أخطاء العهد الحالي

أخطاء العهد الحالي

نقد وتصويب للسياسة الاقتصادية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكتاب

إن السياسة الاقتصادية لهذه الحكومة تجر البلاد نحو كارثة محققة ونحن نقدم هذا الكتيب تبيانا لسياسة الحكومة الاقتصادية والمالية وتبيانا لما نعارضه فيها وتنبيها للمواطن السوداني الذي تقع الكارثة عليه في مأكله وملبسه وسكنه ومستقبل أبنائه.

لقد أدت سياسة هذه الحكومة الاقتصادية إلى النتائج الآتية:

  1. ايقاف جميع مشروعا الإصلاح التي كنا نسير فيها وإهمالها إهمالا شنيعا أهملت الإصلاح الإداري، وأهملت جهاز التخطيط الاقتصادي، وأهملت مراجعة أجهزة الإنتاج والتسويق، وأهملت تنظيم العلاقة المالية بين الحكومة المركزية والحكومة المحلية. هذه أمثلة من كثير.
  2. عندما تفذت بعض مشروعات الإصلاح بطريقة خاطئة كالإصلاح الزراعي الذي بدأت إجراءاته في النصف الأخير من شهر يوليو أي قبل عشرة أيام من موعد الزراعة وكتأميم تجارة البن والشاي والملح وقد كنا نهدف إلى تنظيم التجارة وجعل هذه السلع منظمة في نطاق القطاع الخاص مع إدخال سلع أخرى كالمبيدات الحشرية، والأدوية، والخيش، والسماد في القطاع العام وذلك لأسباب تجارية واقتصادية واضحة. ونفذت سودنة المصارف بأسلوب مختلف مما كان نرفع إذ كان ينبغي أن يعاد النظر في عدد المصارف وفي تخصصها فيؤمهم بعضها ويسودون بعضها وتخضع لنظام محدد. لكن الإجراءات الحالية لن تبلغ الأهداف وستكون ملوثة بالتعيينات الحزبية والتصرفات الانتهازية كما حدث في هيئة السكة حديد.
  3. طبقت سياسة الكادر تطبيقا تجاريا فأدى ذلك إلى مظالم داخل كادر العمال وأخرى داخل كادر الموظفين وأدى إلى إهمال توصيات لجنتي الكادر بشأن شروط الخدمة وفوائد ما بعد الخدمة وأعطت تقديرات خاطئة عن تكاليف الكادر ووعدت وعودا كاذبة بعدم فرض ضرائب اضافية. لقد زيدت الضرائب زيادة لم يشهدها السودان في تاريخه الحديث وارتفعت الأسعار التي لم تركزها الحكومة فامتص الغلاء آثار الكادر وأغفل الفطاع الخاص فلم يحدد موقفه من الكادر. لقد أدت الضرائب الجديدة وسياسة الأجور المرتجلة إلى مظالم في القطاع الحديث وكارثة في القطاع التقليدي.
  4. سارت الحكومة في سياسة لمحاربة العطالة بالعطالة المستترة باتفاق حوالي ½ 2 مليون جنيها على مشروع  محاربة العطالة بالعطالة الممولة.
  5. طبقت الحكومة سياسة نحو الصناعات أهملت اصلاح هيئة التنمية الصناعية وأدخلت بضائع نافست منتجات الصناعة في القطاع الخاص.
  6. سياسة الاستيراد سمحت باستيراد بضائع فوق الكوتا منتجة محليا لارضاء السوداني كما حدث بالنسبة للمنسوجات والخشب  المضغوط.
  7. أهملت الحكومة مسألة علاج الأنهيار الذي تواجهه الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم..الخ في البلاد وأهملت التركيز على الصيانة والترميم لجميع الوحدات وأهملت التنمية الاقتصادية والاجتماعية فهبطت ميزانية التنمية بمعدل 50% مما كان  مقدرا لها في الميزانية الموضوعة لعام 67/68 والاتجاه السائر الآن هو مزيد من الهبوط في ميزانية التنمية لعام 68/69.
  8. لم تعد الحكومة موارد داخلية للتنمية ورجعت بخفي حنين في مساعيها للاقتراض من خارج السودان لأن سوء سمعة الموقف المالي في السودان سبقت وزير المالية إلى كل مكان ذهب إليه وطلب معاونته. وأن الضرائب الاضافية التي فرضتها الحكومة ستمتصها كل المصروفات المسرفة التي تقتضيها سياسة الانفاق الحكومي.
  9. أهملت الحكومة القيام بتمويل خطة تعمير المديريات الجنوبية وتركت جميع مشروعات الاستقرار والتعمير الموضوعة بمجهود كبير في ديسمبر 1966 تواجه الفشل كما أوضح ذلك مناديب وزارة الصحة، والتعليم، والزراعة، والثروة الحيوانية والمواصلات، والاشغال..الخ في مؤتمر الأمن الذي عقد في يوليو1968 وذلك بسبب عدم توفير الاعتمادات. وقد أدى هذا الاهمال إلى مجاعات وضعف كبير في الخدمات في المديريات الجنوبية وقد أوضح وفد من نواب الجمعية التأسيسية مقدار الجوع والتشرد الذي لحق بالجنوبيين في تقرير كتبوه للجمعية في يوليو1968 وقد انسحب هذا الاهمال على كل مناطق السودان المختلفة والقطاع التقليدي.
  10. خربت الحكومة القطاع الزراعي بما أعطت من وعود كاذبة لمزارعي الزراعة الآلية وبطريقة تطبيق الاصلاح الزراعي وبأهمال دراسة التقارير الموضوعة بشأن مشروع الجزيرة لإيجاد مخرج أساسي لمحناته ومشكلاته. وكانت الترحيلات من أهم أسباب التعطيل لصادراتنا وكانت السكة الحديدية معطلة بنسبة 33% في موسم ترحيل المحاصيل ولم تمتد يد الحكومة نحوها بالاصلاح بل أمتدت بالتسلط الحزبي والفساد.
  11. أضرت برصائد السودان من العملة الصعبة وضعفت الثقة في الجنية السوداني وجعلت رصيد السودان حسب النص القانوني إذا تحاشينا المعلومات المضللة مكشوفا.
  12. وضعا سياسة الحكومة البلاد في موقف لا يمكن أن تغطي فيه الايرادات المصروفات اللازمة وستكون ميزانية السودان دائما معجزة عجزا كبيرا بسبب هذا الوضع الشاذ وأن الميزانية التي سيقدرها وزير المالية لعام68/69 ستكون ميزانية مطبوخة لتغطي هذا العجز الواضح فإما أن يبالغ في أرقام الإيرادات أو أن يضع تقديرات غير واقعية للمصروفات ولذل فإن الميزانية المنتظرة تلفيقا ليس إلا.

لقد للرأي العام السوداني من قبل مبادئ السياسة الاقتصادية التي نؤمن بها في برنامج الحزب إصلاح وتجديد.

إننا نرى أن السياسة الاقتصادية والمالية حاليا تفتقر إلى وجود برنامج اقتصادي قويم وتعاني من سوء الأداء وعدم أمانة وجدية القائمين بحكم البلاد وحزبنا إذ يقدم هذا الكتيب عن الموقف الاقتصادي والمالي سيقدم  كتيبات أخرى تعالج مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد مساهمة في اليقظة القومية ومح الأمية الاقتصادية وبالله التوفيق.

 

تقديم:

 

قياما بواجبنا كحزب مسئول يمارس نشاطه السياسي لمصلحة المجتمع السوداني في إطار النظام الديمقراطي الذي ارتضته البلاد نود أن نناقش هنا السياسة الاقتصادية التي تسير عليها الحكومة الراهنة.

ويهمنا أن يكون واضحا للجميع بأننا في عملنا هذا نلتزم بالناحية الموضويعة التزاما كاملا ونعتمد على الأسس العملية والتجارب العالمية المكتسبة في هذا الجانب اعتمادا تاما لاعتقادنا بأن المشكلة الاقتصادية للبلاد يجب الارتقاء بها إلى مستوى علمي في التخطيط والتنفيذ ومتابعتها بأسلوب تغلب عليه الروح القومية والمصلحة العامة بعيدا عن المزالق السياسية والمصالح الحزبية الضيقة.

لقد كان في ما أعلنه السيد وزير المالية من تقييم لمنجزات العام الماضي ومن توقعات للعام المالي الجديد والاتجاهات التي تنوي الحكومة أن تعمل بها في سياستها المالية بصفة خاصة والسياسة الاقتصادية بصفة عامة كثير من النقاط التي تتطلب المناقشة والتحليل، وهذا ما سنتعرض له في هذا التقديم والفصول التالية من هذا البحث.

الاستثمارات التي تمت حتى اليوم في ظل الخطة العشرية كان من الممكن أن تعطي البلاد إمكانيات مالية جديدة تزيد من دخولها كما وتخلق منتجات هامة تقوي هيكل الاقتصاد السوداني وترتفع بمستوى أداءه ولكن الواقع يختلف عن ذلك رغما من التفاؤل الشديد الذي يظهر به السيد وزير المالية.

يذكر السيد الوزير في بيان له أن ميزانيته قد حققت فائضا ماليا قدره عشرة مليون جنيه… ونحن نجد في الحقائق التي ذكرها سيادته في نفس البيان ما يناقض اثبات وجود هذا الفائض وذلك للآتي:

  1. يذكر البيان أن الزيادة في دخول الحكومة هي:
  • ضريبة أرباح العمال.
  • الدخل الشخصي.
  • رسوم الوارد.
  • رسوم الصادر.
  • عائدات الحكومة من العمليات التجارية.

فإذا نظرنا بتمعن إلى هذه القائمة من مصادر الدخل لوجدنا أولا أنها لا تعكس أي زيادة في إنتاجية القطاع العام:

  1. إن الطابع الغالب على هذه الظواهر هي الضرائب بنوعيها المباشر وغير المباشر.
  2. إن صادرات البلاد للسوق العالمية تتعرض لضرائب من جانب الحكومة.
  • كما أن الإنتاج يشمل أساسا عمليات الاستثمار في داخل البلاد يخضع لضرائب تفرضها الحكومة. وحتى عائدات الحكومة من العمليات التجارية ليست في الواقع إلا نتيجة لدور (الوسيط) الذي تقوم به الدولة بدلا من التجار ونعني بذلك أنه لا يعكس زيادة في الإنتاجية أو تحسين لنوع  المنتوج.

إن الفائض الحقيقي الذي يمكن أن تحققه أي ميزانية لدولة ما هو  يعكس زيادة في حجم  الإنتاج القومي كأن يستفيد القطر من ثمار استثمارات جديدة أو تحسين في إنتاجية استثمارات سابقة وهذا ما كان يجب أن يتم في مثال حال السودان اليوم بعد مضي ثمانية أعوام على بداية تنفيذ الخطة العشرية.. ولكن للأسف فبيان السيد وزير المالية والاقتصاد يوضح لنا أنه حتى السكة حديد والخطوط الجوية السودانية وهما من كبريات وحدات القطاع اللتان كانتا تدران دخولا على الخزينة العامة يعانيان الآن من عجز في ميزانيتها! كما ويذكر سيادته أن الحكومة المحلية وهي جهاز عملاق يدخل للخزينة العامة دخلا كبيرا من الضرائب المباشرة المفروضة على المواطنين في المدن والأقاليم يعاني أيضا من عجز في ميزانيته!!

وإن كانت السكة حديد والخطوط الجوية يشكوان من العجز فإنما ذلك يعكس فشل الحكومة الراهنة في أداء مؤسستين كبيرتين إلى درجة هبطت بإنتاجيتها إلى العجز رغما من أنها قد حظيتا بقدر كبير من استثمارات التنمية لا سيما السكة الحديد.

أما الحكومة المحلية فإن عجزها لا يعزي لقلة في حجم الضرائب التي تجبيها وإنما لفشل في إدارة ذلك المرفق الهام في أجهزة الحكم.

ثم إننا نود أن نسأل السيد الوزير كيف يكون هناك فائض في الميزانية العامة في الوقت الذي يعترف فيه أن هنالك عجزا في ميزانية الوحدات الحكومية التي ذكرها إذ أن توزيع وحدات القطاع بين أبواب الميزانية المختلفة لايعني أنها تخرج عن ميزانية القطاع العام أي الدولة. فالقطاع العام بأكمله إنما يمثل وحدة اقتصادية متكاملة يتقيد الانتاج والاستثمار والادخار فيها بما يخدم المصلحة العامة للمجتمع السوداني. وتعتمد في مصادر تمويلها على امكانيات الخزينة العامة كما وتدر دخلها لمصلحة الخزينة العامة فإن كان هناك عجز أو فائض في الميزانية الفردية في أي مؤسسة في القطاع العام فإنما ذلك محسوب على الميزانية العامة ونرجوا أن يتمكن السيد وزير المالية من فهم هذه الحقيقة لأن ما يعكسه في بياناته في التفرقة بين ميزانية الحكومة المركزية والوحدات الحكومية الأخرى يبدو أمرا شاذا.

ثاينا: إن الزيادة المذكورة في دخول الحكومة لا تمثل زيادة في حجم الناتج القومي وإنما فقط توضح انتقالا في الدخول من وحدات منتجة إلى الخزينة العامة عن طريق الضرائب سواء كانت على أرباح الأعمال –الدخل الشخصي- رسوم الوارد- رسوم الصادر- أو رسوم الإنتاج. ومن واجبنا أن ننبه إلى أن سياساتنا الاقتصادية يجب أن تتجه إلى تشجيع الصادرات بدلا من فرض الضرائب عليها إذ أ ن ذلك يبدو أمرا شاذا لقطر يعتمد اقتصاده على صادراته إلى السوق العالمية ففرض الضرائب على الصادر يزيد من تكلفة السلع المصدرة مما يضعف مقدرتها على المنافسة في الخارج ونفس الملاحظة تطبيق على (رسوم الإنتاج) إذ أن عمليات الإنتاج المحلي في  مختلف أنواع النشاط الاقتصادي تحتاج لتشجيع من جانب الدولة لكي تستمر وتنمو مصادرها لأن ذلك ينعكس انعكاسا حسنا على الدخل القومي ومن هنا ففرض الرسوم على الإنتاج يبدو كعمل لا يتفق مع المصلحة الاقتصادية العامة من ذلك إلى أن قول السيد الوزير بأن أداء الاقتصاد السوداني في العام الماضي قد كان حسنا ليس صحيحا على الاطلاق كما وأن الزيادة في الايرادات التي ذكرها سيادته لم تكن زيادة ناتجة عن زيادة  في  إنتاجية القطاع العام وإنما إنتقال ضرائبي من مؤسسات القطاع الخاص وكافة فئات السكان المنتجين إلى الخزينة العامة.

السياسة النقدية:

إن ظروف التنمية الاقتصادية تتطلب تحكما كاملا في حجم النقد المحلي وموازنته  بما يقابله من سلع وخدمات منتجة تجنبا لما قد يحصل من تفاوت بين حجم النقد السائل وحاجة الاقتصاد وما يحدثه من آثار سيئة على قيمة العملة المحلية والثقة بها.

وبنفس القدر يتحتم على السلطات المسئولة عن السياسة النقدية في الدولة أن توجه المؤسسات المصرفية (البنوك) للاتزام بأهداف السياسة النقدية المقررة حتى لا تتمادى في اعطاء المؤسسات والأفراد قروضا تزيد حجم النقد السائل المقرر ويؤسفنا أن نجد أن الحكومة نفسها قد خرجت عن هذه القاعدة وطبقت سياسة من شأنها أن تحدث اختلالا كاملا بين حجم النقد السائل وحجم الإنتاج والخدمات الجارية. إذ أنها تنفق مليونين ونصف مليون من الجنيهات دون أن يكون لذلك عملا إنتاجيا مقابلا وهذا هو ما تسميه  الحكومة خطأ بمحاربة العطالة مع أن العطالة يمكن أن تحارب بطريقة عملية محددة (نتعرض إليها فيما بعد) دون أن يحدث مثل هذا الضرر الذي تحدثه إجراءات الحكومة المعلنة.

وإنتهاج هذه السياسة الخاطئة في محاربة العطالة ستترتب عليه أخطار عديدة قد تقود إلى حدوث تضخم مالي كاسح يهبط بالقوة الشرائية للجنيه السوداني ويحدث غلاء مستمرا ينعكس على الصادرات في الخارج بنفس القدر الذي يحدث فيه تدهورا في الدخول الحقيقية للطبقات المنتجة وغيرها فتسوء الحالة  الاقتصادية للأسر والأفراد والمؤسسات ويتسبب كل ذلك في اهتزاز وتدهور لاقتصاد البلاد واستقرارها الاجتماعي.

ثم يجيء (الكادر) عنصرا متمما لهذه السياسة التي ترمي لتدفق النقد في أيدي الناس بغية أراضيهم سياسيا وتفويض كيانهم الاقتصادي والاجتماعي وسنتعرض بتفصيل أكثر لموضوع (الكادر) في الصفحات التالية.

لقد  كانت الظاهرة الخطيرة التي أتصف بها الأداء المالي لهذه الحكومة هي أزمة عدم السيولة النقدية في القطاع العام طيلة العام الماضي وما زالت هذه الظاهرة باقية كما هي.

إن عدم الرؤية قد تسببت فيه أسباب تقع مسئوليتها وقوعا تاما على الأسلوب الذي تؤدي به الشئون المالية للبلاد فهي في المقام الأول تعكس (أي عدم السيولة) ضعفا في أجهزة الإنتاج الحكومي بمعنى أن الإنتاج والخدمات كانت دون المستوى المتوقع لها مما أدى إلى هبوط ف حجم الدخول النقدية للخزينة العامة.

ثانيا: إن مشكلة عدم السيولة  تظهر اتساعا في حجم النفقات مبالغة في الصرف والاستهلاك لدى القطاع العام الأمر الذي حمل خزينة الدولة أكثر من مقدراتها الحقيقية ولسنا في حاجة لندلل على أن (الاستهلاك التفاخري) والبذخ الذي اتسمت به تصرفات المسئولين في قمة الجهاز التنفيذي ومؤسساته قد كانت ولا تزال مسئولة مسئولية مباشرة عن التسبب في خلق هذه المشكلة التي أصابت الاقتصادي السوداني في عهد الحكومة  الحاضرة.

كما أن اخفاق المسئولين في حسم مشكلة الحكم المحلي أدى إلى  حالة القلق وعدم الاستقرار السائدة في أجهزة  الإدارة الأهلية مما جعلها متقاعسة  ومتهاونة بل عاجزة كل العجز عن تحصيل الضرائب المقررة في المرفق الهام من الدولة وعلى سبيل المثال مشكلة المعاليا والرزيقات فالرأي العام السوداني يشهد أن حكومة السيد الصادق المهدي السابقة قد تمكنت أن تضع حلولا عملية ودائمة قبلت والتزم بها جمهور القبيلتين المذكورتين مما مكن من اعادة السلام والجفوة لتلك المنطقة التي طالما كانت مسرحا لحوادث دامية مؤلمة راح ضحيتها العديد من أبناء هذه البلاد زيادة على التخريب والإنهيار الذي أصاب جهاز الحكم الحكم الملحي في تلك المنطقة.

ولكن الذين يحكمون البلاد اليوم ولأسباب أبعد ما تكون عن المصلحة القومية وعن العدل عرقلوا  تطبيق مشروع السيد الصادق. وأوقفوا تنفيذه مما أنعكس انعكاسا سيئا على الوضع الإداري هنالك، وهبط هبوطا كبيرا بحجم الضرائب المتوقعة من تلك المنطقة الغنية الكبيرة من مناطق القطر.

تجدر الإشارة إلى إننا أقمنا لجنة لتنظر في العلاقات المالية بين الحكومة المركزية والحكومة المحلية لتقضي على الفوضى السائدة في هذه العلاقات ولتنظيم الموارد المالية للحكومة المحلية ولكن تلك اللجنة جمدت منذ مايو 1967م وكذلك قامت لجنة للأسراع بوضع النظام النهائي للإدارة الأهلية على ضوء مبادئ الاصلاح التي دعونا إليها ولكن تلك اللجنة مع إنها قطعت شوطا بعيدا جمدت أيضا وظل نظام الإدارة الأهلية معلقا بين الحياة والموت وتدهورت قدرته على أي نوع من الأداء وتراكمت متأخرات الضرائب والقطعان المحلية التي تبلغ إلى أربعة مليون جنيه.

إن عدم تحقيق الإصلاح الإداري لجهاز الحكم المحلي سيظل مسئولا عن هبوط في الدخول المقررة للخزينة العامة وبالتالي يتسبب في تعميق مشكلة عدم السيولة هذا بجانب أنه يعرقل خطط الإنتاج وتوزيع الخدمات العامة للمواطنين في تلك المناطق القروية التي هي أحوج ماتكون للإنتاج والخدمات.

إن الاعتقاد بأن استثمارات التنمية كانت سببا في احداث أزمة عدم السيولة  قولا لا صحة فيه. فاستثمارات التنمية لم تكن في مجملها (استثمارات في الخدمات) أي تلك التي لا تدر دخولا نقدية مباشرة نسبة لما تقدمه من خدمة عامة للجمهور أو تدعم به الهيكل الاقتصادي  من منشآت وطرق ومرافق وغيرها.

فاستثمارات التنمية كانت أغلبها من ذوات الإنتاجية المباشرة كالمنشآت الزراعية والوحدات الصناعية المتعددة ولو أحسنت إدارة هذه الوحدات ولو قلل القطاع العام في حجم انفاقه واستهلاكه ولو تخلت الأجهزة السياسية في الدولة عن الاستهلاك التفاخري  والبذخ المشين لما عرفت البلاد مشكلة عدم السيولة.

لذا فليعلم الناس أن الحكومة القائمة مسئولة مسئولية كاملة عن ظاهرة عدم السيولة النقدية في البلاد في سوء تخطيطها وتنفيذها وتصرفات أفرادها في مختلف مستويات المسئوليات السياسية.

نعود الآن لنفصل كل هذه النقاط المجملة ونناقش الأداء الاقتصادي للحكومة القائمة بقاييس عملية تطبيقية مقسمين هذا البحث على الفصول التالية:

  • الإنتاج- العطالة.
  • الادخار- الاستثمار.
  • القطاع الخاص.
  • تقييم الموقف الحالي- ميزان المدفوعات.

خاتمة.

 

الفصل الأول

 

  • سياسة الإنتاج- العطالة
  • سياسة الادخار- سياسة الاستثمار.

الإنتاج في عالمنا الحديث لايمثل مجرد  مجهود جسدي أو فكري وإنما هو تنظيم وبرامج وأسلوب في العمل يخرج العملية الإنتاجية على خير مستوى في الأداء والكفاءة كما يسر البيئة الملائمة للمنتجين من ناحية العلاقات الإنتاجية الحسنة والعدل في الانتفاع بثمار لمنتوج بين عنصري رأس المال والعمل.

وفي بلد مختلف كالسودان حيث يتضاءل عدد السكان المنتجين إذ لا يتعدى 30% (ثلاثين في المائة) من جمل سكان القطر تصبح الحاجة إلى الارتفاع بكفاءة المنتجين ماسة للغاية ومن هنا كان لا بد من إعادة النظر في الأسلوب الروتيني الذي كانت وما زالت تتم به عمليات الإنتاج في القطر لا سيما في القطاع الحديث. ولهذا فقد اتجه حزبنا عندما فوض ليحكم البلاد في الفترة السابقة اتجه إلى تكوين لجنة لتبحث وتنظر وتقرر عن التنظيم القادر في جهاز الدولة والأسلوب المتبع في تأدية الأعمال كل ذلك بغرض أن تتمكن السلطة التنفيذية من وضع أسس جديدة لتنظم تنظيم الجهاز الحكومي واعداده إعدادا حديثا لتأدية عملياته المنتجة في مختلف مرافق الخدمة العامة بكفاءة ونظام  وفي ظروف عادلة بالنسبة للعاملين.

ويؤسفنا أن هذا التقرير الذي أردناه  أن يضع الأسس لسياسة حديثة علمية للإنتاج  في مرافق الدولة قد قوبل بإهمال كامل من الحكومة الحاضرة إذ لم يعد الرأي العام السوداني يسمع عنه أو يجد له أثرا على الاطلاق.

يقينا إن عدم الرغبة المتوفرة للمسئولين في تغيير ظروف الإنتاج وأسلوبه الحالي داخل المؤسسات الحكومية تعد عنصرا مسئولا عن حالة الفوضى وبطأ الإنتاج التي يتصف بها الجهاز التنفيذي في البلاد مما أنعكس انعكاسات سيئة على البلاد في اقتصادها ومالها وأمنها واستقرارها.

إن السودان وقد قطع ثمانية أعوام في تطبيق الخطة الاقتصادية العشرية كان مسرحا لاحداث اقتصادية واجتماعية متعددة مما يوجب أن تراجع سياسة الإنتاج فيه لتدعم بالاتجاهات العلمية الحديثة والنظريات التي يعج بها العالم اليوم في مجال الإنتاج وتنظيمه وتوزيعه.

نحن اليوم نعتقد أن الظروف الآن ملحة أكثر من أي وقت مضى لتطبيق سياسة إنتاجية وحديثة  واقعية علمية تمكن البلاد من الاستفادة بجهود العاملين لمصلحة التنمية وتنفيذ الجهاز الحكومي من حالة السوء التي يتردى فيها الآن مما افقده احترام  الجمهور والمتعاملين  معه بل وعدم الثقة وافتقار التعاون بين وحداته المختلفة. ونلاحظ أيضا أن البلاد قد استطاعت أن ترسل  العديد من أبناءها للخارج لكسب زيادة من التعليم والتدريب وأن هؤلاء الأبناء قد عادوا بعد أن نالوا ما أريد لهم أن ينالوه في مختلف المجالات الفنية والعلمية والإدارية ولكنهم وللأسف لم يتمكنوا من أن يفيدوا بلادهم  بما اكتسبوه لا تفسح المجال للجديد ولا تقبل التغير ولا تشغل نفسها بمثل  هذه المشاكل الحيوية في حياة الأمة.

ونرى أنه ولتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد لا بد من اعادة تنظيم جهاز الخدمة المدنية والاستفادة بالطاقات العملية والفينة الحديثة لتدعيمه حتى يتمكن من تأدية واجبه المقدس في القيام بتحقيق مشاريع التنمية حاضرا ومستقبلا وتخطيطا وتنفيذا.

لقد وضعنا الأسس التي تصلح  وتقوم بها الخدمة المدنية ووضعنا التنظيم الذي رأينا البلاد في حاجة ماسة إليه لمواكبة الظروف الجديدة التي خلقها تطبيق الخطة العشرية فأنشأنا جهاز التخطيط المركزي وأشركنا فيه الكفاءات السودانية في القطاعين العام والخاص ووسعنا قاعدته لتشمل الوزارات والمصالح والوحدات الإدارية المركزية  والمحلية في كافة مستويات التخطيط والتنفيذ بغرض أن يتهيء جهاز الإنتاج في الدولة لظروف الخطة المطبقة ويساير درجات النمو الاقتصادي ومتطلبات وأردنا ثانيا أن يكون جهاز التخطيط تدعيما ومشاركة وزارة المالية في هذا الصدد بل يضع النواة الوزارة للتخطيط الاقتصادي كما وأردنا له نسبة لما طعم به بناصر من القطاع الخاص وجامعة الخرطوم أن ينتقل بقضايانا الاقتصادية فيكون في ذلك تعضيدا  وتدعيما وتجديدا في تكوين جهاز الإدارة والإنتاج وفي وضع وتطبيق السياسة الإنتاجية نفسها في مراحل التخطيط والتنفيذ والمراقبة.

ولكن للأسف الشديد أن هذا الجهاز العملاق الذي بدأ أعماله فعلا قد أوقف تماما من مزاولة نشاطه وجمد تجميدا تاما من يوم أن ترك السيد حمزة ميرغني وزارة المالية وخلفه فيها السيد الشريف حسين الهندي.

لماذا… هل السيد الوزير ليس في حاجة لعن جهاز مثل جهاز التخطيط بمن فيه من أصحاب اختصاص ودراية بشئون الاقتصاد والمال…؟

أم أن السيد الوزير يرفض مبدأ المشاركة في شئون البلاد الاقتصادية وبهذا يعارض مبدأ  المشاركة الذي تأخذ به كل المجتمعات العالمية  اليوم؟

إن اهتمامنا بسياسة الإنتاج وبإعادة تعين الجهاز التنفيذي إنما ينبع من أ، هذا الجهاز يمثل عنصرا أساسيا في تحديد فرص الأمة السودانية من تحقيق أهدافها فبقدر ما كان كفئا وقادرا بقدر ما تتسع فرص نجاحنا وبقدر ما كان متدهورا وفاشلا بقدر ما تتباعد الفرص بين البلاد وطموحها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وما دمنا بصدد السياسة الإنتاجية فإن هناك مشكلة تجابه الاقتصاد السوداني  وتكاد تفوض الكثير من منجزاته تلك هي مشكلة العطالة ونسبة لأهميتها وضرورة علاجها فسنتحدث عنها شارحين أساسها وموضحين وجودها في السودان وكيفية الحلول التي يمكن أن تؤمننا من شرها ونتائجها السيئة على البلاد.

العطالة:

العطالة في معناها الاقتصادية ليست صفة خاصة بالأفراد والجماعات وحدهم أي بالإنسان وإنما تنطبق أيضا على أي  مصدر من مصادر الثورة الأخرى فالأرض الخصبة الصالحة للزراعة أن لم يستغل فهي مصدر متعطل والثروات المعدنية المخبأة في الأرض الخصبة الصالحة للزراعة إن لم تستغل فهي مصدر متعطل والثروات المعدنية المخبأة في الأرض إن لم تستخرج ويستفاد منها في زيادة إنتاج ثروة البلاد تعتبر أيضا امكانيات معطلة وكذلك الآلة إن كانت أداة صالحة للإنتاج ولم يستفاد منها في ذلك فهي أيضا مصدر معطل من عناصر الإنتاج القومي ولقد التقت آراء الكثيرين من الاقتصاديين الذين يهتمون بقضايا التخلف الاقتصادي بأن تعطل مصادر الثروة في أي قطر ما وعدم استغلالها لمصلحة زيادة حجم الدخل القومي تعد خاصية أسياسية من خصائص التخلف الاقتصادي.

وهذا يعني أنه يقدر ما تتوقف البلاد في استغلال مصادر ثرواتها المتعددة وبقدر ما ينمو حجم الإنتاج القومي تزداد إمكانيات البلاد المادية وتتمكن من مجابهة متطلبات الإنفاق على مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتحرر من قبضة التخلف الاقتصادي.

العطالة المستترة:

يكثر  الحديث عن العطالة المستترة كلما تعرض الناس بالدراسة والتحليل للتخلف الاقتصادي وظواهره، والرأي السائد هو أن العطالة المستترة (التي تقرر وجود حالة تزيد فيها المقدرة الإنتاجية عن حجم المنتوج) مظهر من مظاهر التخلف بمعنى أن الطاقة الإنتاجية الزائدة التي تفوق حاجة الإنتاج إنما هي في الواقع طاقة متناقصة يمعنى أن كل منتج أو عامل يعمل دون مقدرته الإنتاجية الكاملة، والعطالة المستترة مبثل مفهومها المذكور كثيرة الوجود في المجتمعات التقليدية نسبة لبدائية النشاط الإنتاجي ف تلك  المجتمعات والأغراض المحدودة التي تستهدف سد حاجة الأسرة الاستهلاكية فحسب ولا تتعداها إلى توجيه الانتاج لسد حاجة سوق كبير من المستهلكين وهنا نجد الفارق كبير بين الإنتاج في القطاعين الحديث والتقليدي ففي الأول يتحد حجم الإنتاج بحاجة السوق ويستهدف تحقيق ربح يتم عن طريق عمليات التبادل التجاري البيع والشراء. بينما في الحالة  الثانية أي المجتمع التقليدي تنخفض هذه الأهداف والاتجاهات فلا ربح ولا دخل ولا تبادل تجاري ولا سوق استهلاكية وإنما المنتج هو المستهلك ولا وجود لوسيط بينها.

ومن الخطأ أن الاعتقاد أن ظاهرة العطالة المستترة هي وقف على المجتمعات التقليدية فهي قد تظهر في قطاعات الاقتصاد الحديث كالنشاط الصناعي أو التجاري وأنواع الخدمات المختلفة والقاعدة العلمية العملية هي كلما زادت المقدرة الفعلية للمنتجين عن سعة الإنتاج أو حجمه الأقصى فهنالك عطالة مستترة فإذا نظرنا إلى المؤسسات رغم أنها أي المؤسسات تكون جزءا من القطاع الحديث في اقتصاديات البلاد تثبت أن نشاطنا يعتمد على أسس متأخرة وحتى في قطاعه  في الحديث.

صحيح أن العطالة بشكلها الاجتماعية تصور مأساة إنسانية يقع على الدول واجب علاجها لكن ذلك لا يبرر هذا النوع من الحلول التي تعمل في واقعها على تعميق مشكلة العطالة وتوسيع حجمها إن علاج العطالة يتم بتوسيع حجم الإنتاج ليستوعب الأيدي العاطلة وكذلك الالتزام بسياسة اقتصادية متكاملة في مختلف أجهزة التأهيل والتدريب والاستثماركي ما يتجنب الاقتصاد أخطار العطالة وحدوثها على النحو الذي سنفصله في الصفحات المقبلة.

لماذا توجد عطالة في السودان:

نوجز الأجابة على هذا السؤال في أربعة أسباب رئيسية هي:

  1. ضآلة حجم الاستثمار:

الاستثمار هو العملية الاقتصادية الأساسية التي إلى زيادة الدخل القومي ثم إلى مضاعفته فالاستثمار الذي عن تزاوج بين عناصر الإنتاج (رأس المال والعمل والمواد الخام) يتسبب أولا في تحريك مصدر  من مصادر الثروة ليكون منتجا ويخلق حاجة لاستيعاب أيدي بدخول مادية في شكل أرباح للمستثمرين وبدخول أخرى هي عبارة عن أجور العاملين مما يمكنهم من سد حاجاتهم من شراء السلع التي يحتاجونها والاعتقاد هو أن دخول المستثمرين والعاملين معا تذهب منها نسب معينة في شكل مدخرات لتسير هي الأخرى أجراء عمليات استثمارية جديدة وهكذا تتابع وتتزايد الاستثمارات ثم يتضاعف الدخل القومي والذي نلا حظه عن اقتصادنا في قطاعنا الحديث إن حجم الاستثمارات لم يتزايد في الفترة الأخيرة بصورة مرضية لعديد من الأسباب (أنظر فصل الاستثمار) مما أدى إلى أزمة العطالة الحالية.

  • ارتفاع حجم الاستهلاك:

النمو الاقتصادي وتزايد الاستهلاك تفيضان لا يلتقيان والذي يقرره الواقع هو أن حجم الاستهلاك العام المتمثل في جهاز الدولة بوحداته المختلفة حكومية وشبه حكومية في تزايد مستمر.

وما يقال عن اتساع حجم الاستهلاك في القطاع العام ينطبق العام ينطبق أيضا على القطاع الخاص فإذا الأسر كوحدات اقتصادية نشطة نجد أيضا أن زيادة الدخول للأسر السودانية لا تعني إلا مجالات أوسع في الاستهلاك وذلك نسبة لتفشي الجهل الاقتصادي بين السكان وإنعدام التوجيه القومي الذي يدعو إلى الأخذ وتعميقه وتطبيقه في مستوى الأفراد والأسر والمؤسسات.                                                                                                                    ج. انهيار الاستثمارات الصناعية:

لقد نكبت البلاد بضياع ثلاثة ملايين من دخلها في استثمارات صناعية  أنهارت دون أن تأتي ثمرتها ولا يسع مجال هذا البحث أسباب هذا الانهيار إلا أن الحقيقة التي نقررها أن ضياع تلك الاستثمارات كانت ضياعا لإمكانيات مادية ولمجالات جديدة للعمل ولفرص طيبة لزيادة الإنتاج القومي وعلاج مشكلة العطالة.

إن كل فرد من أفراد السكان المنتجين في قطاع كان من قطاعات النشاط الاقتصادي إنما يساهم بمنتجوجه مساهمة مباشرة في تكوين الإنتاج القومي والظاهرة التي يشهدها المجتمع السوداني اليوم هي أن إنتاج الفرد الحالي دون مستوى مقدرته الإنتاجية وشيوع هذه الظاهرة وشمولها في أوساط الطبقات المنتجة من الأمة السودانية أدى إلى هبوط في حجم الإنتاج العام الأمر الذي يقود إلى تدهور في الدخل والإمكانيات مما يعكس أثرا سيئا على فرص التنمية الاقتصادية وبالتالي يحدد مجالات الإنشاء والاستخدام.

هذه الأسباب الموجودة في جملتها توضح بعضا من الصعوبات الأساسية التي حالت دون تزايد حجم الاستثمار الأمر الذي ساعد على تزايد عدد السكان لاسيما المؤهلين منهم والقادرين على أداء العمل.

 

العلاج:

1) القطاع التقليدي:

إذا أردنا أن نعالج العطالة في القطاع التقليدي فلعله من الملائم البدء بتغيير هيكل ذلك المجتمع بشيئين الأول هو ادخال عادات الإنتاج كنشاط أساسي في حياة الفرد والثاني هو إيجاد العمل نفسه الذي يستوعب تلك الطاقات البكر.

هنالك الكثير من الأعمال التي يمكن القيام بها في الريف مثل تعبيد الطرق وحفر الآبار والحفائر وتنظيم المرعى وكل هذه الأعمال يمكن أن تتم بمجهودات يدوية وفي أسلوب مبسط وسهل فهمه وادراك جدواه على الأفراد إن من مصلحة الاقتصاد السوداني في هذه المرحلة الأولية من مراحل نموه أن تجد مشاريع الإنتاج في الريف كالطرق والآبار حسب ما أوردنا الاهتمام الكامل.

إن ادخال عادات الإنتاج على سكان الريف واستيعابهم في مشاريع إنتاجية داخل  بيئتهم يعني زيادة عدد السكان المنتجين في القطر ويعني خلق دخول جديدة لدى الأفراد والأسر في الريف هذه الدخول بدورها تجعل منهم مستهلكين ومدخرين الأمر الذي يغير المجتمع في الريف ويخرج بالمنتجين الجدد من عزلتهم القروية التقليدية إلى الترابط والتبادل السلعي مع المناطق الأخرى داخل القطر وهذا رأي من شأنه أن يوسع القطاع الحديث ويمكن من تحرير المصادر البشرية والشيئية لمصلحة النمو في المرحلة ويقضي قضاءا كاملا على ظاهرة العطالة التقليدية في الريف.

2) القطاع الحديث:

أما الحلول لمشكلة العطالة القائمة في القطاع الحديث فنرى يجب أن تتجه إلى وجهتين اساسيتين في وقت واحد هما اصلاح الأخطاء الراهنة في الأداء الاقتصادي ثم في إعادة النظر في سياسة الاستثمار حتى تخضع في قطاعاتها المختلفة لتنسيق كامل ليحقق نموا منظما وشاملا في كافة مجالات الإنتاج والخدمات.

  • معالجة الهبوط في مستويات الإنتاج لدى الأفراد والوحدات في كافة القطاعات المنتجة وإيجاد التنظيم الذي يرتفع بالإنتاجية ويحافظ على مستواها بدوام.
  • تخفيض الإنفاق وتقليل الأستهلاك في القطاعين العام والخاص مع تشجيف الإدخار وتنميته على مستوى الأمة.

هذا وذاك يمكن أن يؤديا إلى ارتفاع في حجم الإنتاج القومي وتخفيض الاستهلاك وزيادة للمدخرات مما يمكن من إيجاد استثمارات جديدة تستوعب العديد من الأيدي العاملة أما بخصوص زيادة الاستثمار نفسها فإننا نقترح إعادة النظر فيها على الأسس التالية:

الاستثمار أي كان نوعه سواء كانت انتاجيته مباشرة مثل المنشآت الزراعية والصناعية وغيرها أو غير مباشرة مثل التعليم والصحة وسائر الخدمات فإنه في الحالتين يخلق مجالات جديدة للإستخدام ويستوعب الأيدي المتعطلة في سوق العمل لكن الأمر الذي يجب أن نفطن إليه هو افراطنا واندفاعنا في أي هذين من هذين الإتجاهين في سياسة الاستثمار قد يؤدي إلى عدم توازن في الهيكل الاقتصادي من ما يتسبب في عطالة وغلاء وانعدام في السيولة النقدية وغير ذلك من الشرور. فالاكثار في الاستثمارات في مجال التعليم النظري مثلا دون مراعاة لحاجة الاقتصاد الفعلية لأصحاب هذا التأهيل سيقود حتما إلى عطالة فتكون الخسارة مزدوجة للفرد والبلاد التي صرفت على تأهيله ولم تستفد منه.

وهذا الرأي ثبت صحته الأعداد الهائلة من الخريجين والخريجات والمتعلمين في مختلف مستوياتهم الذين حصلوا على مؤهلات ولكنهم لا يجدون مكانا للعمل للمساهمة مع مواطنيهم لزيادة الإنتاج القومي وليردوا دين الوطن عليهم واللجوء لتخديم هؤلاء بغرض تخديمهم فحسب دون الحاجة الفعلية لهم في المؤسسات المخدمة يؤدي إلى عطالة مستترة.

إننا إذا لم نوقف حالة عدم التنسيق هذه التي تشوب سياسة الاستثمار عندنا فستظل مشكلة العطالة أبدا في تفاقم وأزدياد وبقدرما نتوقف في تنسيق استثماراتنا فيها حسب مصلحة النمو الكامل للقطاعات الاقتصادية بقدر ما نستطيع أن نتغلب على مشكلة العطالة في المستقبل.

والحل السيريع لمشكلة العطالة الحالي يكمن في زيادة الاستثمار في القطاعين التقليدي والحديث وتحسين الأداء الاقتصادي بالكيفية التي أوضحناها ولا بد من القول أن كل ذلك لا يتم إلا بتوفير الاستقرار الكامل سياسيا واجتماعيا وتعبئة الموارد كلها لمصلحة النمو والتأكد من سلامة الأداء الاقتصادي في القطاعين العام الخاص.

إن الحكومة ممثلة في الشريفي حسين الهندي وزير ماليتها تتباهى بأنها تستخدم العاطلين وتدبر المال اللازم لتدفع أجورهم وأن هذا الاستخدام لا يتم لسد حاجة فعلية في جهاز الإنتاج وإنما لعلاج المشكلة الاجتماعية… هذا الأسلوب في حل مشكلة العطالة إنما يعمقها ويزيد من أخطارها ويخلق منها سببا يودي باقتصاد البلاد ويقوض دعائمه لأنه يتنافس مع الأسس العلمية على النحو الذي أوضحناه فيما سبق.

إن العطالة لا يمكن أن تحارب باهدار خمسة ملايين جنيها في العام (تحت بند محاربة العطالة) فالحقيقة هي أن الذين يوظفون تحت بند محاربة العطالة يظلون عاطلين حتى بعد توظيفهم واستلام مرتباتهم..‍‍‍‍‍‍!! لسبب بسيط هو عد إيجاد عمل لهم يستوعب جهودهم ويمكنهم من المساهمة في زيادة الإنتاج القومي للبلاد.

وواضح أن الحكومة ووزير ماليتها إنما يسعون إلى كسب حزبي وشخصي غير عابئين بالأخطاء التي تنسب للبلاد من جراء سياساتهم تلك.

إن العطالة يجب أن تعالج على أساس سياسة اقتصادية متكاملة وقد اقترحنا فيما نقدم كيف يمكن أن تكون تلك السياسة ونسبة لخطورة هذه المشكلة فإننا نطرح ما قدمناه من حلول كمقترحات لنقاش علمي يقود إلى حل هذه المشكلة القومية.

الادخار

 

إن حياة الأفراد لا تخلوا في الغالب الأعم من من تجارب الادخار- فكم مرة يجد الفرد نفسه في حاجة لقد من المال لتحقيق عمل معين ولمت تعوزه السبل للحصول على المال اللازم في الحاضر يبدأ في استقطاب نسبة محددة من دخله الشهري يتزايد حجمها مع مرور الزمن حتى يجد نفسه في وقت قد لا يطول أنه قد تحصل على ما يحتاجه من مال بفضل مدخراته التي تسير له ما تحقيق ما يريده من أعمال إنتاجية أو تجارية أو استهلاكية.

وتجربة الادخار التي يعيشها الأفراد في حياتهم العادية تعيشها الأسر وكافة الوحدات الاقتصادية ذات الدخول إذ تدخر قدرا من أرباحها بدلا من أن تستهلكها جميعا وتستفيد بتلك المدخرات سواء في تدعيم وزيادة حجم استثماراتها أو في حفظها كرصيد احتياطي ليؤمن سلامة عملياتها الاقتصادية.

والأمم تماما كالأفراد والأسر تحتاج لزيادة مدخراتها إذ أن الادخار يمثل عنصرا حيويا في النمو الاقتصادي ومن هنا كان يلزم أن تتجه السلطات المالية المسئولة لوضع الأسس والمبادئ لادخال الادخار عنصرا أساسيا في تكوين كل المرافق الإنتاجية في القطاعين العام والخاص ففي البلاد المتخلفة اقتصاديا يتعثر  عادة نمو المدخرات لأسباب متنوعة منها تفشي الجهل الاقتصادي وانتشار الادات الاستهلاكية الضارة وانسياق أصحاب الدخول لمغريات الدعاية التجارية. لقد اكتفت الحكومة بشفل مجهوداتها في إصدار تشريع للادخار الإجباري في العام الماضي دون أن تهتم بدراسة الأسباب التي أدت إلى فشل ذلك المشروع فقد كان المشروع منحصرا في فئة قليلة من أصحاب الدخول الثابتة في الوقت الذي لم يشمل الفئات ذات الدخول العليا مما جعله يتسبب بعد العدالة وعدم الشمول.

ومن ناحية أخرى فقد فرض الإدخار على الأسر والأفراد في الوقت الذي فيه كانت الحكومة وهي المنتج الأكبر والمستثمر الأكبر أبعد ما تكون عن الإدخار معنى وتطبيقا لتلك الأسباب فقد فشل مشروع الإدخار  الإجباري وكان من الواجب على الحكومة أن تتوفر على دراسة الأسباب التي رفضت من أجلها تقديم مشروع جديد شاملا لكل ذوي الدخول من مؤسسات وأفراد بادية بالقطاع العام نفسه فالقطاع الخاص بمختلف أوجه نشاطه من وحدات تجارية، مصرفية، زراعية، صناعية أو غيرها ثم أيضا على الأفراد من أصحاب الدخول.

إننا نرى أن التنمية الاقتصادية لا بد أن تعتمد فيما تعتمد عليه على مدخرات يساهم بها المواطنون في مختلف مستويات دخولهم وإمكانياتهم بقد المستطاع لأن ذلك زيادة على ما يرجع به على البلاد من مصادر تمويل أكيدة. ومشاركة وطنية عامة إنما يحل في طياته بذور وعي اقتصادي وتربية اجتماعية حميدة تنفع المواطنين في مستقبل أبنائهم وأسرهم بنفس القدر الذي تنعكس به على اقتصاديات بلادهم. فعلى القائمين بمسئلة إدارة الشئون المالية في البلاد أن يهتموا بالإدخار ويضعوا له الأسس والأجهزة والتنظيم اللازم لكي يصبح حقيقة اقتصادية قائمة.

والحديث عن التمويل والمصادر المالية يقودنا إلى الجزء  الثاني من هذا الفصل وهو الاستثمار.

 

سياسة الاستثمار

 

الاقتصاديون على مختلف معتقداته وآرائهم يتفقون في أن الاستثمار هو الوسيلة الأساسية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أي بلد ما.
فعاليات الاستثمار هي التي تحقق إنشاء مشاريع جديدة للإنتاج والخدمات كالمنشآت الزراعية والصناعية أو كالمواصلات وخدمات التعليم والصحة وما إليها.

والاستثمار نوعان رغما من أنهما يلتقيان في تحقيق نفس الغاية وهي التنيمة الاقتصادية والاجتماعية إلا أنهما يختلفان في طبيعتهما وآثارهما المباشرة.

فهناك ما يعرف بالاستثمارات ذات الإنتاجية المباشرة به المشاريع التي تعطي ثمرا وتدر دخلا بعد مضي وقت وجيز من إنشاءها لا يتعدى الموسم الواحد بالنسبة للمشاريع الزراعية ولا يتعدى الفترة اللازمة لاكتمال صنع السلع وتوزيعها على الأسواق بالنسبة للمنشآت الصناعية.

وإن كانت السلع زراعية أو صناعية فإنها تدر دخلا مبكرا للمستثمرين أي على الخزينة العامة إن كانت الدولة هي المستثمر.

وميزات هذا النوع من الاستثمار هو أنه يخلق دخولا مادية جديدة تضاف إلى إمكانية البلاد المالية وأنه يحقق زيادة سريعة في حجم الإنتاج القومي وذلك زيادة سريعة على الميزات الأخرى التي يشاركها فيها النوع الآخر من الاستثمار وهي إيجاد فرص العمل لإستيعاب عدد من العاملين الجدد وتوسيع حجم الدخل القومي.

أما الاستثمارات ذات الإنتاجية غير المباشرة فتمثل أيضا في نوعين أثنين:

هناك المنشئات التي تخلق القاعد الأساسية للنشاط الاقتصادي بأنواعه المتعددة واليت لا يمكن للبلاد أن تنمو اقتصاديا بدونها تلك هي الطرق، السكك الحديدية، المطارات، المواني، الخزانات، مولدات الطاقة الكهربائية،الكباري وما إليها من المنشئات التي وإن كانت لا تدر دخلا ماديا مباشرا وسريعا إلا وأن وجودها يعتبر ضرورة لازمة وأساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية.

وهنالك أيضا المؤسسات التعليمية في مختلف مستوياتها الجامعية والثانوية والوسطى والأولية بالنسبة للتعليم العام والمعاهد والكليات ودور الأبحاث بالنسبة للتأهيل الفني والتخصص العالي في الهندسة والطب والزراعة وغيرها من الدراسات العلمية ثم المنشآت الصحية من مستشفيات ومصحات ووحدات طبية مختلفة وكذلك خدمات الأمن والقضاء والإدارة..الخ.

هذا النوع من الاستثمارات يعتبر ذو انتاجية غير مباشرة نسبة لأنه لايدر دخلا ماديا سريعا أو مباشرا مثل المنشئات الزراعية أو الصناعية التي ذكرناها في الحديث عن الاستثمارات ذات الإنتاجية المباشرة أي النوع الأول.

والميزات الأساسية للنوع الثاني أي الاستثمارات ذات الإنتاجية غير مباشرة إنها تيسر إيجاد الهيكل أي الدعائم اللازمة لقيام أي بناء اقتصادي ما أن ينمو ويتطور إذا افتقر إلى وجود هيكل اقتصادي متماسك ومتكامل.
فاالمشاريع الزراعية مثلا لا يتيسر قيامها إذا لم تكن بالبلاد منشئات مائية كافية كقنوات وخزانات ومراكز للأبحاث في التربة والبذور…الخ والصناعات يستحيل نموها إذا لم تتوفر شبكة المواصلات لتربط نواحي القطر ببعضها بعضا وتربط القطر كله بالخارج، وإذا لم تتوفر الطاقة الكهربائية والإعداد المهني والتدريب الفني لكوادر وأصحاب الحرف… الخ.

وايجاد الهيكل الاقتصاد والاجتماعي في قطر ما يعتبر ضروريا لإغراء رأس المال الخاص لا سيما الأجنبي منه للاستثمارفي ذلك القطر إذ أنه يضمن إيجاد العوامل المساعدة للاستثمار من طاقة وخبرة فنية واتساع في السوق بفضل شبكة المواصلات وانتشار التعليم والمعرفة أي ارتفاع مستويات الوعي بين الجمهور.

وثمة أمر لا بد من الإشارة إليه هو أن الاختيار بين نوعي الاستثمار المذكورين أعلاه أمرا ليس باليسير إذ لا بد من إجراء الدرسات وتبيين مرحلة النمو التي يعيشها القطر ومتطلبات الانقال إلى مرحلة أعلا.. ثم ضرورة الموازنة بين نوعي الاستثمار حتى لا يحدث تفاوت كبير بينهما. غير أن كثير من الكتاب الاقتصاديين يتفقون أن البلاد المتخلقة تحتاج لتركيز أكثر على الاستثمارات ذات الإنتاجية غير المباشرة في المرحلة الأولى من التنمية.

ولا بد أن نقرر أيضا أن الأحوال المالية في البلاد كثيرا ما تأتي بتأثيرات مباشرة على سياسة الاستثمار.

فحدوث اختلال كبير في ميزان المدفوعات قد يقتضي الاكثار في حجم السلع المصدرة مما يتطلب الاتجاه للاستثمارات الزراعية أي ذات الإنتاجية المباشرة القابلة للتصدير فيزيد حجم الصادر وتزداد حصيلة الدخول وبنفس القدر من الأهمية فقد تتطلب الحاجة لإغراء رؤوس الأموال للاستثمار داخل البلاد تقوية للهيكل الاقتصادي فتتجه السياسة الاقتصادية للاستثمارات ذات الإنتاجية غير المباشرة… وهكذا.

ومن هنا فإن سياسة الاستثمار واختيارها أو تحديد نوعيتها يجب أن تكون دائما وليدة دراسات علمية أكيدة إذ أن الخطأ فيها أو وضعها على أسس غير علمية يعود على اقتصاديات القطر بنتائج ضارة للغاية.

والأخطاء التي نأخذها على الحكومة لقائمة فيما يختص بسياساتها أزء الاستثمار هي:-

– إنها هبطت بحجم استثمارات التنمية إذ أنه رغما عن الاعتمادات المخصصة لها في ميزانية 67/68 قد حددت حوالي 48 (ثمانية وأربعين) مليون من الجنيهات لم يتحقق منها فعلا كأستثمارات جديدة سوى22 (اثنين وعشرين) مليون فقط أي أن حجم الاسثمار المقدر قد هبط إلى 45% مما كان مقدرا له في ميزانية التنمية… وهذا يقرر وجود نكسة كبيرة بالطبع في مجهودات التنمية في البلاد.

كذلك إن الحكومة قد أخفقت في تحريك القطاع التقليدي عن طريق استثمارات هامة إذ أن جهودها في هذا الصدد تركزت على الآبار فقط دون أن تدعمها بمنشئات إنتاجية وخدمات أخرى وخلق مناطق تجمع استراتيجية للإنتاج والإقامة على النحوالذي نفصله في الفصل الخاص بالقطاع لالتقليدي من هذا الكتيب.

وأدت الحكومة أيضا للهبوط باستثمار زراعة الذرة وهو المحصول الذي زيادة على أنه يكون الغذاء الرئيسي لسكان القطر فهو يكون سلعة هامة في صادراتنا في الخارج.. وأدت سياسات الحكومة إلى هبوط الرقعة المزروعة من الذرة إلى مايزيد عن 50% من جملة ما زرع في الموسم الماضي(أنظر الأرقام في فصل القطاع الخاص-الزراعة).

واتجهت الحكومة في هذا الصدد إلى قتل الاستثمارات الوليدة في البلاد وذلك بعدم حمايتها وفتح المجال للسلع الواردة من الخارج لمنافستها من ذلك مثلا صناعة النسيج رغما من جدودة منتوجها ووفرة كمياته فتحت الحكومة باب الاستيراد للولايات والمنسوجات الأخرى لا لسد حاجة السوق المحلية وإنما لإعطاء رخص للمحاسيب والمقربين بغرض إثرائهم… وقد ترتب على ذلك خلق الصعوبات الحالية التي تعانيها مصانع النسيج في السودان وتكدس إنتاجها وهبوط مبيوعاتها مما يعرض هذه الاستثمارات الرائدة إلى ظروف قاتلة ونفس هذه الزيادة اتبعت في إزاء مصنع الخشب المضغوط حيث تسببت الرخص التي منحتها وزارة التجارة وباب الاستيراد الذي فتحته للخشب المضغوط ومنافسته للمنتوج المحلي إلى قفل المصنع المحلي نهائيا بسبب الخسارة التي أدت إليها سياسة الحكومة الخاطئة في هذا المجال… وها هو المصنع إنهار فعلا وتشرد مئات العاملين الذين يستوعبهم.

هذا مع ملاحظة أن كل البلاد النامية التي تريد أن تنمي صناعتها تهم أول ما تهتم بحماية المنتوج لمحلي من خطر  المنافسة الأجنبية… ولكن هذه الحكومة ورغما من كفاية المنتوج  المحلي من هذه السلع ورغما من عدم احتياج البلا لوارد من الخارج تفتح باب الاستيراد لا لغرض غير اثراء المحاسيب ثراء حراما على حساب التنمية الاقتصادية للبلاد.. وها هي النتيجة تدمير لصناعاتنا الوليدة.

وثمة عامل آخر خلقته الحكومة خلقا وافتعلته افتعالا من شأنه أن يجعل المناخ في البلاد غير ملائم لاستثمارات جديدة أجنبية كانت أم وطنية ومن شأنه أن يخيف المستثمرين الحاليين ويجعل من العسير عليهم الاقدام على التوسع في استثماراتهم لمصلحة الإنتاج القومي ذلك هو الغلاء الذي خلفته الحكومة خلقا بما اتخذته من سياسة ضرائبية وإجراءات مالية خاطئة اهتمت فقط بانتزاع دخول جديدة للخزينة العامة من أيدي المواطنين المؤسسات الإنتاجية دون أن تهتم للآثار السيئة التي تتركها تلك السياسة المالية الخاطئة على صعيد الاستثمار.

فالغلاء وارتفاع الضرائب بما يخلقانه من ارتفاع من تكاليف الإنتاج والمنصرفات العامة يوجدان ظروفا غير مشجعة للاستثمار وبالتالي تحرم البلاد من قيام استثمارات جديدة مما يؤخر التنمية ويطيل من عمر التخلف الاقتصادي الذي يعاني منه السودان.

  • وخطأ آخر ارتكبته الحكومة الراهنة من شأنه أن يقلل حجم الاستثمار في السودان ويبعثر الموارد والإمكانيات القومية التي كان يمكن أن يستفاد بها في مشاريع انتاجية واستثمارات جديدة تزيد دخول البلاد وتوسع مصادرها المالية المحلية ولكن القائمين بالحكم سعيا وراء كسب سياسي زائل وظنا بأنهم سيكسبون تأييد المواطنين بزيادة دخولهم النقدية زيادة صورية لا تلبث أن تزول من أيديهم بسبب الغلاء والضرائب والارتفاع في أسعار الخدمات ظنا منهم في مثل هذا الكسب الشعبي حولوا ما يزيد على ثلاثة عشر مليونا من الجنيهات إلى الاستهلاك والضياع بدلا من الاستثمار والاستفادة.

وبنفس القدر في ضياع الموارد  وتحويلها نحوالاستهلاك نذكر رحلات السيد إسماعيل الأزهري وأعضاء مجلس السيادة وأعضاء مجلس الوزراء إلى الخارج وما تكلفه البلاد من ضياع إمكانياتها من العملات الأجنبية على وجه الخصوص في مهام لا تبرر كل هذا الضياع والتبذير وكان يمكن الاعتماد في أداء المهم منها على أعضاء السلك الدبلوماسي للدولة المنتشرين في أنحاء العالم وبالطبع سينجزونها في كفاءة ومقدرة نسبة لمعرفتهم وتأهيلهم وخبرتهم بها… الأمر الذي كان سيوفر على البلاد كل الضياع والبذخ والخسران الذي تسببت فيه الحكومات بتصرفاتها غير المسئولة والمجافية للمصلحة العامة.

  • وهنالك خطأ كبير وقعت فيه الحكومة كان وسيظل كثير من الضرر بالاستثمار في السودان ذلك الخطأ هوعدم الاستقرار الذي فشلت في علاجه. إن عدم الاستقرار اليوم وعلى يد هذه الحكومة قد شمل كل مرافق الحياة عدم استقرار اجتماعي مرده عدم الرضى والتجاهل الذي تشعر به الفئات والجماعات وسياسة المفاضلة التي تنتهجها الحكومة أمام ضغط فئة قليلة معينة مما يثير الفئات الأخرى ويدفعها دفعا لتسلك نفس الطريق وهكذا تسود حالة عدم الاستقرار.

وهناك أيضا حالة عدم الاستقرار في الحياة القبلية سببه ضعف الحكومة في حسم المشاكل القبلية وتركها بدون حلول في انتظار عامل الزمن ليوجد الحل وهكذا تسوء العلاقات بين أبناء القبائل وتتعرض وحدة المجتمع القبلي للاحتكاك وعدم استقرار كما يحدث في مجلس ريفي جنوب دارفور وغيره.

وهناك عدم الاستقرار السياسي فالحكومة رغما من التآمر على الدستور والقانون ورغما من حصولها على أغلبية من النواب لم تعرف الاستقرار منذ تكوينها.

يضاف إلى ذلك استبدادها برأيها وعدم الاهتمام والاحترام لآراء معارضيها مما يوجد خلافا واحتكاكا وتدهورا في الحياة السياسية ويجد حالة من عدم الاستقرار مما يضير الاستثمار ويعرقل مجيء المال الأجنبي من الخارج لاستثماره في السودان.

رأس المال الأجنبي حيوي وهام بل لا غنى للبلاد عنه لتمويل مشاريع التنمية ما دامت الإمكانيات المادية الأهلية أقل بكثير من حاجة البلاد. ورأس المال الأجنبي سواء أن كان عاما أي مصدره القطاع العام العالمي (الدول المؤسسات الاقتصادية..الخ) لا يتيسر دخوله لبلاد إلا بتوفير مغريات معينة منها الاستقرار في كل مرافق الحياة منها حسن الإدارة المالية وسلامة الأداء الاقتصادي وهي العناصر التي تفتقر إليها بلادنا في ظل الحكومة الحالية.

إن رأس المال الأجنبي رغم من الحاجة إليه ورغما من ضرورة العمل لتوفير المناخ الملائم لاستثماراته المباشرة وغير المباشرة يجب أن لا ينسى المسئولون من ضرورة خلق وتدعيم مصادر الثروة الداخلية حتر يسهم رأس المال الوطني في الحاضر ويتهيأ للقيام بالدور الأساسي في ذلك مستقبلا ويؤسفنا أن نقرر أن الحكومة الحالية قد أغفلت هذا الجانب إغفالا على النحو الذي نفصله في حديثنا عن القطاع الخاص وبما يعكسه سوء الإدارة المالية وتزايد حجم الاستهلاك وتضاءل الإدخار في المال العام.

فالحكومة تعود دائما وأبدأ على المصادر الخارجية الأمر الذي كثيرا ما يقودها إلى عجز تام في تدبير المصادر للاستثمار وليس بعيدا عن الأذهان ما حدث لميزانية التنمية لعام 67/68 إذ قدرت بـ48 مليونا ولم يحقق منها سوى 22 مليون نسبة لعدم مقدرة الدولة الحصول على قروض أجنبية كانت متوقعة.

إن الاعتماد الكلي المستديم على القروض الخارجية أمر غير مرغوب فيه فزيادة على ما قد يفرضه من نوفذ وتسلط أجنبي على حرية البلاد فإنه يثقل البلاد بديون وفوائد تمتص قدرا كبيرا من دخولها التي تجعل منها استثمارات ناجحة تستطيع أن  تسدد ديونها ثم تبقى بعد ذلك ملكا للصالح العام وهذا يقتضي بالضرورة أن لا تسيء الحكومة استعمال القروض الأجنبية وتوجهها للاستهلاك بدلا من الاستثمار مثلا!!!

إن سوء الإدارة المالية ظهرت به هذه الحكومة عن احجام العديد من البلاد والمؤسسات في إعطاء السودان قروضا يستفيد بها في استثمارات التنمية والمواطنون يذكرون أن كل من المملكة العربية السعودية والمملكة الليبية ودولة الكويت وغيرها من المنظمات الدولية كانت قد أعطت موافقة مبدئية بأن تعطي قروضا معينة للسودان لكنها الآن قد اعتذرت عن ذلك نتيجة السمعة المالية السيئة والحالة الاقتصادية المتدهورة التي عرفتها البلاد في عهد الحكومة الحالية.

إن سياسة الاستعمار هي المحك الذي تختبر به السياسة الاقتصادية للحكومة، فإختيار نوع المشاريع وتحديد الاسبقيات وتوزيع الاستثمارات نفسها على مناطق القطر المختلفة كل ذلك يجب أن يتم على أسس علمية ودراسات متكاملة تقوم على اعتبار مرحلة النمو التي يعيشها القطر ومتطلبات المرحلة التي تليها من مراحل التنمية وكذلك ظروف الأداء الاقتصادي والمالي.

وإنه لمؤسف أن تقرر الحكومة الحالية والمسئولين فيها عن إدارة شئون البلاد المالية والاقتصادية

  • يرتجلون أعمالهم ارتجالا وتحركهم لمصلحة الحزبية مسقطين من الاعتبارات المقاييس والأسس العلمية التي لا غنى عنها لإنجاح سياسة الاستثمار وحسن استخدام  القروض والإعانات التي تحظى به البلاد.

ولعل أقوى دليل على أن المسئولين يعملون بأسلوب يجافي العلم وقواعده هو أن مجلس التخطيط الاقتصادي الذي كون من خيرة الاقتصاديين في هذا البلد لبعض العون العلمي في إدارة ووضع خطتنا الاقتصادية قد عطله وزيرالمالية السيد حسين شريف الهندي منذ توليه منصبه وذلك لتكون له يدا حره من غير رقابة العلماء

 

الفصل الثاني

القطاع الخاص

 

النظام الاقتصادي القائم في بلادنا اليوم هو ما يعرف بالنظام الاقتصادي المختلط بحيث يتعايش القطاع العام مع القطاع الخاص.

ولا شك أن للقطاع الخاص دورا كبيرا وهاما في تحقيق تنمية موارد البلاد بالاستثمارات التي يؤديها في مرافق الإنتاج وفي الميادين الأخرى للنشاط الاقتصادي.

لقد شهد القرن العشرين تطورا كبيرا في فعالية الدولة وتدخلها في تنظيم الملكية الفردية أو المجهود الخاص فبدلا من أن كانت تقوم بحمايته أصبحت تنظم أداءه بحيث يؤدي نشاطه دون استغلال العاملين أو جشع في الأرباح على جمهور المستهلكين بل أن الدولة الحديثة ذهبت إلى حد توجيه القطاع الخاص للإلتزام بسياسية الاستثمار التي تضعها الخطة الإئتمانية.

كان الواجب أن تتضمن سياسة الحكومة إزاء القطاع الخاص كان مناقضا تماما لهذه الأسس.

الزراعة:

ففي المجال الزراعي شجعت الحكومة في العام الماضي الاستثمار الخاص لزراعة الذرة بغير حدود مما جعل مساحة الأرض المزروعة تقفز إلى 4.912.759 فدان ثم فوجئ المستثمرون بعدم مقدرة الحكم على ترحيل المحصول للتسويق خارج البلاد وداخلها مما أدى خسائر كبرى لهم وللبلاد على السواء إذ حرمت البلاد على اتساع أكيد في حجم صادراتها وزيادة في دخولها من النقد الأجنبي.. وكذلك المستثمرون الذين تضاعفت خسائرهم مما جعلهم عزفون عزوفا تاما عن زراعة الذرة هذا الموسم وهكذا تضاءلت الرقعة المزروعة ذرة هذا الموسم  إذ أصبحت 2.462.685 فدانا بدلا من 4.912.759 مما أدى إلى هبوط في حجم الذرة المطروحة في السوق وبالتالي إلى ارتفاع في أسعارها إذ يباع الأردب اليوم بـ4 حنيه بينما كان يباع في العام الماضي بين جنيه إلى اثنين جنيه.

وهكذا نتيجة للسياسة الخاطئة التي انتهجتها الحكومة في زراعة الذرة ألحقت الضرر بالمجهودات الفريدة في هذا القطاع وتسببت في ضياع مصالح الأفراد والبلاد على السواء.

لقد كنا نرى أن يعمل نظام ثابت وشامل للزارعة الآلية يحدد سنوات الترخيص وينظم الدورات والتمويل والتسويق. ولكن هذه الحكومة أغفلت كل هذا وأعلنت للناس أن يزرعوا الدورات وأنها سوف تسهل الترحيل وتشتري من المحصول بمقدار 3 مليونا من الجنيهات.

وعندما جاء موعد الحصاد لم تستطع الحكومة الوفاء  بوعد الترحيل أو الشراء مما أضر بالزراعة لموسم 68/69 على النحو الذي بيناه.

ويعاني مشروع الجزيرة مشاكل عديدة درست بواسطة وزارة الزراعة وبواسطة لجنة دولية وكنا قد شرعنا في دراسة تلك التقارير لعلاك مشكلة الجزيرة. إن الحكومة الحاضرة أهملت جميع المشروعات الاصلاحية الخاصة للجزيرة بيد أن الحكومة الحاضرة لا تعتبر الزراعة مصدر فائض وإنتاج بل ينبغي أن تعتبرها خاسرة وبديل لها العون وهذا ما قاله وزير المالية في بيان له أمام الجمعية التأسيسية في يوليو 1968م.

الإصلاح الزراعي:

إن الزيادة في حجم البلاد حاليا يرجع الفضل فيها إلى اتساع حجم القطاع الزراعي والذي يمثل أصلا القاعدة الأساسية لاقتصاديات البلاد ولا بد من تقرير حقيقة هامة في هذا المجال وهي أن مجهودات القطاع الخاص في هذا الاستثمار الزراعي كانت حيوية وفعالة في اتساع حجمه ومن هنا كان الأجدى بالدولة أن تشجع رأس المال الوطني الخاص في هذا القطاع ليواصل دوره البناء في عدالة تامة للعاملين معه وتنظيم وتقويم لعلاقات الإنتاج بين المستثمر والعامل الزارعي مما يعود بالنفع الاقتصادي والاجتماعي على هذا المجتمع وهذا ما أردنا أن نحققه حينما تقدمنا بمشروعنا للإصلاح الزراعي إذ أوجدنا أولا مجالات جديدة يستثمر فيها رأس المال الوطني الخاص وراعينا أن تكون استثمارات ناجحة يعود نفعها على المستثمرين والبلاد على السواء تلك هي مجالات التجارة الخارجية والصناعات بمختلف أنواعها كما وراعينا أن تتم عملية الاصلاح الزراعي في مواقيت تضمن سلامة تنفيذها وتيس عملية انتقال الملكية من الأفراد إلى الجمعيات التعاونية في عدالة وتفاهم.

ثم جاءت الحكومة الحاضرة ونامت على هذا المشروع بل أعلنت تمسكها به ثم عادت تحت ضغط الرأي العام والاضراب الذي ساد المشاريع الزراعية وعلاقات الإنتاج فيها عادت لتقد مشروعا للاصلاح الزراعي الذي كان الغرض منه في الواقع احداث مهزلة كبرى في قطاع رئيسي من قطاعات الاقتصاد أرادت بما يحركها من أغراض حزبية ودوافع مصلحية أن تترجم الاصلاح الزراعي أحقادا وشفافية لمعارضيها في الرأي وفي سبيل ذلك اختارت تاريخا لم يكن ملائما لتنفيذ المشروع ثم خلقت ظروفا أدت إلى تفتيت وحدة المجتمع الزراعي نسبة للروح الحزبية والتحيز الواضح لمصلحة جهات سياسية ضد أخرى مما جعل هذا المشروع يفهم عند الناس وكأنه ثأر من مؤيدي الحكومة على معارضيهم في حملة الانتخاب الأخيرة.

ومن الناحية الاقتصادية فقد كان تطبيق مشروع الاصلاح الزراعي الذي أعلنته الحكومة وبالا على البلاد والمزارعين على السواء فقد هبطت الرقعة المزروعة قطنا من 215.641 فدان إلى 161.362 فدان ثم إن الغرض الأساسي من المشروع وهو تحويل ملكية المشاريع من من فردية خاص إلى تعاونية لم يتم على الاطلاق إذ استوت الحكومة بنفسها على إدارة المشاريع وبهذا قوضت ركنا أساسيا في المشاريع وهو عدالة وتوزيع ثمار الثروة الزراعية وتمليك الأسر الفقيرة في شكل جمعيات تعاونية للزراعة فبدلا من أن يصبح المزارع مالكا بالتعاون مع  زملائه للأرض ومستثمرا أصبح وضعه القانوني والمادي لا يختلف كثير عما كان عليه سابقا تحت ظل الملكية الخاصة ثم إيقاف 54.279 فدانا فجأة عن الإنتاج وبدون إيجاد البديل عنها شرد العديد من الأسر التي كانت تعتمد في حياتها وكسب عيشها على تلك المنشئات أصبحت تجد نفسها في صحراء لبعد قفل تلك المشاريع وانعدام البديل الذي لم تدبره ولم تفكر فيه ولم تعمل على إيجاده الحكومة قبل أن تقدم على قفل تلك المشاريع.

إن 12000 أسرة في الريف تجد نفسها الآن في حالة عطالة دائمة ومأساه إنسانية فظيعة بسبب خطأ الحكومة في تحديد التوقيت الملائم لمشروع الإصلاح وبسبب عدم إيجاد البديل لإعاشة تلك الأسر قبل الاقدام على قفل المشاريع التي كانوا يعتمدون عليها اعتمادا تاما في حياتهم.

التجارة:

إن عمليات التصدير والاستيراد لكثير من السلع يمكن أن يعمل فيها رأس المال السوداني إذ أنها ميسورة الأداء وكبيرة النفع ولا توجد فيها مخاطر كبيرة.

ثم إنها تفوق هذا وذاك حيوية لتأمين اقتصاد البلاد وتكوين رأس المال الوطني في التوكيلات التجارية الأجنبية لمختلف مجالات وأنواع نشاطها.

وكنا قد وضعنا مشروعا متكاملا في فترة حكمنا يؤدي لسودنة واصلاح المصارف الأجنبية ووضعنا مشروعا يؤدي لتأميم الواردات التي تشتري الحكومة أغلبها ويشتغل فيها الأجانب ولا تدخل اعتبارات الخبرة في استيرادها وهي:

الخيش- السماد- المبيدات الحشرية- الأسمدة..الخ.

أما البضائع التي يعمل فيها السودانيون كالشاي واللبن فتكون في شركات عامة. أما الواردات التي تحتاج لخبرة فنية فوضعنا برنامج سودنة شاملة تتم تدريجيا  في ثلاثة سنوات.

ولكن الحكومة القائمة أتت بسياسة مغايرة ومخالفة تمام الاختلاف لهذه الأهداف بل أن السياسة التي أعلنتها تسببت في إحداث الكثير من الاضطراب والربكة والتخويف لرأس المال من الأقدام على تحمل الأعباء التي تنتظره في مجال التجارة الخارجية.

فالسلع التي أعلنت الحكومة استيلائها عليها كان يعمل فيها رأس المال الوطني الخاص ثم إن هناك ماهو أهم منها حجما ونوعا وفائدة من السلع التي يعمل فيها رأس المال الأجنبي كان يمكن الاستيلاء عليها والعمل فيها بأجهزة حكومية أو شركات وطنية أهلية ثم هناك المصارف وشركات التأمين وقد أثبتت تجربة البنك التجاري السوداني ومؤسسات التأمين التي يديرها أبناء البلاد أن البلاد يمكن أن تشرف على هذا الجزء الحيوي من نشاطنا الاقتصادي بامكانياتها المحلية وبمقدرة أبنائها وخبرتهم.

وقد فات على الحكومة تقدير كل هذه العوامل وتقييم كل هذه الحقائق وفات عليها أن السياسة الواجب اتباعها نحو رأس المال السوداني الخاص هي تشجيعه وتوجيهه لإغرائه ليرتاد مجالات التجارة الخارجية ولكنها أرهبته بدلا من أن تشجعه وأخافته بدلا من أن تغريه وأبعدته من مجالات أثبت فيها نجاحه بينما أبقت على رأس المال الأجنبي في مجالات لا تحتاج البلاد فيها إليه.

إن الحكومة قد انتهجت سياسات خاطئة تفتقر إلى الموضوعية وتعوزها الفكرة الواضحة مما جعلها تتخبط وتتنكب طريقا مما سبب كثيرا من الضرر لاقتصاديات البلاد في مجال النشاط التجاري وتوجيه رأس المال الوطني أن يلعب دورا رائدا فيه.

ثم هناك الرخص التجارية وقصصها الشهيرة من (سفنجات) و(بوهيات)..الخ مما أوضح بجلاء أن الحكومة تعطي تلك الرخص لغير مستحقيها في سبيل رشوة سياسية ومحسوبية تغيضة فأفسدت الذمم وهبطت بالمثل والأخلاق إلى أسوأ ما يكون عليه الحكم مما أساء للبلاد ونظمها ومؤسسات الحكم القائم فيها.

لقد وضعنا خطة لتنظيم التجارة الخارجية والنظام المصرفي السوداني عن طريق التأمين والسودنة ولكن الحكومة أهملت ذلك المشروع وعندما رأت تأميم بعض أوجه التجارة احتكرت الشاي والبن والملح وهي مواد كان يعمل فيها رأس المال الوطني بنجاح ولم يكن احتكارها في مشروعنا لتنظيم التجارة الخارجية وكان هذا الإجراء بمثابة أسلوب من أساليب زيادة الضرائب على المواطنين عن طريق أرباح الشاي والبن والملح إلى 45% ليدر دخلا اضافيا للخزينة.

لم تنظم الحكومة محاصيل السودان المختلفة بل كانت وما زالت خاضعة لضغوط المحاسيب لتبخس ثمن محاصيلنا التصدرية الهامة: الصمغ العربي. عزمت الحكومة في الموسم الماضي أن تحدد له سعرا منخفضا وهي في هذا العام متهجة في نفس الإتجاه وإن ضرر ذلك على السودان وخيم.

كنا نزمع تأميم أحد البنوك الأجنبية وتحويله إلى بنك تجاري وإلزامه بفتح فروعه في كل الأسواق الأقلية ليساعد على تمويل التجارة الداخلية وشرعنا في وضع سياسة متكاملة لتنظيم التجارة الداخلية ولكن الحكومة الحالية أهملت كل هذه الإصلاحات المقترحة.

الصناعة:

لقد ظل المسئولون في هذه الحكومة يرددون دائما وأبدا أنهم يشجعون الاستثمارات الخاصة في الصناعة وأنهم يلتزمون بكل ما من شأنه مساعدة وإنجاح الصناعة السودانية. فهل أوفت الحكومة بذلك.

المواصلات وأهميتها في ربط السوق الداخلية بالعالم الخارجي واستيراد كل ما يلزم للوحدات الصناعية من معددات وآلات ومواد وضرورة الحصول عليها في وقت كاف حسب برامج الإنتاج المقررة ثم تسير المواصلات نفسها داخل القطر لسهولة وسرعة وتوزيع المنتوجات المصنعة داخل السوق المحلية أمر أساسي في صناعة الصناعة الوطنية.. فماذا فعلت الحكومة في هذا الصدد؟ إن الأنباء تتحدث كل صباح عن تراكم البضائع من آلات ومعدات فنية وعدم مقدرة السكة حديد في ترحيلها داخل القطر مما يعرقل عمليات الإنتاج وبرامجها ويترك أسوأ الأثر على المؤسسات الصناعية الناشئة ونفس القول ينطبق على قطع الغيار والمواد التي كثيرا ما أدى عدم انتظام وصولها لتوقف العديد من المنشئات الصناعية وهبوط إنتاجياتها.

من المؤهلات الضرورية لتحقيق النمو الصناعي إيجاد ما يسمى (الطبقة الفنية الوسطى) وهي تعني إيجاد جيل من المؤهلين أكاديميا والمدربين فنيا في مستويات دون الجامعية وأهمية هؤلاء هي أن وجودهم يعتبر بمثابة تأمين لحياة الأجهزة الميكانيكية والفنية التي يتطلبها التصنيع، وأهمية هذه الطبقة قد أصبحت من التجربة التي عاشتها البلاد التي سبقتنا في هذا المجال فقد اتضح أن المجتمع الصناعي يحتاج لوعي مهني وفني كبير ولا يكفي فقط تدبيرالمال والمواد والآلات كما ولا يمكن الاعتماد على الخارج باستمرار لاستيراد الخبرة الفنية في مستوى طبقتها الوسطى إلى مستويات ما دون التخصص العالي وهذا الأمر كان وما زال يتطلب تغييرا جذريا في السياسة التعليمية في هذا البلد على أساس الاهتمام والتركيز على التعليم المهني والفني بأوجهه وأنواعه المختلفة ولكن الحكومة ظلت حتى الآن تطبق سياسة تعليمية روتينية تتمثل في الاتساع العمودي في التعليم مهتمة بالنظري منه أكثر من المهني وتركز على المدن على حساب الأقاليم.

الحكومة لم تفعل سوى تبنيها للمشاريع التي اقترحتها وأقامتها وتساهم في الاشراف عليها المنظمات الدولية مثل مراكز التدريب المهني ومعهد البحوث الصناعية ومراكز الكفاية الإنتاجية.

كان من الواجب أن تتجه السياسة التعليمية في هذه المرحلة من مراحل التنمية لإيجاد الطبقة الفنية الوسطى لأن ذلك وحده هو الذي يمكن أن يخدم الصناعة السودانية الناشئة في مجال هو من المجالات الحيوية والمصيرية فيها.

إن القوى العاملة أيضا تحتاج لتنظيم وتنسيق وإعداد متمشية مع الحركة الصناعية التي تعرفها البلاد اليوم ولهذا الغرض كنا قد أعددنا مشروعا كاملا أيام تولينا مسئوليات الحكم لمجلس قومي للقوى العاملة ولكن جاءت الحكومة الحالية ليموت على يدها هذا المشروع وتظل البلاد حتى اليوم بدون مجلس قومي لتخطيط القوى العاملة والصناعة السودانية الناشئة كانت تحتاج من ناحية أخرى لحماية تامة من قبل الحكومة من الواردات الماثلة وذلك نسبة لضيق رقعة السوق المحلية التي لا تسع المنتوج الوطني بالاضافة إلى وارد منافس من الخارج ثم أن الصناعة المحلية لا تقوى إلا بعد بلوغها مرحلة الإنتاجية الكاملة وبلوغ هذه المرحلة يتطلب وجود سوق محلية متسعة يتزايد فيها استهلاك السلع المصنعة وإذا اعتبرنا أن سكان المدن في السودان لا يتجاوزون 8% من جملة السكان في البلاد لوجدنا أن التفكير في استيراد سلع صناعية من الخارج لمنافسة السلع المصنعة محليا إنما يكون تحطيم للصناعة الوطنية الناشئة وهذا ما فعلته الحكومة القائمة بالفعل إنها فتحت باب استيراد المنسوجات القطنية كالدبلان والأقمشة الشعبية مما سبب مشاكل في توزيع المنتوج المحلي وجعل مصانع النسيج السودانية تعيش في حالة اختناق قاتل.

فسياسة الحكومة تجاه القطاع الخاص كانت ولا زالت سياسة أبعد ما تكون عن الصواب فقد أضرت به في مجالات النشاط الزراعي، والتجاري والصناعي الأمر الذي يعرقل نمو وسير هذا القطاع والقيام بدوره كاملا في ظل نظام الاقتصاد المختلط القائم وفي عدل وحماية مصالح الفئات والجماعات ومصلحة الأمة كلها.

الفصل الثالث
تقييم الموقف الاقتصادي الحالي

ميزان المدفوعات

مازال الاقتصاد السوداني يغلب عليه الطابع الريفي حيث يتسع القطاع التقليدي الذي يعيش في كنفه أكثر من ثلثي سكان البلاد حسب احصائيات الأمم المتحدة. والحياة في هذا القطاع إنما هي في الواقع مأساة إنسانية كبرى إذ أن المواطنين يفتقرون فيه لكثير من مقومات الحياة الأساسية بمستويات القرن العشرين فزيادة على أن معظمهم يعانون من مشكلة العطش فإنهم جميعا وبمختلف المواقع الجغرافية والتقسيم الإقليمي يعانون من نقص في خدمات الأمن والتعليم والصحة والأسكان والمواصلات.

ومن هنا كان يجب أن تتجه السياسة الاقتصادية لتحث القطاع التقليدي للاقدام على استثمارات من شأنها أن توجه مشاريع إنتاجية كبرى لتغير من شكل القطاع التقليدي في حجمه وهيكله ليغير ما بدأنا في العمل به حين آلت أليها مسئولية الحكم في البلاد ووجهنا الأجهزة الاقتصادية بحصر موارد القطاع التقليدي وتقديم الدراسات عن المشاريع المختلفة في مناطق البلاد العديدة حسب الأسلوب الذي حددناه وبيناه في خطاب الميزانية الذي ألقاه السيد حمزة ميرغني في الجمعية التأسيسية عام 1967 وكنا نرى في إعداد تلك الدراسات أساسا لتوجيه الاستثمار على أسس علمية محددة للتوسع داخل القطاع التقليدي لأننا نؤمن بأن التنمية الاقتصادية داخل القطر السوداني لا بد أن تتجه إلى الريف وتتوسع فيه لتحرك مصادر الثروة الإنسانية والشيئية التي لم تستغل حتى اليوم لهذا الغرض.

لقد وضعنا مشروعات لتحريك القطاع التقليدي الذي يشمل الزراعة المطرية غير الآلية والثروة الحيوانية وتشتمل تلك المشروعات على محاربة الشيل وتحسين فرص التمويل وتحسين البذور وادخال الآلة لمساعدة  المزارع وتحسين أجهزة تسويق المحاصيل وتوفير المياه الريفية كجزء من مخطط لاسكان القبائل المترحلة وتجميع القرى وإقامة أجهزة مركزية لتسويق الإنتاج الحيواني.

ولكن للأسف انهارت كل هذه المشروعات وتوقف العمل في هذا المجال الهام من الاقتصاد السوداني على أيدي الحكام الحالين الذين أصبحوا الآن يرون في حفر الآبار وتوزيعها على أسس من الحزبية والمحسوبية كل شيء فيما يختص بالعمل داخل الريف السوداني ولسنا في حاجة بأن نقول إن حفر الآبار ليس هو كل شيء للتعمير الاقتصادي في الأقاليم إذ كان الواجب يتبع ذلك خدمات في التعليم بمستوياته المختلفة وكذلك الصحة والاسكان والأمن وما إليها بل كان يجب أيضا توزيع المواطنين المنتشرين في انحاء البلاد في نقاط استراتيجية يتوفر فيها الإنتاج والخدمات العامة على السواء من ما يمكن مواطنيها في الاقاليم من الاستقرار والمساهمة في الحياة الاقتصادية للبلاد ورفع المستويات المعيشية في المناطق التي يعشون فيها على النحو الذي وضعناه في مشروعاتنا.

لقد اخفقت الحكومة القائمة في أن تنتهج مثل هذه السياسة القائمة التي وضعنا أسسها وخططنا برامجها وبدأت أي الحكومة تتنكب الطريق وتركز في استثماراتها على اتساع التعليم اتساعا عموديا في المدن مما أوجد العطالة في صفوف المتعلمين في مستويات مختلفة في الوقت الذي ظل الأطفال والشبان والكبار بالأقاليم أحوج ما يكونون فيه للمثقف والتربية الأولية ونفس القول ينطبق على الخدمات العامة الأخرى كالصحة وغيرها ففي الوقت الذي تعج فيه المستشفيات في المدن الكبرى بالمعدات والأطباء نجد العديد من المناطق الإقليمية تفتقر إلى المراكز الصحية اللازمة وحتى التي تحظى بوجود بعض المستشفيات نجدها تقاسي نقصا مخيفا من ناحية عدد الأطباء وكافة الاستعداد اللازمة للعناية بصحة المواطنين الأمر الذي أوجد تفاوتا بين السكان في القطاع الحديث التقليدي من حيث الاستفادة بثمار الثروة القومية وتوزيعها العادل بين السكان في مناطق القطر المختلفة.

ويقينا أن هذا الاتجاه الذي يهمل الأقاليم في مجالي الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي من شأنه أن يولد شحنات من عدم الرضا والتذمر ويفجرها بكيفية تضر بالوحدة القومية القومية بترابط وتماسك مجتمعنا السوداني ونحن إذ نبه إلى هذا الخطأ الكبير الذي وقعت فيه السياسة الاقتصادية للحكومة القائمة إنما ندعوا إلى مراجعة سريعة لتصحيح هذا الخطأ خشية أن يكلف البلاد أعباء وخسائر في الحاضر  والمستقبل لا طاقة لنا ولأجيالنا بها.

هنالك الثروة الحيوانية وهي فوق كونها رصيدا ممتازا للتنمية الاقتصادية في البلاد فإنها ممتاز للتنمية الاقتصادية في البلاد فإتها في المجال الأساسي الذي يمكن أن  يستحدث عن طريقة الجزء الأكبر من القطاع إذ أن ثمانية مليون من السودانيين يعيشون عليها ويربطون بها ارتباطا دائما فالاقدام على مشروع يرمي إلى صيانة هذه الثروة والاستفادة منها وبمنتجاتها تصنيعا وتجارة من شأنه أن يحدث ثورة  اقتصادية داخل نطاق القطاع التقليدي ومن شأنه أيضا أن يرتفع بالمستويات الاجتماعية للسكان والعاملين في ذلك   القطاع الأمر الذي ينعكس وبصورة إيجابية على مصلحة البلاد. إن اهتمامنا بضرورة توجيه السياسة الاقتصادية لخدمة الريف السوداني واستحداثه لا نعني بها تملقا أو توددا لمواطنينا بالأقاليم وإنما لاقتناعنا اقتناعا علميا ولإيماننا الناتج عن دراسة وأدراك بأن المجال الحقيقي للتنيمة الاقتصادية بالسودان إنما يكمن في القطاع التقليدي وتحريكه واستحداث القطاع الحديث.

لقد أوضحنا في الأبواب السابقة من هذا البحث كيف أن الأداء الاقتصادي للقطاع الحديث من حيث الإنتاج والاستثمار والإدخار في حالة تعكس  كثيرا من عدم الرضا بل وتوضح خروجا عن الخط الذي يمكن أن بالبلاد إلى تحقيق آمالها وهدافها العاجلة في التنمية الاقتصادية والوحدات الإنتاجية المختلفة يفتقر إلى الاصلاح والتقويم ونود أن نقرر أن خطر كبير يهدد البلاد من جراء السياسة التي يطبقها المسئولون في القطاع العام. لقد سبقت أن أنشأت لجنة للنظر في شئون الخدمة والمستوى المعيشي للعاملين مقارنا بالأجور والمرتبات ورأت اللجنة المذكورة فيما تحدث عنه من اصلاحات اقترحت الأخذ بها وتوصيات قدمتها الدراسة المسئولين رأت ضرورة زيادة أو الارتفاع بدخل العاملين لتمكينهم من تحمل نفقات المعيشة المتزايدة.

كان على الحكومة إذا أن تخضع هذه التوصية والتي كانت تخص كبيرا من سكان البلاد وهم العاملون في القطاع العام إلى دراسة تضمن سلامة تطبيقها في دون ما انعكس على الأوضاع المالية والاقتصادية بالنسبة لكافة ضبقات المجتمع السوداني. كان من الممكن مثلا أو من الأفيد أن تتجه الحكومة لاحداث زيادة في (الدخول الحقيقية) للعاملين وذلك يتم على بالقضاء على موجة الغلاء المتفشية في سوق السلع والخدمات بتوفير المعروض منها مما يحدث هبوطا أكبر في أٍسعارها لمصلحة جمهور المستهلكين سواء كانوا من القطاع العام والخاص إذ أن الغلاء في الواقع إنما يقع عبئه على جمهور المستهلكين في القطاعات المختلفة مع اختلاف مخدميهم وفي مناطقهم المختلفة كانت مدنا أو قرى وعلى هذا المستوى كان يجب أن تضع أسس السياسة التي تحارب الغلاء ولكن الحكومة ووزير ماليتها فشلوا فشلا تاما في معرفة هذه الحقيقة الأبجدية في علم الاقتصاد وأغرقوا السوق بنقد سائل كبير الحجم عن طريق ما سمي (بالكادر) وبالتحسينات التي أجرت على دخول العاملين في القطاع العام كان ذلك الإجراء وبأعلى اقتصاديات الأفراد العاملين في القطاع العام وأسرهم بل وعلى الأمة السودانية جمعاء لأسباب عديدة:

  • إن موجة الغلاء إزدادت عمقا وإن موجة الغلاء ازدادت ارتفاعا بسبب صرف (الكادر) وأزدياد القوى الشرائية في أيدي العاملين في القطاع العام والذين يكونون أغلبية جمهور المستهلكين.
  • إن الحكومة نفسها صرفت الكادر لمحاربة الغلاء. رفعت الضرائب وأسعار الخدمات إلى مستوى أعلى من أي مستويات ماضية فازدادت رسوم الماء والنور ونفقات الترحيل ونفقات البريد والبرق المختلفة والرخص والجوازات وكافة الخدمات التي تؤديها الحكومة لجمهور المواطنين الأمر الذي أعطى الغلاء اعترافت رسميا وقانونيا من قبل الدولة.
  • تكاليف (الكادر) ليست مؤقتة وإنما هي عبء دائم على الخزينة العامة مما يجعل الحكومة في ضائقة مستمرة لتدبير الدخول اللازمة لتغطية تلك التكاليف.
  • تكاليف (الكادر) تعني تحولا لقدر من إمكانيات الدولة المالية تبلغ ثلاثة عشر مليون جنيه في العام إلى الاستهلاك في وقت كان يمكن الاستفادة بها في الاستثمار والذي يمكن الاسراع به لتحقيق التنمية الاقتصادية. ومن ذلك أن (الكادر) لم يحقق مصلحة واحدة وإنما عكس مستوى عدم الكفائة الواضحة لدى المسئولين عن سياسة البلاد المالية والاقتصادية في هذه الفترة من تاريخ حياتنا ولا شك أن إجراءات الكادر لم تكن نابعة من سياسة أجور موحدة بل كانت إجراءات ارتجالية قصد بها الكسب الحزبي الضيق كما أنه لم يراع فيها موقف العاملين في القطاع الخاص والقطاع التعاوني حتى العاملين في الهيئات المستقلة والحكومات المحلية طبق عليهم (الكادر) دون دراسة إذ أن الدراسات الموجودة كانت متعلقة بالحكومة المركزية وهذا تخبط واضح وضار أن (الكادر) وبهذه الصورة إنما يؤكد بأنه محاولة ساذجة لرشوة العاملين في القطاع العام لمصلحة المستفيدين بحكم البلاد حاليا وتطلعها بحكمها في المستقبل ولكن هذه المحاولات الساذجة وقد وضحت نتائجها السيئة على اقتصاد البلاد وعلى ماليتها وعلى اقتصاديات الأسر والأفراد ودخولهم لن تجوز على الجماهير الوايعة التي تدين هذه الأساليب وهذه الاتجاهات الرامية لتسخير الاقتصاد القومي في خدمة اتجاهات حزبية وسياسية غير مسئولة لقد ظل القطاع العام على أدي الفئة الحاكمة اليوم يمارسون أسوأ العادات الاستهلاكية سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو المستوى الخارجي وأن البذخ والاستهلاك التفاخري الذي يظهر في المستويات السياسية والدستورية العليا كان لذك في رحلاتهم أو تجوالهم أو زياراتهم إلى خارج القطر والأمثلة عديدة في هذا المجال وهي منبع السمع ومنبع البصر لكل متتبع لليحاة العامة وأحداثها. لقد ظلت الحكومة الحالية ممثلة في وزير ماليتها تردد دائما وأبدا أن موقف الاقتصاد السوداني مرضيا كل الرضا وأنه قوي متين. ويقولون أن الخبراء الوافدين من الخارج يؤكدون هذه الحقيقة: ونود أن نوض ح هاهنا أن الذي يؤمن عليه الخبراء الأجانب ويشيدون به ليس هو أداء الاقتصاد السوداني وإنما وجود مصادر ثروة يتمتع بها السودان زراعية كانت أم حيوانية نسبة لاتساعها وأهميتها والاشادة بالاقتصاد السوداني إنما هو اشادة بهذه المصادر التي وهبها الله للبلاد والفرق بين هذه المصادر والأداء فرق واضح يجب أن لا يخلط بينه لاسيما إن كان ذلك الخلط لتضليل الرأي العام: إن أداء الاقتصاد السوداني ليس في حاجة لحكم الخبراء عليه لأن المواطنين يعيشون في حياتهم اليومية ممثلا الخدمات العامة التي تقدم لهم وفي فرص العمل المتاحة لهم وفي قدر الدخل واستقرار الأحوال المعيشية والأسعار وترابط القطر بعضه ببعض اقتصاديا واجتماعيا وتجاريا! إن الناس يحكومن على أداء الاقتصاد السوداني بقدر النقص الواضح الذي يجابهونه في دخولهم الحقيقية وبمدى انخفاض مستويات معيشتهم وبمدى التدهور الشامل في خدمات الصحة والتعليم والأمن بل حتى مقدرة الخزينة العامة في أن تعطيهم أجورهم ومرتباتهم قمابل الأعمال والجهود التي يؤدونها للدولة ويسهمون بها في زيادة الناتج القومي إن الرأي العام قادرعلى الحكم على مستوى الأداء الاقتصاد الراهن على مستوى الاقتصادي الراهن على أساس التدهور في حجم أرصدتنا في توازن اقتصادنا إن أداء الاقتصاد السوداني على أيدي الحكومة الراهنة قد وصل إلى درجة قصوى في التدهور وإننا إذ نقدم هذا البحث موضحين في موضوعية وإيجاز نواحي الخطأ في السياسة الاقتصادية للحكومة القائمة إنما نؤدي ذلك بدوافع ودرء المخاطر عن حاضر البلاد ومستقبها بكل فئاتها وتنظيماتها وهيئاتها وتكويناتها المتعددة إذ عليها وحدها وعليها جميعا يقع عبء العمل الجاد لاصلاح الأعوجاج وتقويم الخطأ ودرأ المخاطر عن حاضر البلاد ومستقبها في هذا المجال الاقتصادي الحيوي وفي هذه الفترة المبكرة من مراحل التنمية الاقتصادية.

الجنوب:

إن الحل العسكري لم يكن بأي حال من الأحوال وفي أي عهد من العهود هو الطريق السوي لمعالجة مشكلة الجنوب بل قد   كان تدخل القوات المسلحة أمرا تقتضيه ظروف الأمن في المديريات الجنوبية لمعالجة التمرد وكسر شوكته على أن تحل القضية –أي قضية الجنوب- على صعيدين هما الصعيد السياسي والصعيد الاقتصادي وما دمنا هنا بصدد الحديث عن الاقتصاد فنود أن نوضح أن الحكومة القائمة وللأسف الشديد قد أهملت الوضع الاقتصادي في المديريات الجنوبية مما أدى إلى تدهور اقتصادي واجتماعي واضحين فتفتقت ظاهرة العطالة وظهرت بوادر مجاعة مخيفة تهدد سكان المديريات الجنوبية.

ولسنا في حاجة للقول بأن تفاقم حجم العطالة في الجنوب لاسيما لدى المنتجين من سكان تلك المديريات والذين اعتادوا على كسب عيشهم من العمل قد تسبب فيه أولا:

  • عدم اقدام الحكومة على ايجاد أعمال منتجة في مختلف الموافق تستوعب تلك الأيدي العاطلة.
  • فشل الحكومة في أن تهيئ لمجال الاستثمارات خاصة في المديريات الجنوبية لمثل هذه الغاية فقد ركزت الحكومة على جانب الأمن كسبيل وحيد لحل المشكلة القائمة في المديريات الجنوبية مما أدى لإهمال الجانب الاقتصادي الذي تسبب في هبوط الطلب في سوق العمل بالمديريات الجنوبية فكانت هذه العطالة المخيفة والتي تعني مزيد من الحرمان للمواطنين في ذلك الجزء من البلاد وكثيرا من عدم الرضا في مثل هذه البيئة تقوي شوكة التمرد ويصبح المجال واسعا وخصبا لمختلف أنواع الجرائم. لقد فشل الأسلوب الحربي تماما في أن يحقق الاستقرار في المديريات الجنوبية وهذا ما كنا نتوقعه وسبق أن احتطنا له حين خطينا متتابعين لحل مشكلة الجنوب أحدهما كان الخط السياسي والذي وضح في إجراء في الانتخابات الجنوب عام 1966م واشراك الجنوبيين اشراكا فعليا في مؤسسات الحكم آنذاك ووضح هذا الخط أيضا في مؤتمر الأحزاب الجنوبية في لجنة الدستور الأولى الأمر الذي تسبب في قدر كبير من الرضى لدى الرأي العام المستنير في المديريات الجنوبية من الناحية السياسية.

وبنفس المستوى اهتممنا بالجانب الاقتصادي وحركنا الأجهزة الحكومية لتدعيم قرى (السلام) بتدابير من شأنها أن توفر العمل لأولئك المواطنين في اماكن تواجدهم والقيام بحملة اقتيصادية كبرى من شأنها انعاش الاقتصادي بمختلف مرافقه بالمديريات الجنوبية ولكن يؤسفنا أن اعقبتنا في تحمل مسئوليات حكم البلاد الفئة الحاكمة حاليا وخرجت عن تلك المخططات ولم تلتزم أو تستفيد بها أو تأتي بمثلها مما هبط بالوضع الاقتصادي والاجتماعي في المديريات الجنوبية إلى مستواه الراهن من التدهور أي العدالة والمجاعة وعدم الاستقرار. إننا لا نرسل هذا القول على عواهنه وإنما هو تحليل واقعي للوضع السائد في المديريات الجنوبية اليوم حسب ما ترويه تقارير لجنة تقصي الحقائق بالمديريات الجنوبية وهي لجنة برلمانية ممثلة لكل الاتجاهات السياسية في ذلك الجزء من القطر وما دار في مؤتمر الأمن في يوليو1986م.

 

ميزان المدفوعات:

هناك حقيقة لا بد من اقرارها وهي أن البلاد التي  تمر بمثل مرحلة التنمية الحالية التي تعيشها بلادنا لابد أن تواجه عجزا أساسيا في ميزان المدفوعاتها وذلك لأن التنمية الاقتصادية نفسها تجعل حاجة البلد المتخلف لاستيراد الآلات والمعدات وكذلك لجلب القروض المالية حاجة كبيرة لتحريك مصادر الثروة الداخلية. غير أن هذه الحقيقة العلمية الثابتة أن لا تفسر لدى المسئولين بأنها زريعة لكي يتصف ميزان المدفوعات بالاختلال المتزايد المستمر فقد تجاوزالسودان عامه السابق من خطته العشرية الراهنة فكان لابد بعد الاستثمارات الضخمة التي أجريت في الخمسة أعوام الأولى من الخطة العشرية أن يكون هناك تحسن نسبي بالنسبة للتوازن في ميزان المدفوعات إذ أن المتوقع ينخقض نسبيا حجم الواردات من السلع المستوردة كما ويرتفع ارتفاعا ملحوظا حجم صادراتنا إلى السوق المالية وكان متوقعا أيضا أن تكون الخبرة العلمية والتدريب الذي حصل عليه أبناء البلاد في الخارج والداخل عوضا عن حجما كبير من الوافدين من الخارج إلى الداخل مما يسهل تحسينا نسببيا في تحرك هذا الجزء (غير المنظور) من ميزان المدفوعات وبنفس القدر من التوقعات كان المنتظر أن يتوسع حجم الادخار المحلي وترتفع إنتاجية الاستثمار المحلية إلى مستوى يقلل من اعتمادنا على الأموال الخارجية بالقدر الذي كانت عليه الحال أبان السنين الأولى لتنفيذ الخطة.

ولكن سوء الأداء الاقتصادي في أجهزة  الإنتاج والخدمات وفي تخطيط السياسة الاقتصادية العامة والذي تتحمل الحكومة القائمة الجانب الأكبر من المسئولية فيه قد أدى إلى فشل العديد من هذه التوقعات ولم يحقق النتائج المنتظرة إننا على يقين بأن السياسة التي تنتهجها الحكومة الحاضة في هذا المجال الحيوي تقود الآن وستقود في العام القادم والأعوام التي تليه إلى مزيد من التدهور ومزيد من الاختلال في ميزان مدفوعات البلاد، فالحكومة ساعية وراء الحصول على دخول من النقد المحلي لمجابهة مشكلة عدم السيولة النقدية تفتح الباب لمزيد من الواردات من السلع الكمالية الأمر الذي يؤثر تأثيرا ملحوظا على أرصدتنا من النقد الأجنبي وهي ثانيا في سبيل أغراء سياسة ومصالح حزبية تنفق لكثير من أرصدتنا الخارجية على رحلات الكبار من رجال الدولة سواء كان ذلك من زيارات أو رحلات للمعارض الدولية وتتحمل أرصدتنا الخارجية المتواضعة مثل تلك المنصرفات الكبيرة دون أي عائد يذكر.

ثالثا: لقد تسبب تطبيق مشروع الاصلاح الزراعي بالكيفية التي وضعتها به وطبقتها الحكومة القائمة إلى انخفاض الرقعة المزروعة قطعنا في المشاريع الخصوصية وبالتالي فسيتأخر حجم صادراتنا من القطن بنفس القدر ويضاف إلى ذلك سوء الخريف والذي سينعكس بدوره على صادراتنا من الفول والسم والصمغ العربي كل ذلك سيهبط بالطبع بحجم الصادرات السودانية في العام المقبل وسيقود حتما إلى مزيد من الاختلال وعدم التوازن في ميزان المدفوعات والأرقام التالية توضح مدى التدهور الذي تبلغته البلاد في موقف أرصدتها وميزان مدفوعاتها وموقفها النقدي على يدي الحكومة الحالية.

الأرصدة الخارجية:

أما ميزان المدفوعات والأرصدة الخارجية فحسبنا أن نذكر بعض الأرقام المأخوذة من نشرة بنك السودان.

أولا: كان ميزان المدفوعات في الحساب الجاري في عام 66/67 معجزا بـ17.5 مليون من الجنيهات وفي 67/68 معجزا بـ19.5 مليونا وإذا اضفنا حساب رأس المال كان العجز الكلي في عام 66/67 ثلاثة ملاين من الجنيهات وفي 67/68 – 7/10 مليونا. ومن الدراسات التي قمنا بها يتوقع أن يستمر العجز في ميزان المدفوعات في هذا العام 68/69 في مستوى 67/68 أو أكثر من ذلك.

أما تدفق رأس المال الخارجي فقد كان الصافي عام 66/67 14.5 وانخفض إلى 8.4 في عام 67/68 وليس هناك ما يدل على أنه سيرتفع في عام 68/69 على مستوى 67/68.

أماالأرصدة الحرة فقد كانت في نهاية66/67 18.5.

وكانت في نهاية 67/68 17.5 ملين.

وكان رصيد السودان تحت إتفاقيات الدفع في نهاية عام 66/67 8.106

وفي نهاية عام 67/68 3.018

والأرصدة الحرة اليوم تتراوح بين 13و14 مليونا ويشمل هذا الرقم على

  .3 مليونا القرض الإيصالي

.3 مليونا استدانة البنوك التجارية

  .4 مليونا التزامات مؤخرة

                        .10 مليونا

وعلى هذا فأن صافي الأرصدة يزيد عن أربعة مليون من الجنيهات ورغم وجود كميات كميات من القطن في البلاد فأن مستوى الصرف ظل عاليا في الشهورالأولى من هذه السنة وستنتهي هذه السنة بعجز في ميزان المدفوعات وستظل الأرصدة في مستواها المنخفض إن لم تنزل عن هذا المستوى.

هذه الصورة سريعة لموقف وميزان المدفوعات وهي أقل ما يقال عنها إنها صورة قاتمة وخطيرة.

الموقف النقدي للحكومة:

ظل الموقف النقدي للحكومة في حرج شديد رغم

  • زيادة الضرائب في آهر العام الماضي.
  • استخدام كل احتياطي الوحدات الحكومية.
  • عدم الوفاء بدفع التزامات القطاع الخاص في مواعيدها.
  • سحب أرباح بنك السودان مقدما.
  • ارتفاع نصيب الحكومة من مشروع الجزيرة ونتيجة لمبيعات القطن التي وصلت رقما قياسيا.
  • الاستدانة من بنك السودان وفي هذا المجال نكتفي بذكر هذه الأرقام حسب تقرير بنك السودان فإن استدانة الحكومة من البنك وصلت في نهاية 1967- 19.3 مليونا وصلت استدانة الحكومة عن طريق شيكات الخزينة 5 ملايين وعلى هذا كان جملة استدانة الحكومة 24.3 مليونا وأرتفعت هذه المديونية في يوليو 1968م إلى 21 مليون زائدا لخمسة ملايين أي 26.1 مليون واستدانة الحكومة من البنك وصلت اليوم أكثر من 33 مليون وستزيد بلا شك نسبة لصرف الكادر.

الضرائب:

لقد أوضحنا من قبل أن السياسة الاقتصادية السليمة هي التي تتجه إلى استحداث وزيادة مصادر الدخل باستثمارات جديدة لاسيما وأن في بلادنا مجالات كبيرة في الزراعة والصناعة الثروة الحيوانية ولكن الحكومة ورغما من تأكيدات وزير ماليتها العديدة بأنه لن يلجأ إلى أي ضرائب جديدة فقد خرجت على الناس بأعباء ضرائبية لم تعرف البلاد لها مثيلا في تاريخها الطويل ودون أن نلجأ للاطالة في هذا الصدد نورد بعضا من الخدمات والسلع التي شملتها الزيادات الضرائبية الأخيرة:

  • ضريبة الدخل الشخصي.
  • أجور البريد والبرق والتلفون.
  • الرخص التجارية.
  • مياه الشرب في الأقاليم.
  • أجور المنازل الحكومية.
  • رسم الدخول على الواردات.
  • الملابس المستوردة.
  • السيارات.
  • رسوم جواز السفر والجنسية.

هذه زيادة على فرض رسوم دمغة على ما يزيد عن مائة بند من الأجراءات والتعاملات التي شملت حتى الإشارات البرقية وفواتير الماء والنور وغيرها من الأشياء التي تؤثر تأثيرا مباشرا على الحياة اليومية للأفراد والأسر.

وإننا لعلى ثقة بأن الميزانية الجديدة ستأتي بمزيد من الضرائب الفادحة.

مانتوقعه لميزانية 68/69:

أ. إذا افترضنا أن ميزانية التنمية لعام 68/69 ستكون في نفس المستوى المنخفض لميزانية التنمية في عام 67/68 حوالي 28 مليون جنيها.

وإذا افترضنا أن القروض الأجنبية ستتدفق إلى بلادنا بمعدل 15 مليون جنيه في غضون عام 68/69 وهذا افتراض شبه خيالي لأن بلادنا اكتسبت سمعة سيئة مما سيجعل حصولنا على هذا المستوى من القروض الأجنبية أقرب إلى المستحيل.

وإذا وضعنا هذه الافتراضات في الحسبان فإن البيانات التي بين أيدينا عن دخل الحكومة ومصروفاتها لعام 68/69 سيجعل عجز الميزانية في حدود 25 مليون جنيه. وإن الضرائب الأضافية لن تسدد أكثر من نصف هذا العجز فمن أين ستغطي الحكومة باقي العجز؟

ستلجأ إلى حالتين إما أن تفرض تخفيضا عشوائيا عاما على كل بنود الميزانية بنسبة 5% إلى 10% أو أن تلجأ إلى التضليل بأعطاء أرقام خيالية عن الإرادات لتبتلع العجز.

إن تقديرنا لميزانية 68/69 هو أن القروض المنتظرة الخارج لن تتحقق ولا يوجد فائض لمواجهة أعباء التنمية ولذا فستهمل ميزانية التنمية لعام 68/69 وتقديرنا أيضا أن الميزانية سيتم توازنها بأسلوب التضليل إما بتخفيض غير واقعي للمصروفات أو تضخيم غير واقعي للإيرادات  ويسد العجز عمليا عن طريق الاقتراض من بنك السودان بما فوق الحدود الموضوعية لاقتراض الحكومة من البنك.

أما فيما يتعلق بميزان المدفوعات فإننا نتوقع أن يكون العجز في ميزان مدفوعاتنا لعام 68/69 حوالي 15 مليون جنيها وهذا المبلغ يحدثنا وزير المالية في أحد بياناته بأنه سيعطي من اتفاقيات الدفع فإن رصيدنا ليس دائما دائنا إلا مع مصر بمبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات وكلنا يعلم المشاكل القائمة سنويا في موضوع حساباتنا مع مصر مما يجعل رصيدنا دائما دئنا ولذا فإن مسألة اتفاقيات الدفع لن تسعف وزير المالية هذا العام أما صندوق النقد الدولي فمعلوماتنا تؤكد أنه لن يسد عجز ميزان مدفوعاتنا بل وافق فقط على تأجيل دفع أقساط مستحقة على السودان تبلغ حوالي ثلاثة مليون جنيها ووافق على أعطائنا قرضا يساوي حوالي 700.000 سبعمائة ألف جنيها وهذا المبلغ لايساوي شيئا بالنسبة لحجم العجز ولذ فإن الحكومة مواجهة بعجز ضخم في ميزان المدفوعات لعام 68/69 دون انتظار ما يسدد هذا العجز وتهبط بها عن المستوى القانوني اللازم وفي الحالتين ندخل في اهتزازات مالية واقتصادية كبيرة.

كثير من الناس يتساءلون عن الانهيار المالي ونحن نقول أن الإنهيار المالي هو أن تضيق مواردك بحيث لا تتمكن من السير قدما في برنامج التنمية ولا تستطيع سداد مصروفاتك الجارية إلا بالاقتراض من النظام المصرفي يتعدى الحدود القانونية التي تضع قيودا على هذا الاقتراض والإنهيار المالي هو أن تواجه بعجز في ميزان المدفوعات ولا حيلة لك بمواجهته إلا بالنزول بأرصدتك من العملة الصعبة إلى ما دون المستوى المطلوب. هذه الظواهر حدث بالفعل في بلادنا وقد تمكن وزير المالية من اخفاء الحقائق بطرق مختلفة ولكن الحقائق ستتضح أكثر وستتعرى تلك البيانات وتزول المساحيق التي وضعت للتمويه وستكون النتيجة الواضحة لكل من له بصر هي أن السياسة المالية الخاطئة قد وضعت السودان في موقف يجبر معه أن يقترض من النظام المصرفي أكثر من ما تبيحه الحدود الموضوعية وسيهبط  بمستوى الأرصدة من العملة الصعبة إلى دون ما تسمح به الحدود الموضوعية. هذا الوضع قد حدث في البلاد فعلا ولكن تجاعيده مستورة ببعض المساحيق وسوف تتبدد تلك المساحيق لتظهر الحقيقة عارية في غضون 1968/69.

 

خاتمة

هذا هو الأداء الاقتصادي لهذه الحكومة وتلك نتائجه، إن الأضرار التي لحقت بالبلاد على أيدي حكامها الحاليين أضرار بعيدة المدى وعميقة الجذور وهي نتيجة حتمية للأخطاء التي ارتكبت في وضع وتنفيذ السياسة الاقتصادية.

إن وزير المالية الحالي رجل رجل يفتقر إلى التأهيل العلمي في المجال الاقتصادي ولذلك فقد كلف البلاد كثيرا نتيجة لجهله وتخبطه في إدارة الشئون المالية والاقتصادية وقادها بسبب الجهل والتخبط والعناد والأنانية لهذا المستوى الخطير الذي يهدد حاضر ومستقبل الاقتصاد السوداني.

إن التحدي الأكبر الذي يجابه هذه الأمة هو التخلف الا قتصادي وضرورة علاجه والتخلص من قبضبته ومن هنا كان يجب أن تجد المسألة الاقتصادية الأسبقية الأولى في اهتمام المسئولين واخضاع الشئون الأخرى لمقتضيات التنمية الاقتصادية.. ولكن الذي حدث على أيدي هذه الحكومة هو أن اخضعت اقتصاد البلاد لمصلحتها السياسية والحزبية الخاصة فأصبحت إمكانيات البلاد الاقتصادية تجند لخدمة أغراض حزبية فالإمكانيات الواجب استثمارها توجه للاستهلاك والاستيراد بدلا من أن يقيد رفقا بالأرصدة وحماية لصناعاتنا الوليدة تفتح أبوبة لاثراء المحاسيب وذوي القربى ومحاربة العطالة تأتي مجافية لكل تفكير وتخطيط علمي سليم وتتضح كمحاولة بشعة لكسب الشعبية السياسية وتأمين المصلحة الحزبية… والاصلاح الزراعي تطمس معالمه وتتغير أهدافه ويجئ وبالا على اقتصاد البلاد ومجتمعها.

الفكر الاقتصادي السليم يتوارى أمام التخبط والجهل وسوء القصد والخاسر هو الأمة السودانية واقتصادها ونموها ومستقبل أجيالها.

إننا إذ نطرح هذه الحقائق للرأي العام السوداني لا نرى في ذلك مدعاة ليأس بل يجب أن يكون تنويرا و توعية تدفع الناس لحماية مصالحهم وتدرأ الخطر عن بلادهم ومستقبلها.

وفي سبيل ذلك سنواصل حملات التوعية في هذا المجال الهام.

وبالله التوفيق