ندوة: تحصين السلام ببناء الدولة القادرة والعادلة

بسم الله الرحمن الرحيم

جامعة الرباط الوطني

مركز الدراسات والبحوث الجنائية والاجتماعية

ندوة علمية حول اتفاقية السلام من منظور الأمن الداخلي

المحور:

 تحصين السلام ببناء الدولة القادرة والعادلة

 وخلق التوازن الداخلي بإدارة التنوع والتباين الديمغرافي والعقائدي

تقديم: الصادق المهدي- رئيس حزب الأمة

 

12/12/2002م

مقدمة

أخي الرئيس

كنت ولا زلت شقيا بضآلة المدخلات والأبحاث والدراسات السودانية حول قضايا البلاد المصيرية التي بلغت الآن أهمية قصوى تتعلق بالسودان أيكون أم لا يكون؟

ومع أهمية القضية فإن المداخيل السودانية فيها في غاية التواضع كأن أمر السودان لا يعني أهله! هذا بينما تكاثرت المداخلات والأبحاث والدراسات الأجنبية الخاصة بالشأن السوداني كأن الشأن السوداني صار قضية دولية كالقنبلة السكانية أو الاحتباس الحراري!!.

لذلك رحبت بأذرع مفتوحة بهذه الندوة شاكرا مركز الدراسات والبحوث الجنائية والاجتماعية على إثراء العطاء السوداني بها ومقدرا لمؤسسة أمنية نظرتها الكلية الحميدة للأمن.

إن الشرعية، والتوازن، والعدالة، وسد حاجات المعيشة، هي المقومات الحقيقية للأمن، ثم تأتي المؤسسات والنظم والأجهزة لحراسة الشرعية والعدالة والرخاء.

كان ولا زال كثير من السودانيين وأغلبية الناس من غير السودانيين محتارين في الشأن السوداني وما فيه من تقلبات واضطرابات واقتتال. وكنت ولا زلت أرى أن ما جرى ويجري للسودان واضح جدا يراودني في وضوحه قول الصوفي:

إنه من وضوحه في خفاء    ويرى من خفائه كالنهار!!

الخريطة السكانية السودانية كثيرة التباين ولكن سياسات محددة غير متوازنة حولت التباين لاستقطاب حاد أشعل الاقتتال.

الجسم السياسي السوداني أو الطبقة السياسية السودانية اختلفت حول الشرعية فخلق ذلك أزمة سلطة. إذا اتفقت الطبقة السياسية على أساس للشرعية والتزمت بسياسات عادلة ومتوازنة لإدارة التباين لانتفت أزمات السودان كما تنفي النار خبث الحديد!!.

ولكن قبل الدخول في الحديث عن المعالجات الجارية ووصف الدواء الأمثل، سأقدم هذه الأطروحة لتشخيص المرض.

المحور الأول: تشخيص الداء:

لقد نال السودان أوفر نصيب من الاضطرابات والتجارب فإن صح الأثر: إذا أحب الله عبدا ابتلاه حق لنا أن ندعي أننا من أحبابه المصطفين. وإن صحت الحكمة: كل ما لا يقتلني يقويني، لجاز لنا أن ندعي لأنفسنا قوة خارقة:

رماني الدهر بالأرزاء حتى          فؤادي في غشــــاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهام            تكسرت النصال على النصال

ولكن إذا عرف السبب بطل العجب..

إن للاضطرابات التي شهدها السودان أسبابا موضوعية محددة أهمها الثمانية أسباب الآتي بيانها:

  • أزمة الحكم في عالم الجنوب: النمط الأكثر جاذبية في عالم اليوم والأكثر عقلانية والأكثر توفيرا للعدالة ورعاية حقوق الإنسان هو الدولة القومية الديمقراطية.. هذه الدولة لم تنشأ مرة واحدة من العدم بل نمت عبر مراحل. كانت المرحلة الأولى في التاريخ الأوربي هي تكوين الدولة القومية من رحم الامبراطورية الرومانية المقدسة. صلح وستفاليا في عام 1648م الذي أعقب حقبا من الحروب الدينية هو الذي قنن الدولة القومية في السياسة الدولية. الثورة الفرنسية بدأت إحلال الشعوب محل الملوك والأمراء، والثورة الصناعية البريطانية صنعت الرخاء المادي الحديث وما صحبه من تمايز طبقي. هاتان الثورتان وما صحبهما من ثورة ثقافية واستنارة دينية وفكرية عززتا الديمقراطية التي طبقتها الدول الأوربية داخليا ولكن تخلت عنها خارجيا إذ استباحت العالم وأخضعته لنهم استعماري يرتكز على التفوق العسكري غير المسبوق الذي أتاحته الحداثة للدول الأوربية. نتيجة لمقاومة الشعوب المستعمرة ولعوامل خارجية كبيرة أحاطت بالدول الأوربية لا سيما الحرب العالمية الثانية التي أنهكتها تراجعت السيطرة الاستعمارية وتخلت الامبراطوريات الأوربية عن مستعمراتها وحولت السلطة فيها عبر مؤسسات حكم ونظم ديمقراطية.. هذه النظم الديمقراطية لم تستقر إلا في عدد قليل جدا من البلدان مثل الهند وماليزيا، ولكنها في الغالب سقطت لتحل محلها نظم حكم في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية تقوم على الولاء لعصبية وراثية، أو أوتقراطية مدنية أو عسكرية. تجربة الحكم في بلدان العالم الثالث شهدت تخليا عن الديمقراطية في كثير من الأحيان وشهدت انهيار الدولة المركزية نفسها في بعض الأحيان.

إن أزمة الحكم في السودان جزء من أزمة الحكم في عالم الجنوب ما بعد الاستقلال، وهي ظاهرة عامة.

  • تارجح الحكم في السودان: في منطقتنا العربية والأفريقية حققت الدول استقرارا للحكم فيها عن طريق نظم أوتقراطية مدنية كما في نظام الحزب الواحد، أو وراثية كما في النظم الملكية، أوعسكرية.. هذه النظم حققت الاستقرار على حساب الحرية وحقوق الإنسان العالمية، وهي اليوم تواجه ضغطا من عدة جبهات أهمها:جبهة داخلية شعبية، وجبهة خارجية للتحول من الأوتقراطية للديمقراطية. ومع تمسكها بالسلطة فإنها لم تعد تنكر أن الشرعية هي الشرعية الديمقراطية، وأنها بصورة ما تتطلع لمستقبل أكثر ديمقراطية أو شورية كما يرى بعضهم..هذا معناه التسليم بأن أوضاع هذه النظم حاليا انتقالية.لم تجر في السودان بعد الاستقلال محاولة إقامة نظام حكم وراثي. ولكن قامت في السودان نظم حكم انقلابية عقائدية مستندة للاشتراكية أو الديمقراطية الشعبية،كما كان الحال في أول العهد المايوي. ثم مستندة لأيديولوجية إسلامية كما في أواخر عهد مايو وفي نظام “الإنقاذ” حتى عام 1997م. لم تستطع النظم الأوتقراطية أن تحقق لنفسها درجة مستقرة من الشرعية كما حدث في مصر أو اليمن بل ظلت محاصرة بتطلعات شعبية معارضة وأشواق ديمقراطية ملحة. أشواق نجحت مرتين في استرداد النظام الديمقراطي المعياري. وهو وإن وفر الحريات وحقوق الإنسان عجز عن تحقيق الدولة القوية المستقرة. لذلك تأرجح تاريخ السودان المستقل بين نظم أوتقراطية تحاصرها التطلعات الديمقراطية ونظم ديمقراطية يحاصرها التطلع للاستقرار.
  • التباين السكاني: وحقيقة التباين السكاني ألخصها في أن ثلث إلى 40% من السكان عرب، وربعهم قبائل نيلية واستوائية، والبقية قبائل حامية مستعربة هذا من حيث التنوع الإثني. أما من حيث التنوع الديني فإن 70% من السكان مسلمون و10% مسيحيون و20% يدينون بأديان إفريقية محلية.

وهنالك ما لا يقل عن عشر ثقافات أهمها: الإسلامية العربية- النوبية- البجاوية- النيلية الأنجلوفونية المسيحية- النيلية الأفريقانية- الاستوائية الأنجلوفونية المسيحية- الاستوائية الأفريقانية- النوباوية- الإسلامية الأفريقانية.

مسيرة تاريخ السودان في الخمسمائة عاما الماضية مع اختلاف العهود أفضت إلى ترجيح كفة الثقافة الإسلامية العربية على أيدي الممالك السودانية الإفريقية الفونج والفور والمسبعات وتقلي. وفي العهد التركي المصري، وفي المهدية، وفي الحكم الثنائي، وفي العهود الوطنية التي أعقبت الاستقلال. هذا الرجحان خلق توترا بين الثقافة المركزية الإسلامية العربية والثقافات الأخرى.

الرؤية  الشمالية للتباين: الحكم البريطاني أضاف للتباين السكاني في السودان هوية جديدة هي الهوية الأنجلوفونية المسيحية (سيرد الحديث عن دور  الحكم الثنائي لاحقا). الوعي الوطني في السودان تبلور غالبا في الشمال وكان أول تعبير علني عنه مذكرة مؤتمر الخريجين العام في أبريل 1942م. المذكرة مكونة من 12 بندا،وخصصت ثلاثة بنود منها للمطالبة بإلغاء سياسة المناطق المقفولة وما ترتب عليها من برامج وخطط. الوعي الوطني السوداني الحديث كما تبلور في الشمال اعتبر الهوية الجديدة الأنجلوفونية المسيحية غرسا أجنبيا ينبغي اقتلاعه. ما ورد في هذه المذكرة بهذا الشأن لون سياسات الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال. مع الفرق الآتي:

الحكومات الديمقراطية ربطت سياساتها نحو الجنوب بحوارات أهمها: المائدة المستديرة 1965م- لجنة الإثنى عشر 1966م- مؤتمر كافة الأحزاب 1967م- مؤتمر كوكادام 1986م- المبادرة السودانية 1988م- برنامج القصر الانتقالي 1989م.. أما الحكومات الأوتقراطية فإنها اتخذت نهجا فجائيا أحاديا: طرد القساوسة الأجانب 1964م- قوانين سبتمبر 1983م- والتوجه الحضاري الذي أعلنه نظام “الإنقاذ”.

وفي هذا الصدد ينبغي أن تذكر المحطات الآتية:

– مذابح أغسطس 1955م كانت تعبيرا عن عدم ثقة القيادة العسكرية الجنوبية في القيادة العسكرية السودانية العليا الجديدة،واحتجاج على برنامج السودنة الذي أدى لإحلال شمالي للقيادات البريطانية كما أوضح ذلك تقرير القاضي مطران.

  • حركة أنيانيا الأولى 1963م كانت احتجاجا على طرد الكوادر السياسية عقب انقلاب 1958م. احتجاج أعطاه الجنود المسرحون بعد عصيان 1955م بعدا عسكريا، وأعطاه طرد القساوسة الأجانب في مارس 1964م بعدا دينيا.

التذمر من إدارة دمج القوات في برنامج اتفاقية السلام لعام 1972م، والشكوى من خرق الاتفاقية بإجراءات نظام مايو الفوقية، كانا سببا في انطلاق حركة الجيش الشعبي والحركة الشعبية التي صادفت عاملين آخرين هما: انحياز مايو للغرب المقنن باتفاقية الدفاع المشترك، وما صحبها من تدابير ومناورات بعد عام 1976م، وإعلان الأحكام المسماة إسلامية في قوانين سبتمبر 1983. هذان العاملان حولا تذمرا ذا طابع محلي إلى حركة ذات أصداء عالمية.

التباين وتأجيج الحرب: يعاب على الحكومات الديمقراطية البطء في الوعي بالتنوع الثقافي السوداني وبلورة استراتييجيية قومية للتعامل معه. ولكن فترات حكمها كانت قصيرة وتجنبت القرارات المفاجئة والتزمت أسلوب التشاور مع الأطراف الجنوبية في كل الحالات. ولكن سياسات النظم الأوتقراطية اتسمت بأمرين هامين هما: الأول: القرار الفوقي المفاجئ. الثاني: تصعيد التشدد ابتداء من سياسة حكومة 17 نوفمبر 1958م التي اقتصرت على إجراءات إدارية وتعليمية معينة وطرد القساوسة الأجانب، ثم سياسة النظام المايوي التي حققت اتفاقية السلام استنادا على تحضيرات الديمقراطية الثانية، ولكنها نكثت غزلها بالتخلي عن بعض بنود اتفاقية السلام من جانب واحد وإعلان قوانين سبتمبر 1983م، ثم سياسة نظام “الإنقاذ” الأكثر إحاطة ومنهجية في تطبيق برنامج إسلامي عربي صارم برؤية حزبية. هذا التصعيد في التشدد قابله في الطرف الآخر تصعيد في تطرف المقاومة من حركة أنيانيا الأولى ذات الطابع المحلي والإمكانات المحدودة -لا أعتقد أن قواتها زادت كثيرا عن 3 آلاف. ولم تحتل أية مدينة. وكنت كرئيس للوزراء في الستينيات قادرا على طواف الجنوب كله بالسيارات، والقطارت، والسفن، والمروحيات، دون أدنى عائق- إلى الحركة الشعبية وجيشها ذات السند القومي العريض، والسند الإقليمي والدولي، والقدرات التي فاقت أنيانيا الأولى أضعافا مضاعفة. الحركة الشعبية وجيشها توغلت في سياسات الحرب الباردة العالمية والحرب الباردة الإقليمية، لذلك لم تتجاوب مع مبادرات السلام أثناء حكومة الانتفاضة الانتقالية، وكذلك أثناء الديمقراطية الثالثة. هذا الموقف ساعد الجبهة الإسلامية القومية في بلورة موقف شمالي مضاد انطلق من شعارات أمان السودان إلى سياسة نظام “الإنقاذ” بعد حركة يونيو 1989م.

  • الحكم الثنائي: كان للحكم الثنائي دوره في تكريس دور الثقافة المركزية، الأمن المستتب والإدارة الموحدة ونظام  التعليم في ظل الحكم  الثنائي بقصد أو بغير قصد عزز مركز الثقافة الإسلامية العربية. ولكنه أضاف عاملين كان لهما أثرهما في تعميق التوتر هما:
  • اتباع سياسة المناطق المقفولة التي قننت في الفترة 1922-1947م والتي أفرزت ثقافة أنجلوفونية مسيحية في المناطق المقفولة لا سيما الجنوب.
  • اتباع خطة تنموية ركزت على محصول نقدي واحد هو القطن والبنيات التحتية والخدمات اللازمة لإنتاجه وتصديره مما أقام نهجا تنمويا حديثا غير متوازن.

هذان العاملان صارا نواة تناقض غذى النزاعات فيما بعد.

  • ثغرات الديمقراطية المعيارية: انتقلت السلطة في السودان من الحكم الثنائي للحكم الوطني عبر مؤسسات ديمقراطية لم تشهد المنطقة لها مثيلا من حيث ديمقراطيتها المعيارية ومن حيث سيادتها الوطنية الكاملة. ففي البلدان الإفريقية غالبا ما تم الاستقلال في مظلة الكومونولث أو فلك الفرنك. وفي المنطقة العربية غالبا ما تم الاستقلال في ظل نظم ملكية مقيدة ديمقراطيا أو عن طريق معاهدات مع دول كبرى. الديمقراطية المعيارية التي شهدها السودان لم تسبقها العوامل الممهدة كما في ا لتجربة الغربية، ولم تصحب الديمقراطية نظم اللجم والتوازن فحفلت الديمقراطية في السودان بثغرات كثيرة أوضحناها في دراستنا الحريات الأساسية والتجربة السودانية (1997م). تلك الثغرات هي التي فتحت المجال لاضطرابات حزبية،ونقابية، وانقلابات عسكرية حرمت البلاد من الاستقرار.
  • الأحزاب العقائدية: الديمقراطية المعيارية فتحت المجال لأحزاب عقائدية ولدت في بيئة اجتماعية وثقافية متقدمة على السودان لتتمدد في المجال السياسي السوداني ولتنمو بصورة فاقت أحوالها في وطنها الأم – لا سيما الأحزاب الشيوعية والإخوانية- فنمت ودفع بها طموحها وحماستها الأيديولوجية للعمل لاختصار الطريق للسلطة السياسية عبر الانقلابات المدنية –أي تسخير النقابات والصحافة- والانقلابات العسكرية- أي تسخير القوات المسلحة. هذه الانقلابات ذات المرجعية الأيديولوجية سواء كانت شيوعية أو أخوانية قبضت على السلطة بأيد حديدية وطبقت برامج هندسة سياسية طموحة قفزت فوق الواقع الاجتماعي السوداني وفي كل الحالات أشعلت ردود فعل عكسية، وفاتها أن تثبت لنفسها شرعية أو تحقق للوطن استقرارا. وكان أهم أثر للنظم الانقلابية على إدارة التنوع العقائدي والثقافي في السودان هو إسلاموية نظام مايو المتجددة على يد نظام “الإنقاذ” لأنهما بلغا بالاستقطاب الديني والثقافي في السودان أعلى الدرجات.
  • الموقف المصري: الإدارة البريطانية للسودان أقدمت على غزو البلاد باسم الحق المصري لصد دعاوى منافسي بريطانيا في سباق التكالب الاستعماري. ولكنها في الحقيقة همشت الدور المصري في الحكم الثنائي الذي أقامه الغزاة. وزادت على ذلك استخدام السيطرة البريطانية على السودان لتطويع مصر لسياسات بريطانيا. هذا الأسلوب خلق لمصر مخاوف كبيرة مما يحدث في السودان.فاتجهت السياسة المصرية لإقامة علاقات خاصة مع قوى سياسية سودانية، فانقسم السودانيون نحوها انقساما حادا.وصارت السياسة المصرية نحو السودان في فترات طويلة محكومة بالمخاوف والظنون أكثر منها بالحقائق والمصالح بصورة صدق عليها الوصف:

خوفي عليك وخوفي منك يملؤني            ذعرا من اليوم موصولا بذعر غد!!

هذا الموقف المصري القلق كان له أثره الكبير في الاضطرابات السياسية في السودان.

  • الانحياز في السياسة الدولية: كانت سياسة السودان أثناء الحرب الباردة حيادية معتدلة. ولكن في عهد النظام المايوي شهد السودان أول اقتحام مباشر للانحياز في الحرب البادرة. بدأ النظام منحازا للمعسكر الشرقي، ثم انتهى في أواخر أيامه بالانحياز للمعسكر الغربي. الانحياز نحو الغرب بلغ درجة تحالف إقليمي تحت مظلة التحالف الغربي، فأفرز ذلك في المقابل حلف عدن المضاد (1982م). حلف عدن هذا احتضن الحركة الشعبية وجيشها منذ البداية تمويلا وتدريبا وتسليحا ودعما لوجستيا ودبلوماسيا بصورة جعلتهما قوة ضاربة فاقت منذ البداية ما كان عليه حال أنيانيا الأولى أضعافا مضاعفة.

.. هذه العوامل الثمانية أودت بالاستقرار في السودان وظهرت في شكل أزمة سلطة مزمنة وفي حرب أهلية ممتدة. أزمة السلطة والحرب الأهلية وصلا بالبلاد الآن إلى حال إذا لم نستطع تداركه بحسم وحزم وإرادة موحدة فإنه يهدد مصير البلاد بالتمزق والتدويل،

المحور الثاني: ما العمل؟.

أقدم الأطروحة الآتية في قسمين جوابا على هذا السؤال: القسم  الأول: المعالجات الجارية والدواء الناجع. القسم الثاني: تفصيل العلاج فيما يخص إدارة التباين الثقافي والإثني والديني.

القسم  الأول:  المعالجات الجارية والدواء الناجع:

نعرض لوصف الدواء الناجع للمسألة السودانية عبر نقاط ست،  هي:

أولا: الحكم الصالح: المطلب الوطني في السودان هو تحقيق الدولة الديمقراطية القوية المستقرة. هذا المطلب لم يعد محل خلاف على الصعيد النظري، وحتى القوى العقائدية التي كانت ترفضه صارت تنادي به. وهو الآن مطلوب على الصعيد الدولي كما عبر عن ذلك خطاب الأمم المتحدة للألفية الثالثة، ومطلوب على الصعيد الإفريقي كما جاء في برنامج النيباد، ومطلوب على الصعيد العربي كما جاء في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتنمية عن التنمية البشرية للعالم العربي لعام 2002م،وهو مطلب الفكر الإسلامي المستنير. ولكن هل يمكن التطلع لتحول ديمقراطي في مناخ الحرب الأهلية؟

وهل يمكن تحقيق ديمقراطية مستدامة إذا لم يتوفر التوازن؟

.. هذا يقودني للنقطة التالية.

ثانيا: عملية السلام الجارية: أشرنا  آنفا لسياسة نظام الإنقاذ نحو الجنوب وما صحبها من حماسة جهادية. هذه السياسة وحدت كافة الفصائل الجنوبية للمطالبة بتقرير المصير في عام 1993م. وخلقت للمطالب الجنوبية مظلة خارجية واسعة مكونة من لوبيات إنسانية وسياسية واسعة في إفريقيا وفي الغرب لا سيما أمريكا. واتحدت الكنائس السودانية، وتحالفت مع الكنائس الإفريقية والعالمية لمواجهة ما اعتبروه استهدافا للمسيحية.. كونت الكنائس مركزا جديدا سموه مركز الشأن السوداني Sudan Focal Point.. هذه التطورات أدت الى تصور جديد للمصير السوداني لم يكن واردا الحديث عنه من قبل: تطور جسدته مبادئ الإيقاد الستة وفحواها: أن يكون السودان قطرا علمانيا ديمقراطيا موحدا أو أن ينال الجنوبيون حق تقرير المصير.. إنه موقف جديد يدعمه سند إقليمي: دول الإيقاد- ودولي: دول شركاء الإيقاد.

لم توافق الحكومة على إعلان مبادئ الإيقاد إلا بعد حوالي ثلاثة سنوات من تقديمه في 1994م، ولكن مبادرة الإيقاد دخلت بعد ذلك طريقا مسدودا،وحاولت المبادرة المشتركة المصرية الليبيبة – التي أيدناها  بكل ما نستطيع- أن توسع الخيارات. ولكن لأسباب ذكرناها في مجالات أخرى تراجعت المبادرة المشتركة. ولأسباب ذكرناها في مجال آخر عدلت الولايات المتحدة سياسة العزل والاحتواء للنظام السوداني وتقاربت من مواقف الاتحاد الأوربي في هذا المجال. الموقف الأمريكي الجديد حقق الإتفاقيات الإجرائية الأربع الموقعة في جنيف في يناير 2002م. وفعل مبادرة الإيقاد بتزويدها بمفاعل دولي (الدول الأربع: أمريكا- بريطانيا- النرويج وإيطاليا) وكلها دول تهتم بالشأن  السوداني لدور إغاثي أو كنسي تلعبه كبير. وحقق بروتوكول ماشاكوس الموقع في 20 يوليو 2002م، ومذكرة التفاهم الأخيرة في نيروبي في 18 نوفمبر 2002م.

إن ما اتفق عليه في الوثيقتين يجد تأييدا شعبيا واسعا في السودان وتاييدا دوليا واسعا خارج السودان.

ثالثا: الرؤى المختلفة حول عملية السلام: ماذا يرجى للتفاوض من نتائج؟ هنالك عدد من الرؤى ألخص أهمها فيما يلي:

الرؤية الأولى: رؤية النظام أو قل جزء هام من صناع القرار داخل النظام. هؤلاء يتطلعون لاتفاق مع الحركة الشعبية وجيشها يكون أشبه باتفاقيات السلام من الداخل بحيث يضع حدا للاقتتال ويقتسم السلطة مع الحركة بصورة تترك نظام الحكم إلى حد كبير كما هو.. هذا خيار التصالح الثنائي الذي لا يمانع في إشراك قوى سياسية أخرى ولكنه إشراك التوالي.

الرؤية الثانية: هنالك رؤية داخل الحركة أو قل جزء هام من صناع القرار فيها، وهم يرون مواصلة التفاوض والاستمرار في خلق واقع عسكري وسياسي ودبلوماسي خارج طاولة المفاوضات-  التحركات العسكرية النشطة أثناء التفاوض والتحركات ا لسياسية الإقدامية مثل مؤتمر كاودا في 4 ديسمبر 2002م- والهدف إقامة سودان معلمن مؤفرق بقيادة الحركة أو جنوب موسع مستقل. هؤلاء تربطهم تحالفات مع بعض دول الجوار وبعض الدوائر الدولية.

الرؤية الثالثة: هنالك رؤية منظمات مجتمع مدني نشطة تتطلع لاتفاقية سلام تحقق أكبر درجة من المكاسب للجنوبيين وغيرهم من المناطق الأكثر تخلفا. ويرون ضرورة ربط اتفاقية السلام العادل بالحكم الصالح في البلاد عامة، وكذلك في الجنوب: الحكم الذي يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية. هؤلاء هم الذين وقفوا وراء مؤتمر كيسومو في كينيا في 16-22 يونيو 2001، وهم وراء تكوين المنبر المدني السوداني Sudan Civil Forum الذي عقد اجتماع عنتبي في 5-12 أكتوبر 2002م، وملتقى القيادات الكنسية وحلفائها في عنتبي في 29 يونيو- 3 أغسطس 2002م، وإعلان كمبالا لمنبر المجتمع المدني لجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق في 21-24 نوفمبر 2002م.

وهنالك الجمعية القانونية السودانية التي يقودها د. بيتر نيوت في رمبيك، وشباب غرب بحرالغزال، وعدد من الجمعيات المقيمة في خارج السودان أو في المناطق التي يديرها الجيش الشعبي.

هؤلاء جميعا يريدون السلام ويرون ضرورة تقرير المصير كوسيلة لضمان حقوقهم، فإن تحقق الإصلاح فإنهم يرجحون وحدة البلاد. وهم يربطون بين السلام وكفالة حقوق الإنسان والحكم الصالح. هؤلاء يمثلون أجندة إصلاحية بتركيز خاص على إنصاف الجنوب والمناطق المتظلمة.

الرؤية الرابعة: خيار الحل السياسي الشامل الذي يقوم على اتفاقية سلام عادل يحقق العدالة والتوازن وعلى تحول ديمقراطي يحقق الديمقراطية المستدامة ويكون أساس الضمان لاتفاقية السلام.. هذه هي الأجندة الوطنية.

هذه الرؤى سوف تسعى جاهدة لتحقيق مكاسب سياسية عبر التفاوض مكاسب سياسية ودبلوماسية ولكنها كلها سوف تسعى للتأييد الأمريكي لماذا ؟ لأن أمريكا وسيط فعال وفاعلية أي وسيط تتوقف على ثقة الأطراف فيه،أو طمعها في نواله،أو خوفها من عقابه، وهذه العوامل كلها أو بعضها تتوافر لدى الولايات المتحدة في نظر كافة أطراف النزاع.

رابعا: الموقف الأمريكي: ماذا وراء الموقف الأمريكي ؟ القائمة الآتية تمثل  المؤثرات على الموقف الأمريكي من الشأن السوداني وبالترتيب المذكور:

أ- الولايات المتحدة تعتبر حربها العالمية ضد الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل أولويتها الأولى.

ب- اللوبيات السياسية والإنسانية والكنسية تريد من الإدارة الأمريكية أن تحقق وضعا فيه إنصاف للجنوبيين.

ج- الشركات الأمريكية تريد موقعا في البترول السوداني.

د- التفكير الاستراتيجي الأمريكي يرى أن تقسيم السودان سيكون ضارا من ناحيتين: الشمال سوف يكون أكثر استعدادا لحماسات إسلامية تؤرق الإقليم شمالا وشرقا، والجنوب سوف يمثل كيانا جديدا يؤثر سلبا على استقرار القرن الإفريقي الكبير.. إذن الوحدة هي الخيار الأفضل.

هـ- الولايات المتحدة تواجه مواقف في سياستها الخارجية مليئة بالمعادلات الصفرية. في السودان فرصة نادرة لمعادلة كسبية.

و- بعد حوادث 11/9 صار التخلص من النظم القهرية وسيلة من وسائل تجفيف مصادر الإرهاب.

لقد قيمت في مقام آخر الموقف  الأمريكي، بإيجابياته وسلبياته وما يينبغي علينا فعله تجاه الولايات المتحدة، وما على أمريكا أن تفعله لتجعل سياستها الخارجية أكثر اتزانا، ولكنني هنا أعرض لمواقف القوى  السودانية المختلفة تجاه الدور الأمريكي الراهن في عملية السلام.

سوف يحاول أصحاب الرؤى الأربع استقطاب تأييد أمريكي:

  • أصحاب الأجندة التصالحية الثنائية سوف يقولون: نحن الأقدر على تكوين حكم قوي مستقر يدعم حربكم ضد الإرهاب مثلما فعل برويز مشرف ونحن الأقدر على إبرام اتفاق مع الحركة الشعبية لذلك الأفضل أن تدعم الولايات المتحدة خيار التصالح الثنائي وتساعد في استيعاب القوى السياسية الأخرى الممزقة وغير المجدية في خانات التوالي.
  • أصحاب أجندة الأفرقة والعلمنة سوف يقولون: هذا النظام طأطأ ليغزو وهو ضعيف وقد ساعد على تمزيق الصف الشمالي كله. وهو يقف بلا سند خارجي الآن لذا يجب إجباره على التنازل ومزيد من التنازل حتى يسقط. لا مانع من قيام الولايات المتحدة بالتوسط ولا مانع من مواصلة التفاوض على أن يعتبر هذا تكتيك لا يؤثر في الهدف الاستراتيجي.
  • أصحاب الرؤية الثالثة سوف يقولون:يجب أن تقوم أمريكا بدور حقيقي يضغط على طرفي النزاع لتحقيق سلام عادل وينبغي أن تعمل على مراقبة تنفيذ الاتفاق لأن السودانيين ملوا الحرب ولأنها كلفتهم كثيرا.ولكن إنهاء الحرب وترك الحكم استبداديا في الشمال والجنوب يجعل الجنوبيين يستبدلون اضطهاد الشمال باضطهاد جنوبي ويترك الشماليين تحت رحمة نظام تعارضه الأغلبية.والصحيح أن تضغط أمريكا لتحقيق السلام والحكم الصالح.
  • أصحاب الأجندة الوطنية سوف يقولون للولايات المتحدة:السلام العادل أولوية ولكن لاضمان لاستدامته اذا لم يربط بالديمقراطية.ويقولون لايمكن الاطمئنان على الموقف المضاد للإرهاب إلا في ظل الشفافية ولا شفافية اذا غابت الديمقراطية.يقولون: اللوبيات الأمريكية سيما في الكونغرس لن تكف عن المزايدات إلا أمام قوى سياسية منتخبة.ويقولون:إن الجنوب لن ينحاز للوحدة إلا اذا حدثت إصلاحات جذرية في حكم البلاد،فان استمر الحكم بنفس صفاته الحالية فالانفصال حتمي.إن السودان الجذاب سودان تبنيه إرادة منتخبة.

خامسا: ما بعد  ماشاكوس ونيروبي:  لقد اقترحنا أن تتصل مباحثات ميشاكوس وأنها بعد تحقيق اتفاق ثنائي تعرض على منبر قومي اقترحنا تكوينه من القوى السياسية التي كانت ممثلة في الجمعية التأسيسية 1986، والقوى السياسية الموالية لنظام الإنقاذ، والقوى السياسية التي أفرزتها المقاومة المسلحة، والقوى السياسية المعارضة للإنقاذ،ومنظمات المجتمع المدني في الشمال والجنوب،وشخصيات وطنية معترف بدورها الوطني والديمقراطي.هذا المنبر هو آلية لتحويل الاتفاق من ثنائي إلى قومي. ويعقب ذلك إبرام ميثاق وطني ينص على ما اتفق عليه وما لا يجوز الاختلاف حوله واقترحنا أن يدرج في الميثاق خمسة مواثيق تحقق التوازن المطلوب هي:

‌أ.             ميثاق ثقافي
‌ب.        ميثاق ديني
  • ميثاق نسوي
  • ميثاق اجتماعي
  • ميثاق عسكري.

نصوص هذه المواثيق اقترحناها. ويرجى أن تسهم هذه المواثيق في تحقيق التوازن  الداخلي المطلوب لإدارة التباين الديمغرافي والعقائدي.

ونرى أن تكتب الدستور لجنة قومية للاتفاق على دستور ديمقراطي مدني فدرالي ملتزم بالتوازنات المطلوبة بعيد عن الثيوقراطية وعن العلمانية،يكفل الحرية الدينية ويتخذ موقفا إيجابيا من الدين أوضحناه،ويستفيد من كافة ثغرات التجربة الديمقراطية لاسيما ما فصلناه في دراسة الحريات الأساسية والتجربة السودانية.ونرى أن المصلحة الوطنية تستوجب التعاهد حول أية نقطة من شأنها أن تحقق الحل السياسي الشامل كأساس لدولة قادرة وعادلة تخلق التوازن الداخلي المطلوب لاستيعاب التنوع والتباين الديمغرافي والعقائدي.

إدارة هذه الدولة ينبغي أن تقوم على السداسية الذهبية:

المشاركة،المساءلة،الشفافية،اللامركزية، الوحدة الوطنية، والعدالة.

سادسا: التطمين المطلوب مهما كان نقدنا شديدا للنظام الحالي فلابد أن يحمد له أنه الأول من نوعه الذي فتح باب الحوار وهو مازال في السلطة.هذا موقف وطني ينبغي أن يقابله من ناحية الآخرين نبذ العنف والتخلي عن فكرة الإطاحة لآلية التحول السلمي فأوضاع السودان لا تتحمل إلا ذلك. والمطلوب ضمن التعاهد الوطني المقترح تطمين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على استبعاد الانتقامات والمرارات واستيعابهما في إطار ما تعطيهم إياه الشرعية الديمقراطية. هذا مع الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا للمساءلة ورفع المظالم.

القسم الثاني: تفصيل العلاج فيما يخص إدارة التباين الثقافي والإثني والديني.

لقد تعرضنا لتشخيص أسباب الداء السوداني وللعلاج بصورة عامة أعلاه. ولقد ظهر في وصف الداء أن مسألة التباين والاختلاف بشأنها وبشأن السياسات المتخذة تجاهها كانت من أهم أسباب تعثر التجربة السودانية. وتعرضنا في باب العلاج بصورة مقتضبة لضرورة التعاقد على مواثيق ثقافية ودينية ونسوية واجتماعية وعسكرية. في هذا القسم نفصل الحديث عن الوحدة الوطنية والثوابت القومية، وعن المواثيق الثقافية والإثنية والدينية، وصولا لإدارة رشيدة للتنوع الديمغرافي والعقائدي في السودان تخلق التوازن المطلوب لدعم السلام.

أولا:  الوحدة الوطنية والثوابت القومية:

في ظروفنا الحالية ينبغي أن نضع أسسا للوحدة الوطنية ونعمل على بناء الوطن عليها. هذه الأسس هي ما يشار إليها بالثوابت القومية أو الوطنية. لقد كانت أبرز التحديات أمام الوحدة الوطنية السودانية هي مسائل التباين الثقافي والديني والتشوهات الهيكلية في الدولة السودانية التي أدت لنشوب الحرب في الجنوب. ولكن مهددات الوحدة الوطنية تزحف نحو جهات أخرى لذات الأسباب، وهي تجد لنفسها موئلا في ضعف الدولة السودانية قياسا بالمجتمع، مما يسمح للروابط الأدنى –الأسرة والقبيلة..الخ- والروابط الأعلى –الأمة- أن تعصف بالرابطة الوطنية وتطغى عليها.

  1. السيادة الوطنية: المسلم يؤمن عقيدة أن كل شيء مسلم لرب العالمين طوعا أو كرها. المستجيبون لرسالات الأنبياء يسلمون طوعا، ولكن ظواهر الطبيعة مسلمة حتما. إن للدعوة الإسلامية خصوصية لأنها الخاتمة ولأنها للناس كافة. ولكن هذا لم يمنعها أن تعترف لرسالات الأنبياء الآخرين بقيمة:( . لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.)*(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ))آل عمران 113-114). قال فيلسوف وشاعر ألمانيا الشهير “قوتة”: إذا كان الإسلام يعني الامتثال لإرادة الله فكلنا مسلمون، البشر يسلمون طوعا والطبيعة تسلم كرها.. هذا الفهم يعني أن الربوبية لله ـ وهو فهم متعلق بطبيعة الأشياءـ الربوبية لله مفهوم انطولوجي.

السيادة الوطنية مفهوم سياسي متعلق بشعب معين، وبإقليم معين. هذا الفهم المتعلق بالسيادة كحقيقة دستورية مبدأ ينبغي الاعتراف به واحترامه كأساس من أسس الوحدة الوطنية. السيادة الوطنية مفهوم سياسي لا يتعارض مع أن الربوبية لله. روى الطبري أن أبا ذر رضي الله عنه قال لمعاوية لا تسمي مال الناس مال الله. أبو ذر لا ينكر أن كل شيء لله. ولكن تسميته مال الناس يفتح باب المساءلة وهذا ما يقصده. السيادة للشعب والربوبية لله. تسمية مال الله في المقابل يفتح باب المفاسد والوصاية باسم الدين.

  1. وحدة الشعب والتراب الوطني: هناك عوامل موضوعية وذاتية خلقت شرخا في الوحدة الوطنية وتسببت في الحرب الأهلية والاستقطاب الحاد الذي نتج عنها. لا نستطيع أن نتجاوز هذا الواقع ونفترض قيام الوحدة الوطنية. علينا أن نجري تفاوضا موضوعيا حرا لتحقيق الوحدة الوطنية على أسس جديدة طوعية. تقرير المصير في هذا السياق هو صمام أمان الوحدة الوطنية وفرصة جادة لتحققها إذا جرى ضمن منظومة الثوابت المذكورة هنا فأفريقيا تتجه نحو مزيد من التوحد لاالتمزق.
  2. الحرية الدينية: الشعب السوداني شعب مؤمن، غالبيته مسلمة وبعضه مسيحي وبعضه يدين بأديان أفريقية. الحرية الدينية وحق الأديان في التعبير عن عقائدها وشعائرها ينبغي أن يكفل دون مساس مع مراعاة شرطين:

الأول: التعايش السلمي والتنافس السلمي بين الأديان.

الثاني: عدم المساس بحقوق المواطنة.

  1. الهوية الثقافية: السودان متعدد الثقافات والاثنيات وينبغي الالتزام بميثاق ثقافي يحدد لغة الخطاب الوطنية، ولغة الخطاب العالمية، ويعترف باللغات واللهجات الأخرى لتتعايش وتتلاقح سلما. يتاح للثقافات السودانية الحرية والتعايش والتلاقح، ويشجع الانفتاح الثقافي إقليميا ودوليا.
  2. التنمية: في عالم اليوم لا يرجى تحقيق السلام الاجتماعي إلا في ظل نظام اقتصادي يحقق التنمية، وتوزيعا عادلا لعائدها.
  3. العدالة: هنالك مظالم اقتصادية، وثقافية، واجتماعية، وجهوية. هذه المظالم تهدد الوحدة الوطنية وتشكل مصادر للتمرد عليها. العدالة من الثوابت القومية. العدالة في المعنويات وفي الاجتماعيات كمركز الثقل في الفيزياء. المركز الذي يدور حوله التوازن. كذلك العدالة هي الأساس الذي يحقق الأمن. الأمن الحقيقي هو الذي يقوم على العدالة
  4. حقوق الإنسان والحريات الأساسية والعامة: إن للإنسان حقوقا تشكل تطلعا للإنسان في كل مكان، وتجد رعاية دولية، والإخلال بها يمثل شرخا داخليا، ونافذة لتدخلات دولية. ضمان حقوق الإنسان وكفالة حرياته الأساسية والعامة من الثوابت القومية.
  5. قومية مؤسسات الدولة: الحكومات تتعاقب. ولكن ثمة مؤسسات نظامية ومدنية مطلوب أن تتخذ طابعا قوميا يحافظ على تماسكها وفاعليتها وقيامها بوظيفتها الدستورية والقانونية.
  6. اللامركزية: السودان قطر في حجم قارة، متعدد المناخات، والثقافات ولا يجدي مع حكمه وإدارته إلا درجة عالية من اللامركزية. لا مركزية فعالة وغير متناقضة مع الوحدة الوطنية. اللامركزية المختارة للسودان هي الفدرالية لأنها تؤمن صلاحيات مركزية وأخرى طرفية محمية بنص الدستور وتسمح بتعدد النظم القانونية في الدولة الواحدة.
  • التداول السلمي للسلطة: الاستيلاء على السلطة بالقوة مهما كانت المبررات مغامرة ضارة بالبلاد، وتفتح جبهات نزاع داخلية، ومنافذ تدخل أجنبي. التداول السلمي للسلطة من الثوابت القومية.
  • الشرعية الدستورية: الشرعية تقوم على أسس موضوعية هي الحكم الصالح، الحكم العادل، وجود أساس للحكم مقبول لدى الحاكم والمحكوم. وأساس ذاتي: وهو رضا المحكومين على الحكام إن يحكموا. لا يمكن تأسيس الشرعية في حكم البلاد على ولاء لأسرة ولا على ولاء لثورة، فالولاء للأسر مختلف عليه كذلك كل “ثورات” البلاد مختلف عليها. كل الثوابت المذكورة هنا ينبغي أن تصبح نصوص دستورية. ومع أن بنود الدستور قابلة للتعديل فإن الشرعية الدستورية من الثوابت.
  • التوازن البيئوي: البيئة الطبيعية هي ميراث الأجيال والمحافظة عليها لاستدامتها واجب إنساني، وديني، ووطني.
  • حسن الجوار: السودان يجاور عددا من البلدان يؤثر فيها ويتأثر بها، ولكن التعامل بينها جميعا ينبغي أن ينطلق من التعايش السلمي، والتعاون، وحسن الجوار.
  • المجتمع المدني: أحزاب السودان ونقاباته وصحفه وكافة منظمات المجتمع المدني تتاح لها الحريات المذكورة أعلاه، وتنضبط بمواثيق تنظم أعمالها وتمنعها عن الإخلال بالدولة الوطنية السودانية.
  • الشرعية الدولية: السودان جزء من الأسرة الدولية والشرعية الدولية، اليوم تقوم على مواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة. النظام الدولي الحالي مثقل بعيوب مطلوب إصلاحها. ولكن الالتزام بالشرعية الدولية وإصلاحها وفق نظمها من الثوابت القومية.
  1. السياسة الدولية والعلاقات الخارجية: ينبغي أن تقوم علاقاتنا الدولية علي الخصوصية بالنسبة لبعض الدول وعلي التوازن بالنسبة للأسرة الدولية.

لأسباب ثقافية ، تنموية ، وأمنية ينبغي أن تكون لبلادنا علاقات ذات خصوصية معينة مع ست مجموعات  من الدول هي :  دول الجوار المباشر –  دول حوض النيل –  دول القارة الأفريقية –  الدول العربية –  الدول الإسلامية – و دولة الفاتيكان .. هذه الخصوصيات من ثوابت العلاقات وإن اختلفت التفاصيل والأولويات . وفي هذا الصدد فإن للعلاقة مع  مصر خصوصية وقد كانت الاهتزازات في تلك العلاقة وسوء إدارتها من قبل البلدين من أهم منابع التوتر لكليهما. يجب أن تتجاوز العلاقة مع مصر العلاقة العاطفية السلبية أو  الإيجابية إلى الوصال  الاستراتيجي.

العالم اليوم يشهد تكتلا جديدا أهم مراكزه سبعة : الولايات المتحدة – الاتحاد الأوربي – روسيا – الصين – اليابان – جنوب آسيا- جنوب شرق آسيا – وأمريكا اللاتينية .. أهم موجهات لعلاقتنا مع هذه المراكز : ألا نتعامل معها كوحدة واحدة وأن نسعي لعقد علاقات ثنائية معها لتحقيق مصالح متبادلة .  ليس في هذا خلاف ولكن للعلاقة مع الولايات المتحدة حساسية توجب السعي لإقامة علاقة تتجنب العداء وتتجنب التبعية .

.. هذه الثوابت الستة عشر مبادئها عامة ينبغي الحصول على تأييد عام لها تأييد اختياري لأن أية محاولة لفرضها أو فرض بدائل لها بالقوة سوف تأتي بنتائج عكسية.

ومع ضرورة الاتفاق على هذه المبادئ العامة فإن مجال الاختلاف حول التفاصيل واسع ومقبول، ومتاح للتنافس بين الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية وحلقات الضغط.

ثانيا: إدارة التباين الثقافي والإثني: الميثاق الثقافي:

أورد النقاط الآتية أساسا لميثاق ثقافي يدرس على نطاق واسع ليتبناه الرأي العام السوداني وقنوات الإرادة الفاعلة فيه، وليصبح بعد ذلك من مكونات مولد السودان الجديد:

أولا: السودان وطن متعدد الأديان والثقافات والإثنيات. المجموعات الوطنية السودانية الدينية، والثقافية، والإثنية، تعترف ببعضها بعضا وتمارس هويتها الثقافية بحرية على أن تلتزم بأمرين: الأول: عدم المساس بحق المواطنة حقا يتساوى فيه الجميع. الثاني: التعايش مع حقوق الآخرين وعدم السعي لتحقيق امتيازات على حسابها.

ثانيا: برامج البلاد التنموية، والتعليمية والإعلامية، تأخذ في حسبانها التنوع الثقافي السوداني، وتسعى للتعبير المتوازن عنه، وتسعى لتمكين الثقافات السودانية من التطور.

ثالثا: السياسة الثقافية في البلاد تتخذ طابعا يوفق بين أهدافها المركزية واللامركزية ويدعم التفاف المواطنين حول المواطنة.

رابعا: الثقافات على تعددها وتنوعها ينبغي أن تتفاعل مع غيرها لتزيد ثراء وإبداعا. الاعتراف  بالهوية الثقافية والاهتمام بها لا يعني منع التلاقح ولا رفض الوافد. هنالك قيم إنسانية عظيمة : الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمعرفة، والنهج العلمي، وكافة القيم المشتركة بين الحضارات. وهناك قيم خلقية عالمية مثل الحكمة، والعفة، والصدق، والإثرة.. القيم المذكورة والقيم الخلقية ينبغي أن تسعى الثقافات السودانية باختيارها لاقتباسها وغرسها تربويا في الأجيال.

خامسا: حقوق الإنسان ينبغي أن تهضمها الثقافات الوطنية وتجعلها جزءا لا يتجزأ من وسائلها للتعبير الثقافي. إن ثقافتنا الوطنية تعاني من كعب أخيل مشترك –مع اختلاف في الدرجة- هو انتقاصها لحقوق المرأة.. ينبغي الاعتراف بهذا العيب النوعي وغرس المساواة الإنسانية في كافة الثقافات.

سادسا: تشجيع التسامح الديني الذي يقوم على الحسنى ويرفض الإكراه، وإجراء حوارات بين الأديان لتحديد المعاني المشتركة بين الأديان الإبراهيمية. كذلك تحديد القيم الأفريقية التي تؤسس علاقات خلقية بين الغيب والإنسان، بين البشر والطبيعة، بين العقلاني والفطري، وبين الأجيال الحاضرة والماضية.. لتدخل في تيار اليقظة الروحية والخلقية في السودان.

سابعا: اللغة العربية هي لغة  التفاهم الأولى بين أهل السودان. وهي اللغة الأفريقية الوطنية الأولى. اللغة العربية هي لغة السودان الوطنية. اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية الأولى، اللغة الانجليزية هي لغة السودان العالمية الأولى. اللغات واللهجات السودانية لغات محلية يعترف بدورها في أقاليمها وتشجع المجموعات الوطنية السودانية على الإلمام المتبادل باللغات السودانية.

ثامنا: التعاون الثقافي بين شعوب حوض النيل، وحزام السافانا، والشعوب العربية والأفريقية على نطاق أوسع، وتشجيع الإلمام المتبادل باللغات السائدة في تلك البلدان.

تاسعا:  استيعاب مقاصد العولمة الحميدة وبناء الدفاع الثقافي ضد العولمة الخبيثة وبرمجة التعامل الثقافي مع العولمة.

عاشرا: رفض حتمية العداء بين الأديان على الصعيد العالمي، ورفض حتمية صدام الحضارات الذي تؤدي إليه نزعة الهيمنة في الثقافة الوافدة، ونزعة الإنكفاء في الثقافات الوطنية مما يقود حتما إلى ظلامية عالمية. والإلتزام بحوار الأديان، وحوار الحضارات.. لإقامة علاقات مستنيرة تحقق الإخاء الإنساني وتليق بمستقبل الإنسان أعز وأكرم الكائنات..

حادي عشر: إشراك كافة الجماعات الإثنية سواء أكانت من الأقليات أو المناطق المهمشة وحماية حقوقها ومصالحها، الاهتمام بها في السياسات التعليمية واللغوية وفي السياسات العامة مثل تمليك الأراضي..الخ. وصك قوانين لمحاربة العنصرية –باستحداث عقوبات شديدة على الجرائم التي تحركها العنصرية- واستخدام وسائل لضمان المشاركة مثل المسح الإثني للتأكد من مشاركة الإثنيات المختلفة في الوظائف العامة والقيام بالحملات التعبوية لنشر الوعي الجماهيري. والتأكد من تمتع الأقليات بالحقوق الأساسية المكتوبة في الواقع.

ثاني عشر: تمثيل كل المجموعات الإثنية في الأجهزة المناط بها تنفيذ تلك السياسات –لا سيما الشرطة التي تباشر حماية الجماعات  المهمشة على أرض الواقع.

ثالثا: إدارة التباين العقائدي: الميثاق الديني

وأورد المبادئ الإحدى عشرة الآتية مكونا لميثاق ديني:

أولا: الاعتقاد الديني ضرورة إنسانية. ضرورة للطمأنينة النفسية،  وللرقابة الذاتية، ولتحصين الأخلاق، وللتماسك الاجتماعي،  ولإقامة هوية جماعية تؤنس وحشة الأفراد..  الإيمان حق إنساني اختياري لا يجوز إجبار الإنسان  عليه ولا حرمانه منه لأنه غذاء الضمير فلا يشبع إلا إذا كان اختياريا.

إن للحياة الإنسانية معان كثيرة مادية، ومعرفية، واجتماعية، وعاطفية، وجمالية ورياضية، وترفيهية، وبيئوية، كذلك إن لها معان روحية وخلقية نزلت بها رسالات الوحي أو تفتقت  عنها الفطرة الإنسانية المتطلعة دائما لإيجاد قيم للأشياء ولاكتشاف غاياتها الغيبية.

ثانيا: لكل دين عقائد وقيم ومبادئ تحددها بوسائلها.. هذه العقائد والقيم والمبادئ ينبغي الاعتراف بها كما يحددها أصحابها. وعلى المجتمع كفالة حرية الاعتقاد الديني، وكفالة حق أصحابه في إقامة شعائرهم وتطبيق شرائعهم وتأسيس معابدهم ونشر تعاليمهم دون  عائق على أن يلتزموا جميعا بالامتناع عن فرض تلك  العقائد بالإكراه أو نشرها بالقوة. وأن يلتزموا بالتعايش مع المذاهب الأخرى داخل الملة الواحدة، ومع العقائد  الأخرى بين الملل والدعوة لعقائدهم بالحسنى وبلا إكراه.

ثالثا: إن  الإله الذي تؤمن به الأديان الإبراهيمية الثلاثة واحد مما يسهل أمر  التعاون الروحي والخلقي بينها.

رابعا: أديان الثقافات الأفريقية على  تنوعها تؤمن بإله واحد مهيمن وإن اختلطت به رموز تعددية في بعضها، وهي تحرص على مفاهيم التواصل بين أجيال البشر حاضرها وماضيها ومستقبلها، وعلى التواصل بين البشر والبيئة الطبيعية حولهم، ولأصحابها حقوق دينية إلا إذا تخلوا عنها باختيارهم.

خامسا: المسيرة  الإنسانية أوقعت ظلما على بعض الشرائح الإنسانية: اضطهادا لونيا، ونوعيا، وثقافيا؛ وشرائح إنسانية مستضعفة لصغر سنها أو لكبر سنها أو لأنها معاقة.. إن الضمير  الديني يتبنى إنصاف هذه الشرائح دعما للإخاء الإنساني.

سادسا: إن على الأديان الاعتراف بحرية البحث العلمي واعتبار المعرفة العلمية في مجالها وهو  اكتشاف حقائق العالم الحسي الزمان المكاني معرفة تجريبية وعقلية صحيحة في مجالها.

سابعا: العولمة باعتبارها سوقا عالميا حرا موحدا بوسائل  الاتصال الحديثة تمثل حلقة نافعة وجديدة في تطور الإنسانية ولكن للعولمة سلبيات  اجتماعية وبيئوية يجب التخلص منها، كما لا ينبغي إغفال الخصوصيات الدينية والثقافية للبشرية.

ثامنا: على الصعيد  الوطني ينبغي كفالة حرية الأديان،  والالتزام بحقوق المواطنة المتساوية كأساس للحقوق الدستورية. ولا يجوز للدستور أو  القانون أم يمنح امتيازا أو يفرض حرمانا لأية مجموعة سودانية بسبب انتمائها الديني.

تاسعا: الالتزام  على الصعيد  الدولي بمواثيق حقوق الإنسان العالمية والمطالبة بإبراز جذورها الروحية والخلقية ترسيخا لها في النفوس.

عاشرا: إن للروابط الدينية علاقات أممية ينبغي الاعتراف بها على ألا تكون  على حساب حقوق المواطنة المتساوية ولا على حساب المواثيق العالمية لحقوق الإنسان.

حادي عشر: تكوين آلية مستقلة تمثل الطيف الديني في السودان لمتابعة الالتزام بهذه المبادئ والعمل على أن تكون جزءا لا يتجزأ من اتفاقية السلام العادل.

ختام:

السودان بلد بأهله وحجمه وموارده الطبيعية وطن واعد. صحيح أن مشاكلنا استعصت علينا ولكنها صعوبات أكثرها موضوعية ولذلك قابلة للتناول العقلاني. لقد قلت لكثير من الزوار الأجانب المشغولين بالشأن السوداني وبالمنطقة الجيوسياسية المحيطة بنا أن السودان وإن طفحت مشاكله للسطح وساءت سمعته فإن مشاكل الدول الأخرى في جوهرها أكثر تعقيدا، ومن ثم أعصى على الحل من مشاكل السودان، وكان غالبيتهم بعد نقاش بسيط يوافقونني.

إنني مراهن على استطاعة السودان تخطي أزماته والتفوق على أقرانه وإلا ما رهنت حياتي لهذه المهمة، فعندي ولله الحمد خيارات كثيرة مجدية.

لا يرجى للسودان مستقبل استقرار وتنمية ما لم تحسم قضية الشرعية.

النظام الديمقراطي نظام كثير العيوب سهل الاختراق إذا وجدت جماعة سياسية مصممة على استغلال الحريات التي يكفلها للإطاحة به.

ولكن نظريا، وعمليا، البدائل المتاحة له أسوأ منه أضعافا مضاعفة.  المطلوب أقلمة الديمقراطية ثقافيا واجتماعيا على نحو ما اقترحنا لتحقيق الديمقراطية المستدامة.

دعوة تقرير المصير هي المردود  العكسي للتوجه الحضاري ولكن التعامل الصحيح مع  هذه الدعوة يقوم على ركيزتين هما:

  • توضيح أن الانفصال يخلق مشاكل أكثر من مشاكل الوحدة. منها أنه يفتح بابا للحروب داخل الجنوب بشكل غير مسبوق فالنزاعات الجنوبية الجنوبية الحالية –ناهيك عن تلك  التي يمكن أن تنشأ بعد الانفصال- كبيرة جدا، جاء في دراسة حقلية قام بها جوك مادوت جوك من جامعة لوبولا ماري بونت في لوس أنجلوس، وشارون ألين هتشنسون في جامعة وسكونسن أن: عدد  الضحايا الذين لقوا حتفهم بسبب الصراعات الجنوبية الجنوبية خاصة بين الدينكا والنوير يزيد على عدد  الذين قتلوا في النزاع الشمالي الجنوبي ما بين عامي 1983 و1999م. وفي مجال آخر فصلنا أسبابا أخرى للتشبث بالوحدة.
  • العمل على الإصلاح الوطني بالصورة المتوازنة العادلة التي تنصف كافة المواطنين.

.. الأطروحة المقدمة هنا ستجد سنداً شعبياً عريضاً وسنداً دولياً عريضاً.. سنداً يتجاوز العصبيات الحزبية لخلق استقطاب قومي يرجى أن يكون غالبا وإن أفسح مجال التعبير الديمقراطي فإنه سيحظى بتأيد واسع.

ولكن سيوجد داخل الجسم الشمالي من يرفضه تمسكا بالمصالح الشمولية وبالتشدد الإسلامي ولكنه رفض مغلوب إلا إذا استطاع رواده وأد التحول الديمقراطي والعودة للمربع الأول في وجه الزخم الشعبي والمناخ الدولي.

وسيوجد داخل الجسم الجنوبي من يرفضه بموجب ثلاث حجج:

الأولى: الإحتجاج الأثني الذي أثارته أجندة التشدد الإسلامي كون تشدداً إثنياً مضاداً يتطلع للإحلال لا للتوازن.

الثانية: كثير من الشماليين المحالفين للحركة الشعبية يريدون -على لسان ستيفن واندو- أن يحققوا أهدافهم الأصولية العلمانية بتضحيات جنوبية.

الثالثة: اليمين الغربي لاسيما في الولايات المتحدة يؤيد أطروحة السودان البديل.

ليس لهذين الموقفين الحديين -الشمالي والجنوبي- فرصة نجاح إلا في اطار تحكمي انقلابي، ولكن إذا توافرت الديمقراطية وتواصل الإهتمام الدولي الحميد وما يصحبه من وسائل مؤثرة فإن أطروحة الإعتدال والتوازن سوف تعبر عن صوت الشعب السوداني المدعوم بالرأي العام العالمي، وأقول بعناية الله.

 

 

المراجع :

مراجع عربية

  • الصادق المهدي: التجربة السودانية والحريات الأساسية – القاهرة- 1997م – ورقة مقدمة لورشة حزب الأمة الفكرية السادسة. وهي منشورة في:
  • الصادق المهدي رؤى في العروبة والديمقراطية والإسلام– 1999م
  • الصادق المهدي جدلية الأصل والعصر- دار الشماشة– الخرطوم-2002م
  • الصادق المهدي: المهدي نحو استراتيجية ثقافية شاملة للسودان في مطلع القرن الحادي والعشرين ورقة في كتاب الثقافة والتنمية الشاملة– أوراق مؤتمر مركز الدراسات السودانية- القاهرة 1999م.
  • الصادق المهدي المنظور الإسلامي للتنمية الاقتصادية- لندن 1984م.
  • الصادق المهدي: السودان وحقوق الإنسان– دار الأمين- القاهرة- 1999م
  • الصادق المهدي الوحدة الوطنية والثوابت القومية- محاضرة في قاعة الصداقة- 2 يوليو 2002م
  • الصادق المهدي: النظام السوداني وتجربته الإسلامية-لندن- 1984م
  • الصادق المهدي خطاب إلى  السناتور جون دانفورث- أكتوبر 2002م
  • الصادق المهدي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور إسلامي- جنيف 1998م
  • الصادق المهدي: الإسلام وحقوق الإنسان والحريات العامة بيروت –1999م.
  • لجنة جمع أدب الحل السياسي الشامل بحزب الأمة أدبيات الحل السياسي الشامل: الفترة من يونيو 1989- أغسطس 2002م– الخرطوم- أغسطس 2002م- مطبعة نيوستار

 

مراجع إنجليزية

  • United Nations Millennium Declaration  , UN publications.
  • Arab Human Development Report 2002,UNDP publications, 2002. (also available in Arabic)
  • World Conference Against Racism Multi-ethnic States and the Protection of Minority Rights,