ندوة: رؤية إجمالية في الأوضاع السياسية في السودان بعد اتفاقيات السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

مداخلة الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي

في ندوة دور القوات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني في دعم السلام المؤدي إلى الوحدة تحت عنوان: رؤية إجمالية في الأوضاع السياسية في السودان بعد اتفاقيات السلام

والتي أقيمت بالأكاديمية العسكرية العليا – الأربعاء 9 فبراير 2005م

 

إخواني وأبنائي مع حفظ الألقاب لكم جميعا السلام عليكم ورحمة الله.

طلب إلي تقديم رؤية إجمالية في الأوضاع السياسية في السودان بعد اتفاقيات السلام وسوف أتناول هذا الموضوع عبر مقدمة قصيرة وعشرة نقاط.

الشكر أجزله للأكاديمية العسكرية العليا على دعوتي لمخاطبتكم في هذا الموضوع الهام. لا سيما ونحن الآن أمام مرحلة نحتاج فيها إلى بلورة رؤية وطنية مشتركة بين كل أهل السودان في القضايا المصيرية التي تحيط بنا. وأنا اقترح على الأكاديمية العسكرية العليا أن تكمل جهدها هذا بالدعوة لورشة عمل تجمع فيها كل القوى السياسية والمدنية والنظامية في محاولة لإيجاد  رؤية مشتركة لإنجاح عملية بناء الوطن فنحن الآن لسنا أمام قضية بناء السلام والتحول الديمقراطي فحسب بل إننا نواجه قضية إعادة بناء الوطن ولذلك ينبغي أن نتفق على رؤية نحدد فيها الثوابت الوطنية التي نريد أن نبني هذا الوطن على أساسها لأن الاختلافات الموجودة حاليا تعرقل مسيرتنا وأمام هذا التحدي يجب علينا أن نستحضر حقيقة أن اتفاقيات السلام المختلفة لم تكن ناجحة كليا ويبقى احتمال الفشل قائما إذا لم تراعى العوامل اللازمة لتحقيق النجاح.

النقطة الأولى: اتفاقيات السلام بشرت بأمرين هامين:

الأمر الأول: وقف الحرب.

الأمر الثاني: إنهاء الشمولية.

ولذلك وجدت تأييدا واسعا. كنا منذ سنوات نحذر من خطرين على الأمن القومي السوداني هما: التدويل والتفتيت وكنا وما زلنا نرجو أن تصدهما اتفاقيات السلام، ولكن نظرا لفجوة الثقة بين طرفي التفاوض اتسع نطاق التدويل ونظرا لثنائية الاتفاق وغياب البعد القومي انفتح الباب واسعا للتفتيت حيث اتجه كثيرون للاقتداء بالحركة الشعبية ومن ثم أصروا على المطالبة بأنصبة معينة في السلطة والثروة عن طريق القوة وفتحوا الباب واسعا لكل المساومات حول هذا الموضوع.

النقطة الثانية: كيف ستكون الأوضاع السياسية بعد تنفيذ الاتفاقيات؟

في حالة تنفيذ الاتفاقية سيقوم نظام تميزه المعالم التالية: سلطة ذات طابع ثنائي مع توسيع الشراكة، وجود نظامين قانونيين في دولة واحدة، حكم لا مركزي توزيع مبرمج للثروة، اقتصاد السوق الحر، كفالة حقوق الإنسان، وجود ثلاثة قوات مسلحة في البلاد، وجهاز أمني معلوماتي ليست لديه صلاحيات تنفيذية. وسوف يكون أمام الطرفين الشريكين في السلطة ثلاثة خيارات أساسية:

الخيار الأول: الثنائية الإقصائية: أي أن يتفقا على بناء السلطة ولا يدخل معهما فيها إلا المتوالون. وفي هذه الثنائية يمكن أن يتفقا على تفاصيل ما يؤسس لسلطتهما.

الخيار الثاني: الثنائية التنافسية: وهي التي تجعل الطرفين وهما من منابع فكرية مختلفة: المرجعية الإسلامية لدى المؤتمر الوطني والمرجعية العلمانية الأفريقانية لدى الحركة الشعبية وهذه الثنائية سوف تحفل بالتناقض والتباغض والتحالفات المضادة.

الخيار الثالث: هندسة انتقال أو تحول إلى اتفاق قومي وهذا النمط هو الذي تتطلع إليه كل القوى الواعية في السودان، وتاريخيا فإن الإجماع القومي كان أساسا  لبناء أهم ما أنجز في تاريخ السودان فالاستقلال سبقه اتفاق الأحزاب السودانية الإجماعي في القاهرة الذي تأسست عليه الاتفاقية المصرية البريطانية التي أدت إلى استقلال السودان، ومؤتمر كل الأحزاب عام 1967م هو الذي أسس عليه النظام المايوي اتفاقية أديس أبابا عام 1972م وهكذا.

هناك كتاب أصدره (بيتر هاريس وبن ريلي) وقدم له كوفي عنان فيه بيان واضح لأهمية دور المؤتمرات القومية في حل النزاعات إذ أن التحولات السلمية والديمقراطية في الحالات المماثلة للتجربة السودانية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية عادت جميعها إلى مرجعية مؤتمر قومي، فإذا تم هذا  يمكن للمؤتمر القومي أن يهندس التحول برؤية مشتركة، والمؤتمر القومي وحده ليس كافيا بل نحتاج معه إلى مؤتمرات متخصصة، ولكن هذا المؤتمر السياسي الجامع مطلوب لتوحيد الرؤية.

النقطة الثالثة: في حالة تحقيق سيناريو الخيار الثالث فإن اتفاقيات السلام يجب أن تخضع لما أسميناه التاءات الأربعة:

تاء التصديق: حتى تكون قاعدة التأييد واسعة.

تاء التوضيح: فهناك أمور غامضة كثيرة لا بد من توضيحها.

تاء التعديل: لما ينبغي تعديله.

تاء التوسيع: لما سكت عنه وهو كثير.

النقطة الرابعة: الموقف السياسي في السودان متحرك وإذا أمكن للقوى السياسية أن تتفق على هذه الرؤية فسوف نجد خريطة طريق متفق عليها من الجميع ومع ذلك فالموقف السياسي متحرك حيث توجد تحديات المطالب الأخرى من القوى ذات التظلم وهذه القوى الآن دخلت مع النظام في مسارات مختلفة في أبوجا وفي القاهرة وغيرهما والمطلوب أن تشارك هذه القوى في تكملة الرؤية المشتركة القومية.

النقطة الخامسة: هناك أشياء خارج هذه المسارات وخارج هذه العملية وسوف تؤثر عليها، مثلا تقرير لجنة دارفور الدولية وآثارها السياسية والقانونية نحن نقول: لو أن النظام استجاب لرؤى طرحت له منذ عامين لتجنبنا هذا التقرير الذي سوف يؤدي إلى نتائج سياسية وقانونية:

الآثار السياسية: اختلاف داخل النظام حول مسألة المحاكمات واختلاف مع الحركة الشعبية، وتصعيد لمطالب الفئات المتظلمة ومزيد من تآكل شرعية النظام، واستقطاب بين المؤتمر الوطني وآخرين على المستوى الشعبي.

الآثار القانونية: تجريم شخصيات قيادية في النظام وتبادل الاتهامات بين القادة دفاعا عن النفس، واستقطاب الحقوقيين السودانيين على نطاق واسع، وفتح ملفات جنائية أخرى.

هناك الآن أمنيتان سياسيتان متناقضتان أمنية قوم داخل النظام يرون أن هذا التقرير للتهديد وليس للفعل وبناء على ذلك فهم يعتقدون أن هذا الموضوع لن تترتب عليه نتائج مؤثرة وآخرون يرون أن هذا جزء من عملية تصفية للنظام وهذان التصوران متناقضان.

النقطة السادسة: تقرير الأمين العام للأمم المتحدة.

هذا التقرير سيخلق وضعا سياسيا جديدا لأن اتفاقيات السلام جعلت الأمم المتحدة مسئولة عن التحكيم والإشراف إضافة إلى أنها شاهد على الاتفاق وضامن له، وعلى هذا الأساس قدم الأمين العام للأمم المتحدة مشروعا يمكن أن نسميه مشروع انتداب حيث يقيم هيكلا مدنيا وعسكريا موسعا قوامه عشرة آلاف من المدنيين والعسكريين وميزانية لا تقل عن ثلاث مليارات من الدولارات وبرنامج فيه مخاطبة لتطلعات الشعب السوداني عامة حيث نادى بأشياء سكت عنها طرفا التفاوض وهي: المؤتمر الجامع، وتكوين لجنة مستقلة لحقوق الإنسان، واتخاذ تدابير خاصة لكفالة سيادة القانون واستقلال القضاء وتقديم رؤية واضحة حول الانتخابات التي جاءت النصوص الخاصة بها في الاتفاقيات غامضة، وتوسيع المشاركة في لجنة الدستور والتوضيح والتفصيل في كثير من بنود الاتفاقية والتأكيد على المساواة النوعية. وأهم إضافة جاء بها هذا البرنامج هي العقيدة العسكرية للقوات المشتركة والوحدات العسكرية المعاد تشكيلها وهذه العقيدة تلزم هذه القوات بأن تكون نظامية مهنية ومحايدة وتحترم سيادة القانون والحكم المدني والإرادة الشعبية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لو أن الحكومة استجابت لمشروع التاءات الأربعة لكنا قد أغلقنا هذا الباب الذي صار الآن مفتوحا، وإضافة إلى البرنامج السابق سوف تقوم الأمم المتحدة بالمهام الآتية:

  • سياسيا: دعم وتوسيع السلام.
  • أمنيا: حماية قواتها وحماية المدنيين.
  • إداريا: المساهمة في إصلاح الخدمة المدنية سيما في الجنوب وإصلاح نظم الشرطة والأمن والقضاء.
  • إنسانيا: حماية حقوق الإنسان وتأمين الإغاثات والقيام بدور خاص في عملية إعادة النازحين واللاجئين.
  • عسكريا: المساعدة في نزع السلاح وتسريح القوات ودمجها. والمساهمة في إزالة الألغام.
  • إعلاميا: ترشيد الإعلام وإقامة إذاعة خاصة.
  • تنمويا: القيام بدور تنموي في هذا اعتقد أن دور الأمم المتحدة غاب عنه أمر هام هو إلغاء الدين الخارجي على السودان.

نرى في هذا التقرير أنه يستجيب لمطالب الشعب السوداني ولكن هناك تحفظات أساسية بشأنه لأن القوات الآتية إلى السودان بهذه الأعداد الكبيرة يجب أن نبحث في أجندة الدول التي سوف تشترك فيها حتى لا تكون هذه الدول ذات أجندات خاصة وقد تم استيعاب قوات لدولتين مانحتين فهاتان الدولتان ينبغي أن يراجع أمرهما.

النقطة السابعة: ماذا تفعل القوى السياسية غير المتوالية:

الخيار الأول: أن يتم الاتفاق على مشروع قومي عبر مؤتمر قومي وهذا في رأيي سوف يجمع الرؤى حول موقف موحد يمكن أن يخاطب كل القضايا.

الخيار الثاني: أن يخفق الطرفان في فتح المجال أمام الاتفاق القومي وفي هذه الحالة سوف ينشأ استقطاب بين الحكم الثنائي وبين معارضة واسعة.

ونحن نأمل أن هذا الاستقطاب الثنائي نفسه يجب أن ينضبط بموجب اتفاقية gentleman تنبذ العنف وتعمل من أجل الوحدة عبر تقرير المصير وتدعم حقوق الإنسان وقومية المؤسسات النظامية والمدنية وتلتزم بالمشاركة في المجهودات القومية كالدستور والانتخابات وتضع أسسا  لتوزيع الثروة والعمل على إضافة عنصر التوازن إلى  الديمقراطية والعمل على إيجاد آلية للمساءلة المنضبطة على نمط  آلية الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا ودعم الاتفاق الموقع في الأمور المجمع عليها بين القوى السياسية (تاء التصديق).

وبهذا المنهج تسعى المعارضة للسند الشعبي العريض.

النقطة الثامنة: القوات المسلحة:

وفي هذه المرحلة سيكون لها مهام خاصة:

حماية الأمن القومي من أمرين هامين: التدويل الخبيث والتفتيت، والحيلولة دون هذين الخطرين تتطلب قومية القوات المسلحة فالتدويل المقبول في رأينا هو التدويل الحميد ولكن التدويل إذا تجاوز حدوده ودخلت فيه دول ذات أجندات خاصة  يمكن أن يصبح خبيثا.

النقطة التاسعة: الأوضاع السياسية في السودان إلى تغيير حتمي وهناك احتمالان:

الاحتمال الأول: أن تؤدي المشاكل الموجودة فعلا إلى فقدان السيادة الوطنية وفقدان الوحدة الوطنية وكلاهما وارد.

الاحتمال الثاني: سودان موحد متجدد وعادل يحكم ديمقراطيا وتتعايش فيه القوى المختلفة الملتزمة بالثوابت المتفق عليها.

النقطة العاشرة: التحدي الذي يواجه السودان ساسة ومجتمعاً مدنياً وقوات نظامية تحد كبير في ظل الظروف الإقليمية المحيطة فأمامنا نهجان إما أن نستطيع معا أن نهندس لسودان يتجاوز هذه المشاكل ويؤسس لوحدته ويكون جاذبا للوحدة عبر تقرير المصير ونهيئ الظروف للتنمية فيصبح السودان بذلك نموذجا عربيا للانتقال المطلوب من الدكتاتورية الحالية إلى الديمقراطية ونموذجا أفريقيا للانتقال المطلوب من النزاع المسلح إلى السلام، فهناك ما لا يقل عن ثمانية عشر نزاع مسلح في أفريقيا تحتاج لمثل هذه القدوة، يمكننا أن نحقق ذلك إذا استطعنا أن نحول هذه الفرصة التاريخية إلى عزيمة قومية وإذا أخفقنا في ذلك فسوف نصبح دولة فاشلة وينفتح الباب واسعا للأمرين الخطرين: التدويل والتمزيق.