأمر إلى قرار مجموعة الثمانية في يونيو 2004 بعقد اجتماع مشترك مع الدول العربية، حيث انعقد اجتماع عربي/ دولي في المغرب في 12 ديسمبر  2004م أدى إلى تكوين منبر مشترك أطلق عليه اسم “منتدى المستقبل”.

المبادرة الأمريكية مع ما صحبها من زخم إعلامي رجعت صدى المبادرة الأوربية التي أدت إلى الشراكة الأوربية المتوسطية التي جمعت بين أوربا ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط. هذه المبادرة تهدف إلى إقامة منطقة سلام واستقرار وسوق حرة وتوفر دعما ماليا وتقنيا للدول الأقل نموا وتشترط التزاما قاطعا بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن أمام المبادرتين الأمريكية والأوربية عقبة لا يرجى أن تتمكنا من اجتيازها، وهي أن دول المنطقة المعنية ذات هوية جغرافية وثقافية معينة ولا يمكن إلغاء الهوية الثقافية لصالح الجغرافية وحدها، لا سيما بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي الذي لا يمكن لأية مشروعات تخص المنطقة الجغرافية أن تتخطاه. الحل العادل والشامل لهذا الصراع هو الشرط الأول لأية مشروعات خاصة بحاضر ومستقبل المنطقة.

أما بالنسبة لقضية الإصلاح السياسي فثمة الآن التصور الرسمي الذي قرره مؤتمر القمة العربي في تونس، وثمة سلسلة من المؤتمرات التي عقدتها قوى سياسية ومدنية عربية غير رسمية. هذه المؤتمرات أصدرت رؤى وبيانات أهمها وأشملها بيان الاستقلال الثاني “نحو مبادرة للإصلاح السياسي في العالم العربي” الصادر عن مؤتمر بيروت الذي نظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في مارس 2004م.

قرارات مؤتمر القمة العربي في تونس بشأن الإصلاح السياسي، وبيان “الاستقلال الثاني” يمثلان رؤيتين مختلفتين: رؤية رسمية ورؤية شعبية.. هذان الموقفان يمثلان ثنائية الداخل الرسمي والشعبي.

التصورات الداخلية، والمبادرات الأوربية والأمريكية في المقابل تمثلان ثنائية الداخل والخارج.

درج كثير من الكتاب والساسة على القول أن الإصلاح يجب أن ينبع من الداخل! أي داخل؟ الداخل الرسمي القاصر دون تطلعات الشعوب؟ أم الداخل الشعبي الذي تحاصره القيود.. تحاصره القيود الرسمية وقيود شعبية تفرضها حركات الغلو الإسلامي.

كذلك ينبغي ألا نبالغ في الفصل بين الداخل والخارج فالدول العربية تسمح لنفسها باستيراد أشياء كثيرة من الخارج وسوف تصحب ذلك حتما عبر التعليم والإعلام مفاهيم سياسية. وبعض هذه المفاهيم السياسية في مجال حقوق الإنسان والحكم الراشد الذي يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون مفاهيم إنسانية كلية ينبغي أن تستصحبها كل الثقافات لا سيما الثقافة الإسلامية التي تتطابق مبادؤها السياسية مع مطالب الحكم الراشد.

هنالك حاجة لنظرة جديدة لثنائية الداخل بين الرسمي والشعبي، ولثنائية الداخل والخارج .. نظرة تقوم على الحوار لا المواجهة.  الحوار الذي ينبغي أن يقوم على ثلاثة أضلاع: الضلع الرسمي، والضلع الشعبي، والضلع الدولي.

إن الموقف الرسمي والشعبي يجمعهما ضرورة تجنب الصدام لأنهما في خندق واحد في وجه تيارات الغلو الإسلامي وفي وجه اختراقات الهيمنة الدولية: في وجه الغلاة والغزاة.  ينبغي أن تتجه الحكومات والشعوب إلى حوار جاد، لا يحول دونه إلا أن يأبى بعض المتمسكين بأهداب الطغيان القديم.

والقوى الدولية التي تدرك أن زمان الإملاء قد ولى وتأخذ الدرس من تجاربها، عليها أن تأخذ الواقع الداخلي في الحسبان فالتجربة الأمريكية في العراق درس ذو فائدة عظيمة في إدراك أن للقوة العسكرية – مهما عظمت-  حدودها.

هذا الحوار ثلاثي الأضلاع يمكن أن يؤدي لمفاهيم تصاغ بموجبها خريطة طريق للإصلاح السياسي العربي بتأييد رسمي وشعبي ودولي. إذا تحقق هذا فإنه يعالج الثنائيات ويستجيب لتطلعات الشعوب المشروعة وإذا تخلف هذا المشروع الراشد بسبب الطغاة، فإن الساحة سوف تباح لمشروعات الغلاة والغزاة الظلامية.