السياسة والوراثة

 بسم الله الرحمن الرحيم

السياسة والوراثة

26 فبراير 2005م

 

بعد خطبة ألقيتها في مناسبة عامة في عام 1986م اقترب مني العميد الراحل يوسف بدري وقال لي: مالي أجد في كثير من خطبك نبرة اعتذارية عن أمر ما؟ قلت له: صدقت. أنا أشعر بأن ما ورثت من حقوق مادية ومعنوية غير مستحقة بمجرد صدفة الوراثة! لذلك أجدني مهموما بأمرين الأول اعتذار والثاني بذل جهد خارق لأجعل ذلك الإرث مستحقا. أي أن أكتسب إرثي. كنت ولا زلت كثير التأمل في مسألة الوراثة.

التوارث في كل شيء ظاهرة في طبع المجتمعات الإنسانية أيدتها الشرائع المنزلة كما جاء في القرآن: ” فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا “[1] . ولكن الإسلام جاء بأحكام أقرت التوارث في الشأن الخاص وأبطلته في الشأن العام ليقوم على الشورى. لذلك لم تحدد النصوص خلافة النبي “ص” بعد وفاته فافترق المسلمون على ثلاث: الأنصار وقد هموا ببيعة سعد بن عبادة (رض)، والمهاجرون وقد رأوا بيعة أبي بكر (رض)، وبنو هاشم وقد هموا ببيعة علي بن أبي طالب (رض) ولم تكن هناك آلية للترجيح، وحسم الأمر لصالح أبي بكر بحكم الأمر الواقع الذي باشره عمر بن الخطاب (رض) وسمى ما فعله فلتة وقى الله شرها.

وصار أمر الخلافة هذا فيما بعد سبب مضرة كبرى للمسلمين:

  • كان سبب الفتنة الكبرى التي أدت إلى اقتتال الصحابة.
  • وكان السبب الأهم لافتراق المسلمين بين سنة وشيعة.
  • وكان سببا مستمرا للحروب الأهلية بين المسلمين على حد ما قاله الشهرستاني: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة. إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل في الإمامة”.

لذلك نصح المغيرة بن شعبة معاوية بن أبي سفيان بقوله: “لقد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له. فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة” وقد كان. ولكن مبدأ توارث الملك الذي سار عليه الأمويون والعباسيون والعثمانيون وغيرهم أتى بعيوبه وأهمها:

الأول: المستحق وراثة قد لا يكون مستحقا أهلية.

الثاني: أنه لم يمنع النزاع بين الوارثين فقتل الأخ أخاه كما فعل المأمون بالأمين، وقتل الابن أباه كما فعل المنتصر بالمتوكل، وقتلت الأم ابنها كما فعلت الخيزران بالهادي. وعلى طول العهود الماضية احتدم التنافس بين الأبناء والأعمام وبين الأبناء فيما بينهم حتى أن محمد الفاتح وهو من أعظم سلاطين آل عثمان أصدر قانونا يبيح لمن يتولى العرش أن يقتل أخوته الذكور وبالفعل قتل 19 أميرا هم أخوته.

الحضارة الأوربية الحديثة هي ثمرة ثقافات اليونان، والرومان، والمسيحية، وحضارة الإسلام. استمدوا من اليونان الفلسفة والفنون. ومن الرومان نظام الحكم والقانون. وتأسس الحكم عندهم حتى الثورتين الأمريكية ثم الفرنسية على توارث الحكم.

ونتيجة لما أعقب الثورتين من تطورات فرضها كفاح الشعوب الأوربية تراجع حكم الفرد وحل محله الحكم الملكي الدستوري الديمقراطي، أو الحكم الجمهوري الديمقراطي.

يقوم نظام الحكم في البلدان العربية المعاصرة على ملكيات أو جمهوريات ليس للشعوب فيها الحظ المطلوب من المشاركة والمساءلة ولا تلتزم بالدرجة المطلوبة من الشفافية وسيادة حكم القانون. هذا الأمر تعرض له بإسهاب تقرير لجنة الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في العالم العربي لعام 2002م وتوالت الإشارات إليه في تقريري عام 2003م و 2004م.

التطلع للتحول الديمقراطي العربي الآن تطلع عريض تجسده رؤى عديدة أهمها ثلاث رؤى:

الأولى:الرؤية الشعبية الأهلية ولها أشكال عديدة أهمها مبادرة الإصلاح السياسي في العالم العربي الصادرة في 22 مارس 2004م بعنوان: الاستقلال الثاني والتي ساهمت فيها 53 منظمة من منظمات المجتمع المدني في العالم العربي وسمت اجتماعها المنتدى المدني الأول.

الثانية: الرؤية الدولية والتي عبرت عنها الشراكة الأوربية المتوسطية ثم المبادرة الأمريكية التي سميت الشراكة من أجل المستقبل وتبنتها قمة الثمانية في يونيو 2003م وعبر عنها منبر الشراكة من أجل المستقبل.

الثالثة: الرؤية الرسمية التي ظهرت في مبادرات عدد من الدول واتخذت شكلاً جماعياً عربياً في مؤتمر القمة العربي في تونس في 24 مايو 2004م.

عيب الرؤية الرسمية هو أنها تضع سقفاً مقيداً للإصلاح السياسي وتتحصن بالسيادة الوطنية وبالخصوصية الثقافية لتجعل الإصلاح محدوداً.

وعيب الرؤية الدولية هو أنها مرتبطة بسياق أمني انطلقت منه، كما أنه يهدر كفاح المصلحين والمجددين داخل الوطن العربي.

وعيب الرؤية الشعبية هو أنها ستبقى محاصرة ما لم تدخل في معادلة مع دولها ومع الرافع الدولي. لذلك اقترحنا حواراً ثلاثياً بين الجانب الرسمي، والشعبي، والدولي لوضع استراتيجية تحول ديمقراطي تسمى الميثاق العربي للتحول الديمقراطي.

هذا الميثاق ينبغي أن يلتزم بحقوق الإنسان والحريات العامة والحكم الراشد القائم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

وينبغي أن يضع أساسا للتفاعل مع مسألة التوارث كالآتي:

  • النظم الملكية تواصل نظمها بشرط التحول لملكيات دستورية بالتدرج المعقول والمؤسس على حوار مع القوى الديمقراطية المدنية.
  • النظم الجمهورية تجري إصلاحات دستورية تكفل حقوق الإنسان والحريات العامة والمجالس التشريعية المنتخبة وتفتح التنافس الانتخابي الحر لرئاسة الجمهورية وفي هذه الحالة لا مانع أن يرشح أي مواطن مؤهل حتى أفراد  أسر الرؤساء الحاليين ما داموا يلتزمون بالتنافس الحر.

إذا اتخذ هذا الإصلاح السياسي الدستوري أساساً للتطور السياسي العربي فإنه سوف يحقق الحكم الراشد والتحول الديمقراطي السلمي. وهذا يقفل الباب أمام تدابير الغزاة الذين سوف تدفعهم عوامل كثيرة لمغامرات لا تحمد عقباها، ويقفل الباب أمام حركات الغلاة الذين يجدون في التوتر الداخلي والتآمر الخارجي مناخاً مناسباً لمشروعاتهم المارقة عن منطق التاريخ، ويقفل الباب أمام المغامرين  الانقلابيين الذين قد يغريهم تآكل شرعية النظم القائمة لمحاولات انقلابية مهما كانت نواياها  فإنها تأتي بأضرار أكثر من المساوئ التي تحاول إزالتها. هذا هو أهم درس مستفاد من الانقلابات التي شهدتها المنطقة. وفي هذا الصدد فإن التجربة السودانية درس واعظ فالانقلابات التي أقامت نظماً “ثورية” في السودان خربت البلاد وحققت في كل حالة عكس مقاصدها.

الملكيات الدستورية والجمهوريات الديمقراطية هي نظم الحكم المناسبة لتحقيق تطلعات الشعوب المشروعة، ولحماية الكيانات السياسية من الوصاية الأجنبية، وهي وسيلة تمكين الشعوب. والشعوب الحرة هي التي سوف تختار درجة التنازل عن السيادة الوطنية لتحقيق درجة أعلى من الوحدة العربية. والشعوب الحرة ضمن نظمها الديمقراطية هي القادرة على وضع أسس التعامل العادل مع المجموعات الوطنية المختلفة ديناً، وثقافةً، والتعامل العادل مع الآخر الدولي بما يحقق المصالح المتبادلة.

 

[1] سورة مريم الآيتان 5، 6.