أي دور للدولة في القرن الواحد وعشرين؟ رجوع للدولة أم تجديد لمفهومها؟

بسم الله الرحمن الرحيم

أي دور للدولة في القرن الواحد وعشرين؟

رجوع للدولة أم تجديد لمفهومها؟

 

ورقة مقدمة لمؤتمر الحزب الحاكم في تونس- التجمع الدستوري الوحدوي

 نوفمبر 2005م

 الإمام الصادق المهدي

الموضوع………………………………………………………………………………………………. رقم الصفحة

مقدمة: 1

النقطة الأولى: الدولة والنظام الرأسمالي. 1

النقطة الثانية: دولة الرعاية الاجتماعية في الغرب  الرأسمالي. 2

النقطة الثالثة: بروز العولمة. 2

النقطة الرابعة: الطريق الثالث.. 3

النقطة الخامسة: تقرير البنك الدولي. 3

النقطة السادسة: متطلبات الدولة. 4

فما العمل بشأنها؟. 4

النقطة السابعة: المطلوب في دول الجنوب.. 4

النقطة الثامنة: الفجوة في العالم 5

النقطة التاسعة: شراكة تنموية مستنيرة 6

النقطة العاشرة: عولمة بوجه آدمي. 6

 

 

مقدمة:

الدولة الوطنية المشاهدة اليوم صرح سياسي اهتدت إليه التجربة السياسية الأوربية إنه كيان وسط ما بين الكيان الإمبراطوري الأكبر الذي كان يسيطر على رقعة واسعة من المعمورة باسم الإمبراطورية الرومانية، وعندما تفكك خلفته إمارات أدارت الشأن العام في كيانات صغيرة يتوارثها الأمراء ويقتتلون فيما بينهم لتوسيع رقعة نفوذهم. هذا الاقتتال استمر قرنا من الزمان إلى أن وضع صلح وستفاليا له حدا في عام 1648م واعترف هذا الصلح بدول وطنية أوربية ذات سيادة كاملة على شعوب محددة في أقاليم ذات حدود معلومة.

الدولة الوطنية نفسها حلقة في سلسلة  تطورات من الكيان الإمبراطوري الواسع، إلى  الكيانات الإماراتية  الأصغر، إلى الكيان الوطني الأوسط.

التطور الفكري، والسياسي، والتكنولوجي الإنساني ظواهر صحبت التاريخ الإنساني منذ أن صار للإنسان وعي بتاريخه وصار يدونه. ولكن هذا التطور شهد في القرون الثلاثة الأخيرة زخما متسارعا كجلمود صخر حطه السيل من عل!.

كل أديان الإنسان العالمية نشأت في الشرق، وكان لعدد من هذه الأديان دورا هاما في تكوين الضمير الإنساني، وفي نظرته للعالم وقيمه الأخلاقية. وكان لها أثر كبير في تكوين حضارات الإنسان العالمية. ومنذ عام 700م كان للحضارة الإسلامية الدور الأهم في حياة الجزء المعمور من العالم. واستمر هذا التفوق لألف عام. ولكن  من 1700م تضافرت طائفة من العوامل أدت إلى ركود الحضارة الإسلامية وإلى انتعاش الحضارة الغربية. أهم تلك العوامل:  ثورة سياسية نقلت القرار السياسي من التحكم الفردي المتوارث عليه إلى المشاركة الشعبية الانتخابية في نطاق الدولة الوطنية وثورة اقتصادية هي الثورة الصناعية نقلت الإنتاج من القدرات البشرية المحدودة إلى الطاقة البخارية ثم الكهربائية الهائلة وحدثت ثورة ثقافية حققت تحرير البحث العلمي والتكنولوجي من الوصاية الثيوقراطية.

هذه الثورات مكنت الحضارة الغربية من التفوق والسيطرة على المعمورة. وعندما تراكمت عوامل عدة قوضت الإمبراطوريات الأوربية فإن الكيانات السياسية التي خلفتها حيثما كانت قامت على أساس الدولة الوطنية التي تشكل الآن الوحدات السياسية المعترف بها في ميثاق الأمم المتحدة.

كان للدولة الوطنية لدى تكوينها الأول في التجربة الأوربية وظائف محددة. هذه الوظائف شهدت حركة تطور مستمرة تأثرا بعوامل أيديولوجية واقتصادية، وسياسية وإستراتيجية.

الدولة الوطنية قابلة للتطور في داخل القطر الواحد لاستيعاب عوامل جهوية، وقابلة للتطور في العلاقات بين الدول لاستيعاب مطالب إقليمية أو أممية، وهى قابلة للتطور في مهامها السياسية والاقتصادية. وقد شهدت الدولة الوطنية تطورات في كل تلك المجالات. ولكن الحقيقة الواجب اعتمادها هي أن الدولة الوطنية قد صارت وسوف تظل في الأفق التاريخي المنظور الوحدة المعتمدة في العلاقات العالمية.

فيما يلي من نقاط سوف أوضح التطورات التي شهدتها مهام الدولة الوطنية في التجربة الغربية وفي تجربة الدول الأخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية التي نمطت كياناتها السياسية على أساس الدولة الوطنية:

النقطة الأولى: الدولة والنظام الرأسمالي

الدولة الوطنية التقليدية كيان باشر السيادة الوطنية على شعب معين في أرض محددة واحتكر القوة المسلحة، وحفظ أمن الجماعة الوطنية. كان النشاط الاقتصادي في تلك الدول محكوما بعلاقات الإنتاج الإقطاعية إلى أن هبت الثورة الصناعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر. ثم تمددت في البلدان الغربية الأخرى. الفلسفة  الاقتصادية التي صحبت الثورة الصناعية الاقتصادية كما وصفها آدم سميث في كتابه المرجعي: ” ثروة الأمم” تقوم على مبادرات المستثمرين الفردية.  المستثمرون و هم ينشدون كسبهم الخاص يحققون مصلحة تنموية عامة بفعل “يد خفية”.

آلية الكسب الخاص والسوق الحر تطورت جنبا إلى جنب مع الحرية السياسية التي وفرتها النظم الديمقراطية.

التنمية الرأسمالية أخرجت أوربا من نظام الإقطاع القائم على علاقات اجتماعية راكدة تكرس امتيازات الحسب والنسب ولا تتيح مجالا كبيرا للترقي الاجتماعي وفق القدرات والمواهب؛ قادت التنمية في ظل النظام الرأسمالي طبقة برجوازية يؤهلها لدورها تملكها لرأس المال وقدراتها على تثميره في المجالات المختلفة الزراعية، والصناعية، والتعدينية، والتجارية.

أصحاب رؤوس الأموال توسعوا في تشغيل العمال والموظفين في مصانعهم ومزارعهم ومناجمهم فنشأت طبقة عمالية كبيرة تبيع يدها العاملة في سوق العمل.

المقابلة بين  كسب رأس المال والأيدي العاملة في عمليات الإنتاج الرأسمالي أفرزت صراعا طبقيا  اعتبره كارل ماركس وفردريك انجلز في البيان الشيوعي صراعا مستمرا يؤدي في النهاية للثورة الاشتراكية التي سوف تطيح بالطبقة البرجوازية وتضع مقاليد الأمور في السياسة والاقتصاد في أيدي الطبقة العاملة.

قدر ماركس وانجلز أن الطبقة العاملة سوف تتخلى عن كافة انتماءاتها الدينية والوطنية لصالح الولاء للطبقة وحدها. نعم نشأ في ظل الرأسمالية تمايز طبقي واضح المعالم وولاء طبقي وصراع طبقي ولكن الحرب الأطلسية الأولى (1914-1918) شهدت اصطفاف العمال مع دولهم الوطنية  لا مع طبقتهم.

النقطة الثانية: دولة الرعاية الاجتماعية في الغرب  الرأسمالي

الحرب الأهلية الأطلسية الأولى دمرت كثيرا من  معطيات النظام الرأسمالي وخلقت فيه عوامل اقتصادية ومالية ونقدية أدت في وقتها إلى الكساد العظيم في عام 1930م. ومنذ ذلك الكساد دخل على النظام الرأسمالي  اللبرالي عاملان غيرا طبيعته بصورة كاملة هما:

العامل الأول: العالم الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز هدم فكرة اليد الخفية التي عول عليها آدم سميث في توجيه النظام الاقتصادي نحو الصالح العام. لقد اقترح كينز سياسات كلية تقوم بها الدولة بموجبها استطاع النظام الرأسمالي الخروج من كساده  واسترد  عافيته.

 العامل الثاني: في ظل النظام الرأسمالي نشأت النقابات المهنية والعمالية ووجدت مع تطور الديمقراطية دورا هاما في حماية أجورهم وامتيازاتهم في مجال توزيع العائد المادي بين عوامل الإنتاج. كما استطاعت هذه القوى الاجتماعية المنظمة أن تكتسب لنفسها دورا سياسيا مكنها من  التأثير على السلطة أو الاستيلاء عليها عن طريق فوزهم في الانتخابات الديمقراطية.

كانت فكرة انتخاب حكومة عمالية غريبة في ظل النظام الرأسمالي حتى أن عالما سياسيا مثل هارولد لاسكي البريطاني تنبأ بحدوث ثورة في بريطانيا إذا فاز حزب العمال بانتخابات عام 1946م. ولكن حزب العمال فاز وكون حكومته وقام بإجراء إصلاحات أساسية أهمها إصدار تشريعات للرعاية الاجتماعية في كافة المجالات.

تنظيم العمال النقابي، ودورهم السياسي حقق للعمال مكاسب كبيرة في معركة الأجور والضمانات الاجتماعية كما حقق مكاسب للفقراء في مجانية الخدمات الاجتماعية ودعم أسعار الضروريات. حدثت هذه الإصلاحات في ظل النظام الرأسمالي و دونما ثورة. مما أقام نظاما رأسماليا معدلا و أجهض نبوءات  ماركس وانجلز.

النقطة الثالثة: بروز العولمة

تعاظم دور الدولة الاقتصادي زاد من حجم الإنفاق في الميزانية العامة وهذا بدوره أدى إلى زيادة كبيرة في الضرائب  زيادة أثرت سلبا على الادخار فالاستثمار، وأدى لزيادة غير صحية في اقتراض الدولة من النظام المصرفي مما رفع نسبة التضخم. هذه العوامل أوشكت أن تحدث شللا في آلية السوق الحر فأدى ذلك لانتفاضة لبرالية اقتصادية  بهدف الحد من دور الدولة الاقتصادي، وتحرير الأسعار، والخصخصة. هذه الانتفاضة اقترنت باسم مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في الثمانينات ورولاند ريقان الرئيس الأمريكي المعاصر لها. هذا النهج لم يستطع إلغاء دولة الرعاية الاجتماعية نهائيا ولا نفوذ النقابات العمالية ولا مكاسب الضمانات الاجتماعية ولكنه حد منها وضبطها وأدى لخصخصة كثير من مشروعات القطاع العام، وإلى رفع الدعم عن السلع والخدمات لكي تعمل آلية السوق الحر بحرية.

وبقدر حرية السوق في نطاق الدول الغنية اتسع نشاط الشركات المتعدية للحدود التي تعمل على نطاق السوق العالمي في أكثر من دولة.

زيادة حجم السوق الحر داخل البلدان الغنية وانتشار السوق الحر على نطاق عالمي، استفاد من ثورة الاتصالات وتقنيات المعلومات.. الثورة التي جعلت السوق الحر فعلا سوقا واحدا تتحرك فيه الأسهم، والسندات، والودائع، والصفقات، بسرعة البرق من مكان إلى مكان كسبا للأرباح وتحقيقا للمكاسب.

السوق الحر زائد ثورة الاتصالات هما أساس  ظاهرة العولمة التي خلقت دينامية اقتصادية عالمية غير مقيدة بسياسات هذه الدولة أو تلك.. هكذا استردت العولمة لآلية السوق الحر كثيرا من  دورها الاقتصادي و بالتالي حجمت دور الدول الاقتصادي.

المؤسسات المالية والنقدية الدولية أي مؤسسات برتن ودز – البنك الدولي- وصندوق النقد الدولي، تبنت سياسة السوق الحر هذه واعتبرت مبادئها أبقارا مقدسة على الجميع الامتثال لها. لذلك حاولت هذه المؤسسات فرض مناهج السوق الحر هذه على الدول النامية وجعلتها أساس برامج الإصلاح الاقتصادي فيها وجعلتها شروطا واجبة الإتباع لحصول البلدان المعنية على قروض وتسهيلات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

النقطة الرابعة: الطريق الثالث

كأننا نشهد تأرجح بندول فالتوغل في اتجاه سياسات السوق الحر أوشك أن يؤدي لاستقطاب حاد داخل البلدان الرأسمالية.. استقطاب مع وجود تنظيمات نقابية قوية يمكن أن يطيح  بالسلام الاجتماعي في تلك البلدان. كما اتضح أن وصفات مؤسسات برتن ودز للإصلاح الاقتصادي في البلدان النامية لن يحقق التنمية المنشودة وإنها زادت من الفوارق التنموية بين البلدان الغنية والبلدان النامية.

لذلك انتشر فكر اقتصادي سياسي وسطي سمى نفسه الطريق الثالث أي طريق يقع بين الاقتصاد الحر كما في التجربة الرأسمالية التقليدية والاقتصاد الخاضع لملكية وإدارة الدولة كما في التجربة السوفيتية.

هذا الطريق الثالث وصف بأنه طريق الرأسمالية بوجه آدمي أو السوق الحر الاجتماعي  أي الذي يراعي أهدافا اجتماعية عدالية.

النقطة الخامسة: تقرير البنك الدولي

أصدر البنك الدولي تقريرا عن التنمية العالمية في عام 2005م اعترف فيه بعدم جدوى السياسات التي كان يروج لها لأنها زادت من الفقر في العالم ولأنها وسعت الفجوة التنموية بين الدول الغنية والدول الفقيرة.

هذا التقرير مدرك لأهمية التنمية البشرية لا مجرد النمو الاقتصادي. لقد كان الفكر الاقتصادي اللبرالي مركزا على تراكم رأس المال بأقصى الدرجات وهذا يعني على الأقل في المراحل الأولى خفض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية. ولكن صار الإنفاق على الخدمات الاجتماعية يعتبر استثمارا بشريا مطلوبا في حد ذاته ومطلوبا لتحقيق التنمية والسلام الاجتماعي. أكد التقرير أهمية القضاء على الفقر، والتنمية البشرية، والاستثمار في الخدمات الاجتماعية بل والعدالة الاجتماعية.

هذا التقرير معناه تراجع مؤسسات برتن ودز عن  تجريد الدولة من الدور الاقتصادي والامتثال لآلية السوق الحر وحدها والاتجاه نحو سياسات اقتصادية أقرب إلى معطيات الطريق الثالث.

النقطة السادسة: متطلبات الدولة

ماذا يعني التطور في مفهوم الدولة ودورها في دول الشمال لدول الجنوب ذات الظروف المختلفة؟.

الدولة في تعريفها الشائع هي أرض وشعب يقيم فيها ويبسط السيادة عليها عن طريق سلطات ثلاث تنفيذية، وتشريعية، وقضائية. وفي العصر الحديث لا يرجى لهذه الدولة أن تستقر ما لم توفر الآتي:

  • الأمن.
  • معيشة السكان.
  • قبول السكان للحكام أي الشرعية.
  • قبول الأسرة الدولية للدولة.

هذه الأمور نفسها متحركة وليست جامدة فالأمن لا يقف عند حد كفالة النظام ومنع الشغب وسائر المهام الشرطية بل ينبغي أن يشمل الاستقرار والأمن الاجتماعي والخلاص من الخوف.

والمعيشة للسكان تتعدى توفير الغذاء والماء والكساء والسكن والترحيل لتشمل ضرورات التنمية البشرية من تعليم وصحة وبيئة طبيعية صالحة.

والشرعية صارت متعلقة بالحوكمة “Governance” الراشدة والتي تتوافر فيها المشاركة، المساءلة للحكام،  والشفافية، وسيادة حكم القانون.

النظام الدولي المعاصر يقوم على مجموعة من المواثيق والعهود الدولية وهى ملزمة لكافة الدول فإن خرقتها فإنها تعرض نفسها  لمحاسبات وفق القانون الدولي. وصار لحقوق الإنسان أثر إلزامي ولا يجوز لأحد أن يتستر وراء مفهوم السيادة الوطنية، ويمارس ما شاء من تعديات على حقوق الإنسان. كما لا يجوز لدولة ترتكب جرائم شن الحرب العدوانية، وجرائم الحرب، والجرائم  ضد الإنسانية ، وجرائم الإبادة الجماعية وتحتج بالسيادة الوطنية لكيلا يخضع الجناة للمحاسبة القانونية.. هذه الشروط الواجب توافرها لاستدامة وقبول واستقرار الدولة الوطنية في زماننا هذا لا تتوافر في عدد من الدول.

فما العمل بشأنها؟

الدول التي تعجز عن توافر هذه الشروط سوف تواجه ضغوطا داخلية من شعوبها وضغوطا خارجية من الأسرة الدولية لكي تحدث الإصلاحات المطلوبة.

النقطة السابعة: المطلوب في دول الجنوب

دول الجنوب في الغالب تعاني من تناقض بين عقائدها وثقافاتها التقليدية السائدة وبين مطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي.

برامج التحديث والإصلاح ستكون فوقية وباهتة ما لم تؤسس على إصلاح داخل عقائدها وثقافاتها يجعل الإصلاح المنشود متناغما معها.

هذه المجتمعات بحاجة موضوعية لأمرين قد يكونا متناقضين وعلى قادة الفكر والسياسة أن يوفقوا بينهما: الأمر الأول التأصيل. والأمر الثاني التحديث، القيادة الفكرية والسياسية مسئولة عن توفيق جدلية الأصل والعصر:

  • ‌أ- لابد من تنوير ثقافي أو صحوة ثقافية تخلص المجتمعات المعنية من مفاهيم وممارسات عقائد وثقافات بائدة تتناقض مع حقوق الإنسان، وتتناقض مع حقائق العقل البرهاني ومع حرية البحث العلمي. هذا النهج لاسيما في البلدان الإسلامية يوجب صحوة ثقافية يصحبها إصلاح ديني.

الدين وحي إلهي واجتهاد بشري. والوحي الإلهي لا سيما القطعي الورود والقطعي الدلالة ملزم ولكن الاجتهاد البشري مهما كان جادا ومخلصا فإنه ليس ملزما. لقد لحق الركود بالفهم الديني الإسلامي لأن الجمهور قدس الاجتهاد البشري بقدسية الوحي فحجر التطور وأقام الركود وصار أساسا معرفيا لقفل باب الاجتهاد ومن ثم التضحية بالحاضر والمستقبل من أجل الماضي.

هذه الصحوة الثقافية واردة بل واجبة في كل حالات المجتمعات التقليدية التي يشدها لماضيها ديانة أو ثقافة متحجرة.

إنها صحوة ضرورية لتمكين العقل البرهاني، ولتحرير المعارف، ولحرية البحث العلمي، ولتأسيس الاقتصاد على سياسات كلية تحقق أعلي درجات الإنتاج وأفضل وسائل توزيع عائداته.

  • ‌ب- النظام الاقتصادي في الدولة الحديثة ينبغي أن يوفر الحرية الاستثمارية ليجذب رأس المال الداخلي والخارجي. الدولة النامية ينبغي أن تقوم بالمهام الآتية لكي تدفع بالتنمية نحو غاياتها:
    • توفير البنية التحتية من طرق، ووسائل اتصال، وكهرباء، ومياه، وجسور.
    • إتباع سياسات اقتصاد كلي تؤسس للسوق الحر. فهناك عوامل كثيرة تحول دون حرية السوق مثل وجود نظام إداري عقيم، وغياب نظام مصرفي فعال، واضطراب في سياسات الضرائب، وعدم استقرار العملة…الخ.. السوق الحر في البلدان النامية لا يوجد تلقائيا بل ينبغي أن يؤسس بسياسات وإجراءات قاصدة.
    • ينبغي توفير الضمانات اللازمة للملكية الخاصة ولإلزامية التعاقد، ولحماية أمن المواطنين.
    • المطلوب الالتزام ببرنامج تكافل اجتماعي يحمي القطاعات الاجتماعية الضعيفة، ويحقق درجة من التوازن الجهوى، والاجتماعي، والرعاية الاجتماعية في مجالات التعليم والصحة، هذه ضرورة إنسانية ولكن بصرف النظر عن المبادئ الأخلاقية فإن المجتمع الذي يعجز عن حماية مستضعفيه سوف يعجز كذلك عن حماية أغنيائه من غضبهم.
    • ومثلما على الدولة حماية قطاعاتها المستضعفة فإن عليها أيضاً إتباع سياسات تواكب العولمة وتحمي الاقتصاد الوطني من سلبيات العولمة مثل الهروب المفاجئ للأموال، وغسيل الأموال، والإغراق السلعي، وغيرها من مظاهر سوء استغلال الحرية الاقتصادية.
  • ‌ج- الدولة مطالبة بإقامة الحكم الراشد لكي تحصل على رضا مواطنيها وقبول الأسرة الدولية. والحكم الراشد يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون هذه الشروط للحكم الراشد جزء لا يتجزأ من التنمية البشرية وهي الركيزة الثانية مع الجدوى الاقتصادية في تقويم النظام الاجتماعي.

إذا تخلف هذا الشرط في ظروف عالمنا المعاصر فإنه سيؤدي لتوتر بين الحكام والمواطنين يودي بالاستقرار ويفتح ثغرة للتدخلات الخارجية.

النقطة الثامنة: الفجوة في العالم

الفجوة في الثروة والدخول بين الدول الغنية والدول الفقيرة كبيرة وتتسع باستمرار. هذه الحالة في مناخ الحرية الاقتصادية وآلية السوق سوف تزيد سوءا. ومع تردى أحوال الدول الفقيرة في الفقر، والعطالة، فإن قطاعات كثيرة منها سوف تصدر مشاكلها بصورة ما إلى البلدان الغنية.

المجتمعات الفقيرة يمكن إن تستخدم وسائل احتجاج وضرار نحو الدول والمجتمعات الغنية. تستخدم أسلحة الضرار الشامل وهي:

  • الإرهاب بأنواعه.
  • الهجرة غير القانونية
  • إنتاج وتصدير المخدرات.
  • القنبلة السكانية.
  • القنبلة الصحية.
  • القنبلة البيئية.
  • تسرب أسلحة الدمار الشامل.

ينبغي ألا تترك العلاقة الاقتصادية بين الجزء الفقير من العالم والجزء الغني لآلية السوق الحر وحدها لأن هذا من شأنه تكريس الوجه المتوحش للرأسمالية والذي يفرخ في مواجهته أسلحة الضرار الشامل.

النقطة التاسعة: شراكة تنموية مستنيرة

لقد استطاعت الرأسمالية المستنيرة أن تشتري السلام الاجتماعي داخل بلدانها بوسائل مختلفة كما ذكرنا آنفا. وآخر حلقة من حلقات هذا الانتشال ما ساعدت به ألمانيا الغربية ألمانيا الشرقية بعد الاتحاد فإنها ضخت فيها 4% من دخلها القومي سنويا أي ما يزيد على 80 مليار دولار في السنة. هذا النوع من الجدية في انتشال الأجزاء الفقيرة داخل الدول الغنية ينبغي أن تتعامل به الدول الغنية مع الأجزاء الفقيرة من العالم. جدية في نوع وحجم الدعم مقابل التزام الدول الفقيرة بالإصلاح السياسي الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي.

هذا النوع والحجم من الدعم التنموي لا تستطيع آلية السوق الحر توفيره.

المطلوب توافر إرادة سياسية في البلدان الفقيرة مستعدة لدفع استحقاقات التنمية البشرية وتوافر إرادة سياسية في البلدان الغنية كذلك مستعدة لدفع استحقاقات انتشال الدول الفقيرة.. استحقاقات متبادلة تؤسس شراكة تنموية مستنيرة.

النقطة العاشرة: عولمة بوجه آدمي

هنالك دلائل على أن الدول الغنية أدركت أنها لا يمكن أن تترك علاقاتها بالدول الفقيرة أن تقوم على أساس آلية السوق الحر.

قررت الدول الغنية أن تدعم التنمية في البلدان الفقيرة بما يعادل 0.7% من دخلها القومي. ولكن هذا القرار لم ينفذ ونسبة الدعم للدول الفقيرة تناقصت في العقد الأخير من الزمان.

وفي مرحلة لاحقة لدي بداية الألفية الجديدة في عام 2000م أعلنت الأمم المتحدة أهدافا ثمانية وألزمت نفسها بتحقيقها في العالم هي:

  • القضاء على الفقر المدقع و الجوع.
  • تعميم التعليم الابتدائي للجميع.
  • تحقيق مساواة الجندر وتمكين النساء.
  • خفض نسبة وفيات الأطفال.
  • تحسين صحة الأمهات.
  • احتواء أوبئة الإيدز ، والملاريا وغيرها.
  • حماية البيئة الطبيعية.
  • إقامة شراكة تنموية عالمية.

ومع مرور خمسة أعوام على إعلان هذه الأهداف فإنها مازالت تراوح مكانها.

من آثار الهجمات على نيويورك وواشنطن في 11سبتمبر 2001م تبنت الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي قفزت فوق عدد من الحلقات حتى انتهت إلى قمة الرباط في عام 2004م وإعلان قيام الشراكة من أجل المستقبل في العالم العربي.

هذه الشراكة عقدت بين الدول الثمانية الغنية والدول العربية.

وفي عام 2005م تبني رئيس الوزراء البريطاني أجنده أفريقيا وأثمر ذلك تقرير اللجنة المعنية وتوصياتها الإيجابية لدعم التنمية في أفريقيا.

وقررت الأمم المتحدة ضمن برامجها الإصلاحية تكوين صندوق لدعم التحول الديمقراطي في العالم وعدلت المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مناهجها القديمة لصالح سياسات تنموية أكثر فاعلية.

والمنظمة العالمية للتجارة العالمية قررت في دورة مراكش ثم في الدوحة تضمين مصالح الدول الفقيرة في التزاماتها ولوائحها، ولكن في كل هذه المجالات فإن الأماني فاقت الأعمال والنتيجة جعجعة أكبر وطحن قليل !!

مازال الدين الخارجي يكبل كثيراً من الدول الفقيرة، ومازالت الدول الغنية تدعم الزراعة الداخلية بصورة تضر بمصالح المنتج الزراعي في البلدان الفقيرة ومازالت مؤسسات برتن وودز غير ملتزمة بأهداف الألفية الجديدة، ومازالت نسبة الدعم التنموي للدول الفقيرة دون نسبة 0.7% من دخل الدول الغنية القومي.

نتيجة هذه الدارسة هي:

  1. إن للدول الوطنية في القرن الواحد وعشرين مهاماً سياسية تتجاوز مجرد حفظ الأمن والنظام لكي تحقق الحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون، فإن تعامت عن ذلك فإنها تفقد شرعيتها في نظر مواطنيها وفي نظر الأسرة الدولية.
  2. إن للدولة الوطنية مهاما اقتصادية توجب تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.

إن مهامها تتطلب دورا وسطا بين التخلي التام عن أي دور اقتصادي كما يوجب ذلك الفكر الاقتصادي اللبرالي، وبين التحكم التام في الاقتصاد الوطني كما يوجب ذلك النمط السوفيتي الذي اقترن باسم جوزيف ستالين.

  1. مهما حرصت الدول النامية على تحقيق التنمية البشرية فإنها تتأثر سلبا وإيجابا بمناخ العولمة.

المطلوب بإلحاح هو كبح جماع العولمة بصورة تسمح بقيام شراكة حقيقية ما بين العالم الغني والعالم الفقير من أجل التنمية. المطلوب هو عولمة بوجه آدمي. هذا هو طريق العالم لنظام عالم أعدل وأفضل لكيلا يتخطف العالم السجال بين الهيمنة وترسانتها من أسلحة الدمار الشامل،والمقاومة لها بأسلحة الضرار الشامل. السجال الذي سوف يدخل العالم في نظام ظلامي جديد ما لم  يحول دونه تحالف الراشدين في العالم الغني والعالم الفقير. التحالف المنقذ للإنسانية.

2005/10/31