نحن والأطلسي وحادث نيوزلندا

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن والأطلسي وحادث نيوزلندا

22/3/2019م

مقدمة

ذكر ارنولد توينبي أهم مؤرخي هذا العصر في كتابه المرجعي “دراسة في التاريخ” أن الإنسانية عرفت ثماني حضارات إنسانية. هذه الحضارات حتماً تتداخل وتتنافس، وكان التداخل والتنافس بين حضارتنا والحضارة الغربية أكثرها في المجالين في تاريخ الإنسانية.

الحضارة الغربية انطلقت من أصول يونانية رومانية متأثرة بحضارات أخرى فرعونية وفينيقية وهندية، ثم اعتنقت الدولة الرومانية الديانة المسيحية فصارت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية وصارت إمبراطورية عالمية واعتبرت  العالم المعمور كله تحت سلطانها. ولكن السلطان الكنسي قتل حيويتها، وتراجعت أوربا باستمرار حتى بلغت غاية الانحطاط فيما عرفت بالقرون الوسطى.

بالمقابل أدت الرسالة المحمدية في القرن السابع الميلادي لميلاد حضارة جديدة بلغت من الاتساع والتمدن في ثمانين عاماً ما لم تبلغه الحضارة الرومانية في ثمانمائة عام.

وبينما توحشت أوربا في قرونها الوسطى، تألقت عواصم العالم الإسلامي في دمشق وبغداد والقاهرة و طليطلة، عامرة بالثقافة والتوقد الفكري مجسدة حضارة إنسانية.

قال روبرت بريفلوت (1876- 1940م) في كتابه “تكوين الإنسانية”: التنوير الحقيقي لأروبا هو الذي حدث نتيجة إحياء العرب الثقافي لأوربا. أسبانيا بوابة هذا الإحياء وليست إيطاليا، إنها مصدر المولد الحضاري لأوربا.

الكيانات السياسية التي كونتها الحضارة الإسلامية في سلطانها الأموي، والعباسي، والمغولي، والعثماني هو الذي هيمن على العالم المعمور لمدة ألف عام من القرن السابع للقرن السابع عشر. وسلطان المسلمين السياسي حاصر أوربا من الجنوب- معركة بلاط الشهداء، ومن الشرق – حصار فينا.

قال العالم المعروف مونتجمري واط في كتابه عن أثر الحضارة الإسلامية على أوربا إن هذا التأثير كان بالغاً وشاملاً، وقال: إن مشاعر الغربين نحو الإسلام كانت في الغالب شبيهة بشعور الطبقات المحرومة في دولة كبيرة. هؤلاء يتجهون لانتمائهم الديني للتعبير عن خصوصيتهم في مواجهة الطبقات العليا. هكذا فعل الأوربيون تجاه الحضارة الإسلامية المتفوقة. تحصنوا بمذهب القديس جيمس الكمبستولي، واندفعوا في حماسة الحركة الصليبية. كذلك شوه الكتاب والقادة في أوربا صورة الإسلام لتعويض أنفسهم عن شعورهم بالدونية.

وقال: “أروبا كانت تخشى من الإسلام على هويتها. لذلك أنكرت دينها له وبالغت في اعتمادها على التراث اليوناني والروماني. لذلك فإن علينا اليوم أن نخلص أنفسنا من هذا الزيف. وأن نعترف بحجم ديننا الحضاري والثقافي للعالم الإسلامي”.

نعم الحضارة الإسلامية هي التي أيقظت أروبا من سبات القرون الوسطى، ولكن بينما تدنت حضارة المسلمين لأسباب متعلقة بثلاثة عوامل هي حكم الاستبداد، وجمود الفكر، وتكلس الفقه، فإن الحضارة الأوربية شهدت ثلاث ثورات: ثورة سياسية حررت الشعوب من الطغيان، وثورة اقتصادية سخرت قوى الطبيعة للاستثمار والإنتاج، وثورة علمية تكنولوجية اكتشفت ووظفت نواميس الكون للإنسان.

الحضارة الحديثة طورت آلات تنظيم وفتك عسكرية مكنتها من غزو العالم المعمور كله، واستيطان  العالم المجهول في أمريكا واستراليا ونيوزيلندا. هكذا صارت الحضارة الغربية حضارة غزو احتل العالم المعور واستوطن العالم المجهول.

ومع أن بلاد المسلمين صارت تحت الاحتلال الأوربي فإن للإسلام قوى روحية ومعنوية وأخلاقية هائلة. كتابه القرآن هو الأوثق نصاً بين الكتب المقدسة. رسوله هو من بين الأنبياء المعلوم في سجلات التاريخ. وهو يعترف للإنسان من حيث هو بكرامة ففي اليهودية التكريم عرقي، وفي المسيحية الكرامة مرتبطة بالتسليم بالفداء وإلا فلا كرامة. وهو بين الأديان يعترف بالتعددية الملية والتنوع الثقافي. وهو الذي بالفهم الصحيح يوفق بين الإيمان بحقائق الغيب والتسليم بأن حقائق عالم الشهادة مجالها العقل والتجربة، ما يجعله أكثر المنظومات الدينية معقولية. ومع نجاح فتوحات الدول الإسلامية في التنافس بين الدول المعاصرة فإن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كما وثق لذلك السير توماس ارنولد. حقيقة يؤكدها كذلك أن الإٍسلام انتشر في جنوب شرق آسيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء سليماً وأثناء ضعف الكيانات السياسية للمسلمين.

ورغم تشويه صورة الإسلام لدى بعض المستشرقين كما وثق لذلك د. إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام Covering Islam” فإن الإٍسلام ما انفك ينتشر حتى في الدول الغربية: ظاهرة الإسلاموفيليا “أي حب الإسلام”.

هنالك ظاهرتان أخريان مهمتان في أمر العلاقة بين المسلمين والحضارة الغربية. الأولى ظاهرة هجرة مسلمين لأوربا بأعداد كبيرة. إن لهذه الظاهرة صلة وثيقة بأخطاء السياسات الغربية في المناطق الإسلامية كدعم حكومات الطغاة، وتغريب الثروات، والفتك بالحركات الإصلاحية مما كان له أثر كبير في الهجرات إلى الدول الغربية.

والظاهرة الثانية هي ظاهرة الغلو بين المسلمين والعنف المصاحب له. إن غرس إسرائيل كجسم غريب في المنطقة وتزويده بإمكانات دولة عظمى كان له دور كبير في الغلو والعنف المصاحب له. كذلك فإن أخطاء السياسات الغربية في المنطقة هو الباعث لحركات الغلو الحديثة. فقبل أفغانستان لم تكن القاعدة. وقبل احتلال العراق لم تكن داعش.

نعم هنالك اجتهادات إسلامية تكفيرية ولكن أخطاء السياسات الغربية هي التي أفرزت الغلو والعنف المصاحب له الآن. وجهت حملات دولية ضد القاعدة وضد داعش حتى دمرت دولة “الخلافة”، ولكن القاعدة وداعش سوف يستمران ويواصلان “جهادهما” في شبكات. فتصدر دول غير إسلامية للحملة ضدهما تكسبهما مصداقية “جهادية”، لدى أوساط، وحدة التوتر الطائفي داخل الجسم الإسلامي بين سنة وشيعة، وحدة التوتر بسبب التسلط الإسرائيلي ومقاومته؛ عوامل تساهم في زيادة هشاشة الدول، وفي فتح المجالات للقاعدة وداعش. وغباء بعض الدول الذي يراهن على دعم التوتر الطائفي بين السنة والشيعة، والذي ينحاز للتسلط الإسرائيلي إنما يزود الغلو والعنف المصاحب له وينزل برداً وسلاماً على القاعدة وداعش.

إن للسياسات الغربية في المنطقة دوراً مهماً في الغلو والعنف المصاحب له بين مسلمين.

أحداث العنف المنسوبة لمسلمين، وكمية المهاجرين للغرب، وكما رأينا فإن للسياسات الغربية دوراً فيها، أفرزت غضباً من حجم المهاجرين، وخوفاً من تأثيرهم على هوية البلدان الأوربية. لذلك كثرت المؤلفات التي تدق نواقيس الخطر. أذكر منها ثلاثة كتب: كتاب “يوريبيا” بقلم بات يئور Bat Ye’or وهي تقول فيه إن أوربا سوف تفقد هويتها لتسمى يوريبيا. وكتاب: “بينما أوربا نائمة” لبروس باور، ويقول إن سكان الغرب إلى تناقص وغيرهم إلى تزايد. وكتاب: “فرصة الغرب الأخيرة” بقلم توني بلانكي الذي يتساءل هل سوف نكسب الصدام بين الحضارات؟

مفهوم صدام الحضارات هذا صاغه برنارد لويس وهو يعرف الحضارة الإسلامية بصورة جامدة والحضارة الغربية بصورة حية مما يؤدي للصدام.  وهو يقول إن المسلمين لا يعادون الغرب بسبب المظالم، أو بسبب غرس إسرائيل بل يعادونه لتراثه. إنه بذلك يريد أن يقدم الحجة لوقوف الغرب سنداً لإسرائيل في وجه  هذه الحضارة العدوانية. وهذا ضد منطق الأشياء. فبعد أحداث سبتمبر 2001م أجرت هيئات استطلاع رأي غربية عديدة: غالوب Gallup، والبي بي سي، وبيوPEW، وزغبي، قياسات للرأي للكراهية العربية والإسلامية لأمريكا ووجدتها متعلقة بسياساتها لا بذاتها، وأنها نفس الأسباب التي جلبت لها كراهية الشعوب الأوربية وشعوب أمريكا الجنوبية، بل وجدت تلك القياسات أن أغلبية العرب والمسلمين معجبون بالحرية والحيوية والإنتاجية والتفوق التكنولوجي في أمريكا ولكنهم ناقمون على سياساتها: سياسات العدوان، والتعامل غير المتكافئ مع أهلها، و دعم الطغاة، وازدواجية المعايير كما في أبو غريب، وغونتنامو، ودعم العدوان الصهيوني.

أي أن الكراهية لها أسباب موضوعية. كما أن الشعوب العربية والإسلامية تسجل مواقف إعجاب بالشعوب الغربية، فهي قد استنكرت غزو العراق، والصحافة الغربية هي التي كشفت وأدانت ممارسات أبوغريب وغونتنامو. هناك تيارات وعي وإنصاف قوية في كثير من الأوساط الغربية، وما فعلته الفتاة الأمريكية اليهودية راشيل كوري Rachel Corrie في مارس 2003م، إذ رقدت أمام الجرافة الإسرائيلية التي تهدم بيتاً فسلطينياً، تضحية لا تجارى.

ومثلما وجد كتاب معادون للإسلام فهناك بين الغربيين أعداد كبيرة من المنصفين للإسلام والمسلمين، بل إن الذي نفى بصورة موثقة عن الإسلام الانتشار بحد السيف هو السير توماس ارنولد.

جريمة الشاب الأسترالي التي ارتكبها في مسجدين في نيوزلندا ليست معزولة. هنالك تيارات عنصرية انطلقت في البلاد الغربية وارثة لتراث العداء للإسلام والمهاجرين، ولجهلها لا تعلم كما أوضحنا أن كل تلك المآخذ تعود لأخطاء سياسية ارتكبتها دول غربية، أخطاء موثقة ومعترف بها، وحتى فكرة الغزو فإن الغربيين هم رواده الأكبر بلا منازع، ومع ذلك فإن في الحضارة الغربية إنسانيات رائعة (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)[1].

لولاَ اشتعَالُ النَّارِ فيما جَاوَرَتْ         ما كَانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْف العُودِ

حكومة نيوزيلاند وشعبها جففوا الدماء ومسحوا الدموع بفيض إنساني لا يجارى. سلام على السيدة رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن، وعلى حكومتها، وعلى شعب نيوزيلاندا فقد انتصروا للإخاء الإنساني وعزلوا الغلاة والبغاة في سائر بلاد الغرب. رحم الله شهداء المسجدين وعجل شفاء الجرحى. تقبلهم الله مع الصالحين، وفي الدنيا فإن ما حدث لهم شكّل استفتاءً اصطف فيه الأخيار معهم.

كتب روبرت شنقلر كتاباً بعنوان “هل كان المسيح مسلماً؟” وأجاب بنعم. وأصدر عالمان في جامعة واشنطن مقياساً للأسلمة استمداه من 113 قيمة في الأخلاق والمعاملات وطبقاه على دول العالم فكانت في الصدارة دول غربية عادلة أما الدول المسماة إسلامية فالأولى كانت ماليزيا رقم 34.

أنا عاكف على كتابة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعنوان “الإنسان رسول الإنسانية”. هذا مسنود بتفسير تدبري مقاصدي يؤكد أن الإسلام أكثر الملل اعتباراً للعقل والمعارف التجريبية. حقائق سوف تعترف بها  وتقرها الإنسانية جمعاء، كما أن الإنسانية جمعاء سوف تعترف وتقر للحضارة الغربية عطاءها الإنساني والعلمي والتكنولوجي.

أقول، أشار صمويل هنتجتون في كتابه عن صدام الحضارات لأن مشكلة الغرب الحقيقية هي مع الإسلام لأنه دين مختلف وحاضن لحضارة كونية. نعم ومهما تعثرت الرؤى فإن في الإسلام خصالاً تؤهله أن يصير دين الإنسانية جمعاء، هي: عقيدة توحيدية غير مشوبة، رسول كامل الإنسانية، منظومة أخلاق موضوعية، اعتراف بكرامة الإنسان دون شرط، اعتراف بحرية العقيدة للكافة، اعتراف بالتعددية الدينية، اعتراف بالتنوع الثقافي والقومي، وخطاب عالمي. وإسناد هذه المعاني لحقائق الوحي.

وللحضارة الغربية أوراق اعتماد تؤهلها للقبول العالمي، فقد طورت منظومة حقوق الإنسان بصورة مشرفة للإنسانية. وإذ اكتشفت النواميس الطبيعية والاجتماعية، وصنعة التكنلوجيا الحديثة بصورة قدمت للإنسانية منافع عظيمة. الميثاق العالمي لحقوق الإنسان عظيم، ولكن منظمة الأمم المتحدة لن تحقق أهدافها لخضوع الدول لفيتو الخمس الكبار، وقبول النظام الدولي لازدواجية المعايير فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل. هذه عيوب ينبغي إصلاحها.

أن بناء نظام مستدام أعدل وأفضل للإنسانية يعتمد على التكامل المنشود بين الوحي ويمثله الإسلام، والعقل وتمثله الحضارة الحديثة.

 

الصادق المهدي

[1] سورة آل عمران الآية رقم (115)