الدين والوحدة الوطنية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدين والوحدة الوطنية

محاضرة قدمها السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق في السودان في المعهد النيجيري للشئون الدولية بلاغوس- نيجيريا يوم الخميس 28 يونيو 2001م

( برئاسة الجنرال المتقاعد يعقوب قاوون رئيس جمهورية نيجيريا الاتحادية السابق).

 

الأخ الرئيس

الاخوة والأخوات مع حفظ الألقاب. الشكر للمعهد النيجيري للشئون الدولية على دعوته لي لمخاطبتكم.

سألقي محاضرتين الأولى التي سألقيها على مسامعكم الآن بعنوان: الدين والوحدة الوطنية. والثانية سألقيها في كادونا بعنوان: الدروس المستفادة من التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية.

وقبل البدء في هذه المحاضرة أشكر الأخ يعقوب قاوون والسيدة البروفيسور مديرة هذا المعهد على الثناء العاطر الذي أمطراني به آملا أن تأتي محاضرتي على قدر التوقعات.

وفي هذه المناسبة أزف التهنئة للشعب النيجيري لتحقيقه إنجازين:

الإنجاز الأول: استعادته للوحدة وتحقيق المصالحة من بعد. تلك العملية التي يرمز لها شخصك أخي الرئيس.

الإنجاز الثاني: استعادة الديمقراطية والتي يرمز لها الأخ الرئيس اوباسانجو.

الأطروحة الأساسية لهذه المحاضرة هي أن الدين قوة سياسية صاعدة في المجتمعات النامية وحتى المتقدمة.

تعتبر الدولة القومية قادما جديدا -نسبيا- على المسرح السياسي الأفريقي. وتتأثر ظاهرة الوحدة الوطنية سلبا وإيجابا بالدين الذين يمكن أن يساعد عليها أو يعوقها وفقا للطريقة التي يتم بها التعاطي مع قضية النفوذ الديني.

تشترك مجتمعاتنا الأفريقية اليوم فيما سماه بروفيسور على مزروعي الإرث الثلاثي: الثقافات الأفريقية التقليدية -الإسلام- الحضارة الغربية متضمنة المسيحية.

تعتبر الدولة القومية ونظام الحكم الديمقراطي تجربتين مكتسبتين جديدتين نسبيا، وتأخذان وضعا قلقا في مجتمعات منقسمة لم تعرف الاتحاد كأمة واحدة لمدى طويل من الزمن، وتنظر تلك المجتمعات للدين والقبيلة والاثنية وعوامل الولاء الأخرى كروابط للهوية المشتركة.

في أفريقيا وآسيا ظل الإسلام لوقت طويل مصدرا للهوية وأساسا للنشاط السياسي. وفي أجزاء من أفريقيا أصبحت المسيحية مصدرا جديدا للهوية وأساسا للنشاط السياسي. وفي كل من جنوب نيجيريا وجنوب السودان -على سبيل المثال- أصبح الولاء المسيحي جزءا من الانقسام الشمالي- الجنوبي ومكونا من مكونات الحرب الأهلية التي ضربت القطرين.

لقد شحذت الهيمنة الثقافية الشمالية في السودان المقاومة الجنوبية. وساعد التأكيد المتعاظم على الشعار الإسلامي الذي صاحب انقلاب يونيو 1989م في تعميق وتوسيع الحرب الأهلية وحول المقاومة الجنوبية إلى مقاومة راديكالية تنادي بتقرير المصير.

وفي نيجيريا كان الانقلاب الأول في يناير 1966م في جزء منه رد فعل على الهيمنة السياسية الشمالية المحسوسة. بينما كان الانقلاب الثاني المضاد في يوليو 1966 رد فعل شمالي على الانقلاب الأول ونتائجه. ثم توالت الأحداث المأساوية مع المذابح في الشمال والشرق ضد الأقليات الأثنية .

وعبر سلسلة من الأفعال وردود الأفعال اتجه الشرق إلى خيار بيافرا وغرق القطر في حرب أهلية شاملة.

لقد مثلت استعادة الوحدة الوطنية النيجيرية بعد الحرب الأهلية التسوية الأكثر خرقا للمألوف من بين التسويات التي تعقب الحرب الأهلية في التاريخ  الحديث- سينثيا سامبسون) . وبعد ذلك مرت نيجيريا بتجربة سياسية مضطربة حتى تمت الاستعادة التاريخية للديمقراطية عبر الانتخابات العامة الحرة في 1999م.

هناك تنامي للأصولية الدينية عم كل العالم، ففي عام 1988م أصدرت الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم دراسة استغرقت 4 سنوات حول ظاهرة الصحوة الأصولية الدينية في البوذية- الهندوسية- اليهودية- المسيحية- الإسلام. خلصت تلك الدراسة إلى أن كل تلك الأديان تشهد بعثا أصوليا.

ففي الهند استمر الحزب الهندوسي ( جاناتا بهارتيا) في الصعود حتى أصبح الحزب الهندي الأكبر في انتخابات السنة الماضية .

وأصبحت الأصولية اليهودية بادية للعيان وتمكنت من المشاركة في السلطة في إسرائيل.  ولعبت الأصولية المسيحية دورا كبيرا في تفكيك الماركسية- اللينينية في أوربا الشرقية. وفي أمريكا اللاتينية يتجلى النفوذ السياسي المسيحي في تعبيرات تقليدية وكذلك في لاهوت التحرير. وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر البلاد علمانية سياسية فقد عكس انتخاب الرئيس ج. و. بوش نفوذ وقوة تأثير الصوت المسيحي .

أما بالنسبة  للإسلام فيشهد موجه من الالتزام الإسلامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا. ويمثل الإصرار على تطبيق التشريعات الإسلامية في الولايات النيجيرية في جزء منه انعكاسا لهذه الموجه العالمية بنكهة نيجيرية .

يشعر بعض المسلمين النيجيريين بالتهميش السياسي لأنهم أحسوا بأنهم فقدوا وضعهم السياسي المميز والذي عززوه ليعوض عن مستوياتهم التعليمية والتنموية المتدنية وقلة تمثيلهم في الخدمة المدنية والرتب العليا في الجيش . هذه الموجه من الالتزام الإسلامي أثارت المخاوف على الوحدة الوطنية النيجيرية.

لذلك كان من المنطقي أن يثار سؤال الدين والوحدة الوطنية للسودان ونيجيريا وغيرهما.

للأصولية العلمانية وصفة في متناول يدها تقدمها لعلاج الآثار السالبة المحتملة للدين على الوحدة الوطنية وهي إبعاد الدين عن السياسة والحياة العامة. وبما أن هذه الوصفة عديمة الجدوى تحتم البحث عن نموذج بديل يعترف بالواقع ويشرك الدين في عملية الوحدة الوطنية والتماسك القومي.

النقاط الخمس التالية توضح كيف يمكن أن يتم ذلك :

النقطة الأولى :

بعد صراع طويل في الغرب خرجت العلمانية والمادية منتصرتين. وفي الحقيقة فقد أبطلت الثورة الفرنسية الدين. أما الثورة الشيوعية في روسيا فقد نصبت نفسها طليعة حامية للمستقبل وافترضت انقراض الرأسمالية والدين.

وقد نسبت صرامة العلم الحديث وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية إلى أفول الدين وانطفاء بريقه . وبدلا من أن تتحقق هذه الافتراضات- بانقراض الدين- فنيت تلك الأيديولوجيات العلمانية المجلجلة وسقطت سقوطا مجلجلا وشهدت على نفسها قبل نهاية القرن العشرين بأنها كانت كاذبة .

لقد صار للأديان والحضارات والثقافات أهمية بارزة وأصبح المفكرون يتوقعون صراع الحضارات القادم. ذكرت مفوضية الجنوب ( 1989م) بأن إهمال برامج التنمية للجوانب الثقافية قد أعاق نجاحها. وأصدرت المفوضية العالمية للثقافة والتنمية تقريرا ( 1995م ) بعنوان : (التنوع البشري الخلاق) جاء فيه بأن برامج التنمية التي لم تأخذ الثقافة في حسبانها قد فشلت.

إن تحدي التحديث لم يمسح الأديان والثقافات والولاءات الأثنية بل وفي كثير من الحالات حفزها للتعبير عن نفسها بقوة أكبر .

 

النقطة الثانية :

في كثير من الحالات كان إثبات الذات رجعيا. وفي بعض الحالات كان رجعيا عسكريا. لقد قاد موقف الكنسية الرجعي الرافض للتغيير في الغرب إلى انتصار العلمانية والمادية في أثناء وبعد عصر التنوير. وفي العالم الإسلامي وبالرغم من عدم وجود مؤسسة كالكنيسة فإن الاتجاه الغالب بين العلماء هو اعتبار أن وحي الله موجود في القرآن والسنة النبوية الصحيحة وأن السلف من العلماء عبر الشرح والاستنباط والاستدلال قد أسسوا بنيان الشريعة التي تمثل إرادة الله لكل أجيال البشرية القادمة. ونتيجة لذلك رسف العالم الإسلامي في قيود الاستبداد السياسي الذي تعايش معه العلماء حينما فشلوا في إبطاله.وقاد الركود الفكري إلى الحالة التي وصفها المفكر الإسلامي ملك بن نبي بالقابلية للاستعمار.

وقد دعمت بعض العوامل الاعتقادية في المجتمع الإسلامي ذلك التضييق المعرفي ، تلك العوامل هي :-

  • المعنى المباشر للإسلام هو الامتثال لإرادة الله وقد فهم الكثيرون أن هذا يعني إلغاء أي دور للإنسان . ولكن يجب أخذ الحقائق التالية في الاعتبار:-
  • ¨ قوانين الطبيعة من إرادة الله ومعرفتها وتسخيرها من إرادة الله قال تعالى (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) طه 50.
  • ¨ العقل البشري من إرادة الله قال تعالى ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) الرعد 4.
  • ¨ حرية اختيار الإنسان من إرادة الله قال تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) الكهف 9.
  • ¨ حقائق المعرفة التجريبية من إرادة الله قال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم وأفلا تبصرون ) الذاريات 21.

وفي هذا السياق فقد كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سائرا مع بعض الصحابة إلى دمشق وعلموا في الطريق أن الطاعون قد ضربها فهم بالرجوع فاعترض أحد الصحابة قائلا : ( أفرارا من قدر الله يا عمر؟ ) فرد عمر ( نفر من قدر الله إلى قدر الله ).  وسئل النبي ( ص ) : أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقيها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا. قال هي من قدر الله .

الفهم الضيق للقرآن غذاه التفسير الخاطئ للآية ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) إذ فهموا منها أن القرآن موسوعة. السياق في هذه الآية يوضح أن المقصود بالكتاب اللوح المحفوظ.

هذه الاتجاهات أورثت فهما للإسلام أعاق الاستجابة الواعية الإيجابية لتحدي التغيير.

النقطة الثالثة :

وكما قاد نهج الكنيسة الرجعي إلى أنماط من الاحتجاج نتج عنها العلمانية والمادية وكل المذاهب الإنسانية في الغرب، قاد هذا النهج إلى ظاهرة مزدوجة في المجتمع الإسلامي: كراهية الذات والتزلف إلى الغرب.

قال ” ضياء قولب ” التركي في العشرينات : (( أن الحضارة الغربية هي المستقبل وحضارتنا لا تسوى شيئا )). وقال سلامة موسى المصري: (( أنا مؤمن بالغرب كافر بالشرق )). هذا النهج فهم الحداثة على أنها التغريب فقاد إلى التغريب الثقافي.

هذا التغريب عززته النظرة الذاتية للغرب حول حضارته وتفوقها ونقائها الذاتي، إذ غالبا ما ينظر الغرب للحضارة الإنسانية على أنها حضارة غربية . هذا السلوك شجع رد فعل سلبي في جانب الحضارات والثقافات الأخرى. ولإدراك الموقف الإيجابي فإن على الغرب أن يتبنى ثلاثة تصحيحات:

  • ¨ الاعتراف بأن حضارته مدينة للآخرين وهي النقطة التي ذكرها مارتن بيرنال في كتابة ( أثينا السوداء ) ومونتجمري واط في كتابه (( أثر الحضارة الإسلامية على أوروبا القرون الوسطى )).
  • ¨ الاعتراف بأن للثقافات الأخرى عطاءا قيما يمكن أن نقدمه.
  • ¨ في حالة استصحاب الثقافات الأخرى لمنجزات الحضارة الغربية يجب أن يقبل الغرب بأن يتم ذلك طوعيا وعلى أسس مقبولة لأصحاب تلك الثقافات.

 

النقطة الرابعة :

بعد فترة من الصراع استجابت الكنائس المسيحية بطرق مختلفة لتحدي الحداثة. وقد مكنت سلطة الكنيسة من عمل تلك الإجراءات. الإسلام لا يعترف بأية سلطة دينية ولكن الاعتقاد الإسلامي الأصيل بالا وحي بعد النبي محمد ( ص ) برر اللجوء للاجتهاد البشري عبر معايير محددة لشرح الوحي .

هناك ستة مجالات هامة يمكن أن تكون استجابة إسلامية واعية للتغيير :

  1. مفهوم الإسلام:

قال تعالي : ( إن الدين عند الله الإسلام ) آلـ عمران 19 . حصر كثير من المفسرين هذه الآية على الرسالة المحمدية منكرين القيمة الدينية للأديان الأخرى . ولكن القرآن يصف بوضوح أتباع الأنبياء الآخرين بالمسلمين أي الذي يسلمون إرادتهم لله . وهناك عدد من آيات القرآن تؤكد أن نبي الإسلام (ص ) لم يأت بدين جديد، على سبيل المثال ( قل ما كنت بدعا من الرسل) الأحقاف 9. و( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) الروم 30. و ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) الشورى 13. إن الإسلام بقبل التعدد الديني كحق وليس اضطرارا.

  1. المعرفة :

الإسلام يقر كل وسائل المعرفة. فمن ناحية معرفية الإسلام دين شامل يقر وسائل المعرفة الأربع : الوحي ، الإلهام ، العقل ، التجربة .

  1. الأخلاق :

وفي مجال القيم يتمتع الإسلام بالشمول إذ يقر أسس الأخلاق الثلاثة وهي :

  • ¨ المماثلة : أي أن تفعل للآخرين ما تحب أن يفعله لك الآخرون,
  • ¨ المعروف: وهو القيم الأخلاقية المشتركة التي تعارف عليها الناس حمدا وإنكارا.
  • ¨ الإيثار : أداء الواجب على حساب المنفعة الذاتية .
  1. الجهاد:

فسر الجهاد بأنه حرب مقدسة ووسع فهمه ليعني الحرب لنشر الدين .

الجهاد هو بذل الوسع وبكل الوسائل امتثالا لله . وهو لا يشمل القتال إلا في حالة الدفاع عن النفس . إن الآية المبيحة للقتال تقول: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) الحج 39.

لقد ناقشت كل آيات الجهاد في كتابي ( العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي) وأوضحت طبيعتها الدفاعية.

  1. الدولة في الإسلام:

هناك مبادئ سياسية عامة في الإسلام مثل العدل- الشورى- الحرية- المساواة وغيرها. ولكن ليس هناك شكل محدد للدولة ملزما. صحيح أن هناك تصورا سنيا وشيعيا للدولة ولكنه تصور بشري ينبغي الاستفادة منه وليس الطاعة والالتزام به .

  1. الاقتصاد الإسلامي:

المشكلة الاقتصادية واحدة في كل العالم فهي تتعلق بندرة السلع والخدمات واتساع حاجة الناس لهما. والإنتاج وهو الوسيلة التي تزود بتلك السلع والخدمات يواجه مشكلتين: اختيار الاستخدامات البديلة للموارد المتاحة وتوزيع عائد الإنتاج بين وسائل الإنتاج وهي : رأس المال- الأيدي العاملة- المواد الخام.

تختلف المذاهب الاقتصادية حول اختيار الاستخدامات البديلة وحول توزيع العوائد.

أما بالنسبة للإسلام فليس هناك اقتصاد إسلامي ولكن هناك مبادئ إسلامية ذات محتوى اقتصادي وهي : التنمية- الملكية الفردية والعدالة الاجتماعية وهناك أحكام محددة مثل تحريم الربا وتنظيم الزكاة .

لقد أوضحت في مكان آخر أن هذه الأحكام لا يمكن تطبيقها ببساطة على نفس الأسس السالفة ولكن يجب تعديلها لتتلاءم مع تغير الظروف وإلا هزم تطبيقها أهدافها. وفي الحقيقة فإن أي حديث عن الالتزام الإسلامي لا يأخذ في اعتباره الإصلاحات الضرورية في المجالات الستة المذكورة سيأتي بنتائج عكسية .

 

النقطة الخامسة:

الحضارة الغربية الحديثة مكونة من ثلاثة عناصر هي:

العنصر الأول: عنصر غربي أوربي يشكل مع مكوناته الثقافية والدينية عنصرا ذاتيا خاصا بالثقافة الأوروبية .

العنصر الثاني: هو أيضا عنصر خاص بالتجربة الأوربية وهو نتيجة لعصر التنوير حينما قاد رد الفعل ضد إنكار حرية البحث العلمي إلى تمجيد العلوم إلى الحد الذي مكنها من الحكم على أوجه الحياة التي تقع خارج نطاق العلم لأنها خارج إدراك الحواس . هذه النظرة المادية العلمانية للعالم يمكن فقط تفسيرها في إطار الصراع بين الكنيسة والعلم ولا يوجد مبرر علمي لها. إنها أيديولوجيا أوروبا بعد عصر التنوير.

العنصر الثالث: العنصر الثالث في الحضارة الغربية الحديثة ثمرة عالمية من ثمار التجربة الإنسانية ، طورته أوروبا ولكنه يمثل تراكما لمنجزات الإنسان ويتمثل في : حرية البحث العلمي- حقوق الإنسان العالمية والحريات الأساسية- اقتصاد السوق الحر . هذا الجانب من الحضارة الحديثة جاء ليبقى ويتم تبنيه من قبل الثقافات والحضارات الأخرى حسب ظروفها المحلية .

إن على الدين ألا يتعامل مع قضية الوحدة الوطنية كقضية معزولة ولكن هناك سبعة مجالات متعلقة بالحضارة الحديثة يبغي أن تستصحبها وتقرها الأديان والثقافات استجابة لنداء العصر وتحدياته. تلك المجالات هي :-

  • الحداثة.
  • حقوق الإنسان العالمية .
  • التعايش بين الأديان.
  • التعايش بين الحضارات والثقافات.
  • العلاقات الدولية القائمة على السلام والتعاون .
  • حماية البيئة .
  • العولمة.

 

أ ) الحداثة : –

بالحداثة أقصد ثلاثة أشياء:

  • ¨ نظام سياسي يقوم على حكم نيابي منتخب ويكون ملائما للبيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة به ويقوم على أساس التداول السلمي للسلطة بين المتنافسين وإخضاع القوات المسلحة للقيادة المدنية المنتخبة.
  • ¨ حماية حرية البحث العلمي والتكنولوجي.
  • ¨ اقتصاد فعال يقوم على آلية السوق الحر.

 

ب) حقوق الإنسان العالمية:-

تحقيق وحماية حقوق الإنسان كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

 

ج) التعايش السلمي بين الأديان:-

هذا يعني القبول المتبادل بالتعددية الدينية وكفالة الحرية الدينية والتعايش الديني والتعاون والتنافس السلمي بين الأديان والمعتقدات.

 

د ) التعايش بين الحضارات : –

أحصى الدارسون ثمان حضارات حية وعشرة آلاف ثقافة مميزة .

هناك ثلاثة خيارات ممكنة فيما يتعلق بالعلاقة بين الحضارات والأديان: –

  • ¨ أن تهيمن على العالم حضارة واحدة ودين واحد.
  • ¨ أن تطرد الولاءات الثقافية والدينية لتحل محلها قيم عالمية مقبولة للجميع.
  • ¨ أن يعترف الجميع بتنوع الثقافات والحضارات والأديان وبحقها في الاستمرار كجزء لا يتجزأ من الحالة الإنسانية على أن تقبل الحضارات والثقافات والأديان التعايش والتسامح والقبول المتبادل .

التجربة الإنسانية عبر التاريخ أثبتت دون جدال حقيقتين: –

الحقيقة الأولى : أن أية محاولة لطرد الهوية الثقافية والدينية بالقوة محكوم عليها بالفشل وستؤدي حتما لترسيخ الولاء لها في قلوب وعقول أتباعها .

الحقيقة الثانية : أية محاولة لتحنيط الحياة بإخضاعها لقيم حضارة معينة ولالزام ديني معين دون الأخذ في الاعتبار التطور والتواصل الثقافي ستفشل وستؤدي ببساطة لعزلة أصحابها .

 

هـ) العلاقات الدولية القائمة على السلام والتعاون:

العلاقات الدولية اليوم تفترض وجود وحدات هي الدول الوطنية ذات السيادة. الدولة الوطنية شكل سياسي اتخذته أوروبا بعد زوال الإمبراطوريات الكبيرة والمقاطعات الإقطاعية الأصغر .

والدولة الوطنية كأساس للدفاع المشترك والتنمية المشتركة أدت وظيفتها بنجاح . ولكن حتى في منبتها تمر الدولة الوطنية الآن بالعديد من التجديدات :-

  • ¨ تفويض الصلاحيات للأقاليم خلق وحدات إقليمية قوية.
  • ¨ نشاط المنظمات غير الحكومية أدى تقريبا لخصخصة الشأن العام الذي كانت تتولاه الدولة.
  • ¨ المؤسسات الاقتصادية متعددة الجنسيات التي تغو لت على القرار الاقتصادي.
  • ¨ الاتحادات العامة فوق- القومية( الإقليمية والدولية) .

لذلك فإن الموقف الجامد حيال نظام الدولة القومية ليس جائزا . ومع ذلك فإن الدولة القومية في أفريقيا تبقى أفضل بديل للبلقنة الأثنية والقبلية والطائفية .

طالما ظلت الدولة القومية تحفظ المصالح العامة وتخدم الأهداف الوطنية وطالما ظلت نظاما فعالا للأمن وكفالة سبل المعيشة والتنمية فينبغي أن تستمر وتبقى أساسا للنظام السياسي بينما تسمح في نفس الوقت بقدر من الاستقلال الإقليمي والثقافي والنشاط غير الحكومي والنشاط فوق- القومي ( الإقليمي والدولي) لخدمة المصالح العامة .

وهنا يبرز سؤال التوافق بين الدستور القومي مع تطلعات المشرعين على المستوى الإقليمي لسن تشريعات تتماشى مع دينهم وثقافتهم على سبيل المثال: الالتزام بقواعد ومبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية . وهذا يثير السؤال العالمي:

  • ¨ حول المدى المقبول للاختلاف القانوني.
  • ¨ حول مدى الذاتية الثقافية والاستقلال الثقافي الذي يتوافق مع الوحدة الوطنية .

وهنا أؤكد مشروعية هذا التساؤل وسأجيب عليه بتفصيل في محاضرتي الثانية بكادونا. ومع ذلك فللحفاظ على الدولة الوطنية فمن الضروري ضمان المبادئ التالية:-

  • ¨ المواطنة أساس الحقوق الواجبات الدستورية.
  • ¨ ضمان المساواة في المواطنة.
  • ¨ ضمان الحرية الدينية والثقافية لكل الأقاليم والمجتمعات والجماعات على شرط الالتزام بثلاثة شروط: –
  1. لا تسعى أية مجموعة دينية أو ثقافية لتحقيق مكاسب سياسية بسبب انتمائها.
  2. تسعى جميع المجموعات الدينية والثقافية لتحقيق برامجها بوسائل ديمقراطية.
  3. التنظيمات السياسية التي تسعى للوصول للسلطة يجب أن تكون مفتوحة لكل المواطنين من غير تمييز.

هل يمكن قبول هذه القائمة من دون أن تتعارض مع الالتزام الإسلامي الصحيح؟

وفقا لممارسات الماضي ومواقفه الجامدة الإجابة لا ! ولكن الفكر الإسلامي الحديث على لسان العديد من مفكريه يقول نعم وإليكم الحجج التالية:-

  • ¨ هامش الالتزام الإسلامي واسع وليس جامدا. ففي مكة التزم النبي ( ص ) نهجا هادئا فحواه : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) النساء 77.

وفي المدينة كان الأمر مختلفا إذ أصبحت القاعدة : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الحج 39. ولاحقا أصبح المجتمع الإسلامي أكثر التزاما .

وهناك هامش واسع من السماح للمسلم في ظروف معينة بالتظاهر بترك الإسلام إلى حالات يطلب منه التأكيد والالتزام الصارم بالإسلام.

وهناك هامش واسع بين الأمر بتقوى الله حسب الاستطاعة إلى الأمر بالطاعة المطلقة.

إن الموقف الصحيح في هذا الهامش العريض هو الذي تتحقق فيه مصلحة الإسلام والمسلمين في الزمان والمكان المحددين.

  • ¨ صحيفة المدينة التي وصفها النبي ( ص ) عندما استقر بالمدينة تشبه الدولة المدينية والتي يتساوي فيها المواطنون في الواجبات.
  • ¨ أنزل الله الوحي في القرآن ولكن مع ذلك هنالك ملكات معينة يتوقع من المسلم أن يستغلها لتحقيق مصالحه ومصالح المجتمع هي : الحكمة والميزان والقسط.قال تعالى ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) الحديد 25.
  • ¨ اليوم هناك مجتمعات إسلامية قليلة للغاية تعيش في بلدان كل سكانها من المسلمين. وثلث المسلمين يعيش كأقليات في مجتمعات غير مسلمة والبقية تعيش كأغلبيات إسلامية تساكنها أعداد مقدرة من غير المسلمين. وفي الظروف الراهنة لا يمكن تسوية العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين بقوة السلاح
  • ¨ المجتمع الدولي اليوم يشترط الالتزام بحقوق الإنسان ، وهذا أفاد المسلمين وساهم ضمن عوامل أخرى في جعل الإسلام أسرع الأديان انتشارا في العالم.

العلاقات الداخلية بين المواطنين بمختلف ولاءاتهم يجب أن تقوم على اتفاق تعاقدي يضمن في الدستور ولا بديل لذلك. ولا بد للعلاقات بين الدول من أن تقوم على السلام والتعاون.

يمكن للدين من داخل نصوصه أن يدعم هذه الحجج ويزودها ببعد أخلاقي وروحي.

 

و) حماية البيئة :

الأرض هي الموروث المشترك للإنسانية . وقد أنهكت تعديات الإنسان بيئتها الطبيعية وعرضتها للمخاطر . ومنذ مؤتمر ” ريودي جانيرو ” الدولي عام 1990م حول البيئة تم تحديد سياسة دولية عامة. والآن هناك إتفاق ” كيوتو” الذي يقدم حلا دوليا لإنقاذ الأرض.

 

.ز) العولمة: –

  • ¨ العولمة مرحلة حتمية من مراحل التطور الاقتصادي والتجاري، جاءت نتيجة لانتشار وشمول حرية السوق وثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
  • ¨ ولكن العولمة تتم في عالم فيه توزيع غير عادل للقوة العسكرية والاقتصادية. هذا الاختلال يجعل تلك العوامل تصب في مصلحة الأقوياء.
  • ¨ كذلك تصحب العولمة ظاهرة سرعة وفجائية حركة الأموال وسرعة القرارات الاستثمارية مما يجعلها بالغة الخطورة على الاقتصاديات الصغيرة والضعيفة.
  • ¨ هيمنة وسائط الإعلام الأمريكية على العالم ربطت العولمة بتهميش الثقافات الأخرى لأن العولمة لا تعرف إلا اعتبار التنافس . وهذا يمكن أن يزعزع السلام الاجتماعي الذي تحقق في العالم المتقدم من خلال دولة الرفاهية. من الواجب على الدول الأفريقية إعداد نفسها للاستفادة من الفرص التي تخلقها العولمة والحماية من مخاطرها . ونحن نعد أنفسنا لهذا الموقف نحتاج لمراجعة نقدية موضوعية لنتعرف على آثار الحداثة إلى الآن ، فقد أدت إلى تفاوت غير صحي:
  • إذ تورطت في زيادة الأموال وليس خلق الوفرة .
  • ونمو المدن ولكن من غير نمو في التصنيع .
  • وانتشار النكهة والمزاج الغربي ولكن من دون انتشار وسائل الإنتاج الضرورية لإشباع ذلك .
  • وأورثت خللا في توزيع المنافع.

أخيرا : الدين ضرورة حياتية- نفسية-اجتماعية- ثقافية0 إنسانية.

التغير الاجتماعي والفكري مكون أساسي في الحالة الإنسانية.

الوحدة الوطنية أحد أشكال التحول والتغير التي يتطلبها تطور النظام السياسي والتدابير الدينية الرجعية تمثل سببا مولدا للنزاع حتى داخل المجتمعات الدينية نفسها بين المذاهب المختلفة ومدخلا للاستقطاب والنزاع الدولي.

إن ملاحظة هذه المخاطر ومحاولة التخلص منها بإقصاء الدين عن الحياة العامة مثل ما تم في كثير من البلاد خطأ في حد ذاته وسيأتي بنتائج عكسية . إنها تشبه موقف من ألقى بالمولود مع المشيمة!

إن الطريق المجدي الوحيد هو الاعتراف بأهمية الدين وكيف يمكن اللجوء إليه لتبرير الأجندة الرجعية. وبالمقابل كيف يمكن أن يقود لقراءة مستنيرة لحقائق الوحي بواسطة القادة الدينين المخلصين والذين يقدمون مساهمة أخلاقية وروحية وفكرية وثقافية وسياسية للسلام، ويساهموا كذلك في التنمية والتجانس في مجتمعاتهم الوطنية.

إن التحدي الذي يواجه مجتمعاتنا يكمن في الاعتراف بأهمية الدين في حد ذاته لنيل رضا الله وتوفيقه وكذلك لتسخير الطاقات الدينية الضخمة لمصلحة بناء الأمة والتنمية الوطنية .