مقدمة لكتاب المهدية والمسرح المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة لكتاب المهدية والمسرح المصري

20/2/2016م

الإمام الصادق المهدي

طلب مني الصديق والنجم السينمائي والمسرحي علي مهدي أن اطلع على الكتاب الذي ألفه وجمع وثائقه د.سيد علي إسماعيل، وبما أنني مهموم بموضوعين هما تصحيح ما انتشر لدى بعض الأوساط من مفاهيم دينية وفكرية خاطئة عن المهدية، والموضوع الثاني القراءة الخاطئة لأحداث تاريخ دولتي وادي النيل السودان ومصر ودور تلك القراءة الخاطئة في تفخيخ العلاقة بين الشعبين استجبت للطلب بحماسة.

أقول:

الجزء الأول من الكتاب متعلق بنصوص من صحيفة أبو نظارة التي كان يصدرها جيمس سنوا الذي استعار اسماً عربيا هو يعقوب صنوع.الصحيفة كانت هزلية وتكتب بالعامية فإذا قورنت بمجلة عربية كانت متزامنة معها وتصدر في باريس يحررها الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لظهر تدنيها الصحافي مع أن موضوعهما كان واحداً: فكلاهما معارضان للاحتلال البريطاني لمصر. وكلاهما معارضان للخديوي توفيق باعتباره صنيعة بريطانية. وكلاهما يظهران تعاطفاً مع الثورة المهدية. ولكن تعاطف العروة الوثقى أصيل وينطلق من التطلع لتحرير الأمة الإسلامية من الإمبريالية وتوحيدها. بينما أبو نظارة جزء من صراعات البيت المالك في مصر معتمدة على دعم الأمير عبد الحليم المناوئ لتوفيق.ولكن لا يخفى أن الصحفيتين كانتا تظهران حقيقة أن الشعب المصري كان ضد السلطة الخديوية باعتبارها غير وطنية؛ وكان الشعب المصري إذا قيس بالشارع السياسي الإسلامي الذي عبرت عنه العروة الوثقى أو بالشارع الوطني الذي عبر عنه العرابيون، تعاطف مع الثورة المهدية.

الفهم المصري الجاد والمحيط بالحقائق ظهر في كتابات عدد من علماء ومفكري مصر. في كتابه “المهدية في الإسلام” استعرض العالم الأزهري سعد محمد حسن دعوات المهدية في الإسلام ثم قال “حتى ليعد محمد أحمد بحق خير من ادعى المهدية”. وقال د. عبد الودود شلبي في كتابه “الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته”: كانت حركة تمثلت فيها كل حركات الإصلاح في عصره”. وقال الشيخ محمد أحمد بن إسماعيل في كتابه “المهدية حقيقة لا خرافة”: كان المهدي (السوداني) عالماً زاهداً مجاهداً حسني النسب صحيح عقيدة الولاء والبراء حرر بلاده وأصلح حالها بأحكام الشريعة الإسلامية”. وقال الأستاذ عبد العليم عبد العظيم البستي في “رسالة ماجستير”: “توفرت في المهدي صفات الزعامة المهدية إلى جانب نسبه للأسرة الحسنية وورعه وزهده”. وقال د. محمد عمارة في كتابه “الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري”: كانت سلفيتها تجديداً يتحدى التخلف العثماني ويعود بالأمة إلى حضنها العتيد – الإسلام-  لتواجه التحدي الحضاري بجناحيه العثماني المتخلف والاستعماري الغربي التغريبي”.

ولكن قلم الاحتلال الإنجليزي أفلح في تحويل البلاط الخديوي وجعله مجرد أداة للاحتلال.

رئيس قلم المخابرات للجيش المصري الذي كان تحت قيادة بريطانية وهو رجنالد ونجيت وضع خطة كاملة لشيطنة المهدية وكلف عدداً من الكتاب أن يكتبوا عن المهدية الكتب الآتية:  نعوم شقير، وكتاب إبراهيم فوزي، وكتاب سلاطين، وكتاب أهرولدر، وكتاب ونجيت نفسه مؤلفات سماها الأستاذ بيتر هولت المؤرخ البريطاني: كتب دعايات حربية.

المسرحيتان المذكورتان في الكتاب وهما المهدية وفتح الخرطوم، بقلم نجيب حداد، وتحت العلم بقلم عبد الرحمن رشدي مع أنهما عرضتا في تاريخين مختلفين تماماً في 1897 و 1926 اتفقتا في شيطنة المهدية وفي الإساءة لشخصية المهدي والخليفة عبد الله، وفي وصف الأنصار بأسوأ العبارات التي ألفها كتاب الدعاية الحربية ولكنهما زادتا بالإشارة لشهوانية المهدي وقسوته هو والخليفة عبد الله. مسألة الشهوانية هذه ثيم ابتدعه كاتب فاتنة المهدي، وفي رواية المهدية وفتح الخرطوم يقول لأمينة التي عشقها: لك يا مليكة مهجتي وفؤادي من عبدك المهدي تحية هادي!

والروايتان تنضحان عنصرية مصرية تجاه السودانيين. فأمينة تقول عن المهدي:

ولـــم يكفني ذلي وأسري فـــزاده                   أساسا وذلا عشق ذا الأسود الوغد

وفي مسرحية تحت العلم يقول ضابط مصري عن الأنصار: هؤلاء الكفرة الدراويش لا نقبلهم خدامين عندنا.

والروايتان تركزان على أن السودان صار ملكاً لمصر بحق الفتح، وأن مصر الخديوي محقة في أنها تسترد حقها في السيادة على السودان. قالت أمينة للمهدي في الرواية عن مصر والسودان: المسترد الملك ليس بعادي.

المسرحيتان تظهران المصريين غزاة إمبرياليين، عنصريين، يحقرون خصومهم!

ينبغي أن ندرك قوة المسرح في تكوين الرأي العام لأن هذه المفاهيم صارت جزءً يلون مشاعر كثير من المصريين، وبالتالي مما يحمله كثير من السودانيين.

الأنصار مكون مهم من مكونات الشعب السوداني. وغير الأنصار من السودانيين يعتبرون المهدية الدعوة الموحدة والمحررة لبلادهم والتي شهرت السودان وجعلته مركز عطاء لا مجرد استجابة.

إن الوجدان السياسي حول المهدية في السودان راسخ في نفوس كثيرين:

  • الأنصار وحزب الأمة يعتبرون الإمام المهدي وامتداد دعوته بقيادة الخليفة إمام الدين وموحد ومحرر الوطن.
  • كثير من دعاة الحركات الإسلامية في السودان يعتبرونه مرجعهم.
  • الوطنيون بمن فيهم اليساريون يعتبرونه البطل الوطني الأهم في التاريخ السوداني الحديث.
  • العروبيون يعتبرونه بطل العروبة في وجه الانسلاخ.
  • الافريقانيون يعتبرونه مهندس الهوية المركبة لسكان السودان المنتصر لدورهم فيه. الاشتراكيون يعتبرونه المؤسس للاشتراكية والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة ومراعاة حقوق المستضعفين.

فهل يمكن مع اللفظ والإساءة الشديدين للمهدية أن تقام علاقة مع سودان هذه مكونات مهمة في وجدان أهله السياسي؟ صحيح هنالك عناصر دينية وقبلية عارضت المهدية خاصة فترة الخليفة عبد الله هؤلاء وحدهم هم الذين تبنوا العداء للمهدية وتجاوبوا مع الدعاية الحربية.

كثيرون في الطبقة الحاكمة في مصر ورثوا هذا الموقف العدائي للمهدية وصار يشكل وجدانهم السياسي، وجمع بينهم وبين جماعات سودانية معادية للمهدية، وهم جميعاً صاروا أبواقاً للهندسة البريطانية التي رسمها الجنرال ونجيت.

الوطنيون المصريون والإٍسلاميون بل كافة الاستراتيجيين في مصر مطالبون بإجراء مراجعات أساسية معالمها:

  • الانتقال لرؤية أكثر موضوعية للمهدي والمهدية من أجل مصالحة تاريخية مع ماضٍ ظلموه.
  • مراجعة أخرى: هي التخلي عن تبني الغزو العثماني للسودان واعتباره تمدداً لمصر، فمصر نفسها تحت السلطان العثماني كانت تحت وصاية أجنبية حقيقية تفسر الثورة العرابية.
  • كذلك مطالبون بمراجعة أخرى هي عدم اعتبار الاحتلال الثنائي للسودان عام 1899م فتحاً مصرياً بل كان غزواً بريطانياً استخدم مصر ديكوراً لأغراضه. وعندما نهضت الوطنية المصرية رافضة الهيمنة البريطانية في ثورة 1919م استغل البريطانيون حادث اغتيال السير لي إستاك في القاهرة لإنهاء الدور المصري في السودان.

المؤسف مرة أخرى أن بعض عناصر الطبقة الحاكمة في مصر جيرت تجربة الحكم الثنائي لصالحها وأسست عليه المطالبة بالسيادة على السودان ومررت علاقتها بالسودان عبر الفئة السودانية الرافضة للمهدية، وبالتالي استفزت الأكثرية السودانية المطلقة.

نحن بل أكثرية أهل السودان التي تنظر إيجابياً للمهدية نؤسس موقفنا المنشود مع مصر على أساس روابط دينية، وثقافية، واقتصادية، وجيوسياسية لا على رواسب التجربة الخديوية ولا العثمانية ولا البريطانية ونتطلع لمواقف مماثلة في مصر.

أهمية هذا الكتاب عن دور المسرح في الثورة المهدية أنه يفسر كيف غرس الوجدان السياسي المصري المعادي للمهدي والمهدية فصار نبعاً يستمد منه روائيون ومسرحيون وساسة مسرحيون أمثال حداد ورشدي كما سجلها هذا الكتاب. وروائيون أمثال جورجي زيدان، وصاحب شوق الدرويش. وسياسيون أمثال صدقي والنقراشي، وحتى لجنة جائزة نجيب محفوظ فهم لم يمنحوا الرواية الجائزة لجودتها الروائية فهي سطحية ومقتبسة من غيرها بل لأنها دغدغت وجدان أعضائها السياسي الوجدان الذي غرسته السلطة العثمانية والسلطة البريطانية وهو وجدان مضاد تماماً – كما رأينا- لمواقف رواد الفكر الإسلامي والوطني في مصر.

الاحتلال البريطاني هو الذي هندس تلك الدعاية الحربية ما خلق ردة فعل مضادة قوية لونت موقفاً مصرياً معادياً لأنصار المهدية وموقفاً سودانياً معادياً لمصر.

هذا التلوين الخبيث ما زال موجوداً فأنا عندما شرعت في العمل على محوه في أوساط سودانية وجدت معارضة شرسة. أما في مصر فعندما وقع انقلاب يونيو 1989م رحبت به القيادة المصرية دون معرفة كنهه المهم في نظرها أنه نحى حزب الأمة من السلطة، حتى فوجئ الرئيس المصري السابق بأن من أيدهم حاولوا اغتياله وهبطوا بالعلاقات بين البلدين إلى أسفل سافلين. والدليل على رسوخ هذا التلوين الخبيث أن أحد قناصل مصر في السودان رغم ما فعله الحكام الانقلابيين بالعلاقة بين البلدين قال: لن نسمح لحزب الأمة أن يحكم السودان!

صحيح أن في مصر رؤية أخرى حميدة حتى في تعليق كتبه المراقبون حول مسرحية تحت العلم إذ قال عن المسرحية كما جاء في الكتاب: أنها سقطت سقوطاً غير مسبوق، والسبب أن تأليف الرواية وعرضها غير مناسبين في هذا الزمن (نوفمبر 1926)، وهو وقت احتد فيه التناقض بين الحركة الوطنية في مصر وفي السودان. هذا هو الشعور المصري الأصيل ولكن المسرحية كانت تمثل رواسب الدعايات الحربية الخبيثة.

والمدهش أن رواية (شوق الدرويش) التي منحتها لجنة جائزة نجيب محفوظ لم تدرك الدور السلبي الذي لعبته مفاهيم شيطنة المهدية في تلويث العلاقة بين الشعبين ومنحوها الجائزة دون وزنها كرواية سطحية وسخيفة ومقلدة تماما لرواية فاتنة المتمهدي. لم تهتم اللجنة بوزنها الروائي ولكن قدرت أن فيها صدى لمشاعرهم المعادية للمهدية.

نعم هنالك مصريون يدركون هذه الحقائق. فمثلاً عندما تحمس الحكام لانقلاب يونيو 1989م كانت هنالك أقلام قوية مضادة أذكر منهم الأساتذة: أحمد بهاء الدين، وخالد محمد خالد، ومصطفى أمين رحمهم الله.

هذا الكتاب مهم لأنه دليل على كيفية قيادة قلم المخابرات الإمبريالي الرأي العام المصري في مرحلة تاريخية رسخت فكرة السيادة المصرية على السودان لأن الإمبريالية كانت هي المستولي على السيادة على مصر، وأوهموا مصر بفكرة استرداد ملكها في السودان مع أنها في الحقيقة استخدمت هذه الذريعة للاستيلاء على السودان باسم مصر ثم إبعاد مصر. سموه حكماً ثنائياً ولكنه في الحقيقة حكم بريطاني وعاش الرأي العام المصري وهماً كبيراً صورته تلك المسرحيات التي بلعت وهماً كبيراً.

إنما يجمع بين مصر والسودان من روابط معنوية، ومادية كثير.

بعضنا في السودان يبيعون لمصر وهماً آخر وهو تبعية السودان للتاج المصري وللسيادة المصرية ويجدون في مصر حكاماً يتجاوبون مع هذه الأوهام ويتحفونهم بالمعنويات والماديات. وبعضنا في السودان وأنا منهم نرفض رواسب الماضي ونرفض التبعية ولكن نعتقد أن هنالك مصير مشترك نبنيه من منطلق الندية والمصلحة المشتركة. ونتطلع لشركاء في مصر يتحررون من الرواسب السالبة المذكورة ولا يستمعون للذين يبيعونهم تبعية لا يستطيعون تسليمها.

الاباة، الصحاة، الحماة، في وادي النيل عليهم التحرر من الرواسب الخبيثة، ومن التعلق بعلاقات استعلاء وتبعية مريضة، ليصير وادي النيل المصري السوداني عظم الظهر لتكامل حوض النيل، وتكامل أوسع مع جيراننا شمال الصحراء وجنوب الصحراء.