الممكن والمستحيل في سلام الشرق الأوسط

بسم الله الرحمن الرحيم

الممكن والمستحيل في سلام الشرق الأوسط

17 فبراير 2005م

 

المسألة اليهودية صناعة أوربية. واللاسامية ظاهرة أوربية. والصهيونية رد فعل اليهودية الأوربية على الاضطهاد الأوربي. والوعد بوطن عبري في فلسطين وعد أوجبته الصراعات الأوربية. والهولوكوست جحيم أشعلته لوثة أيدولوجية أوربية. وقرار الاعتراف بدولة إسرائيل في 1948م قرار دولي دعمته إرادة أوربية أمريكية.. هذه هي حيثيات الخطيئة التي ارتكبت في حق شعب لا ناقة له ولا جمل فيما أصاب اليهود.

إن النزاع الأكثر حدة في منطقة الشرق الأوسط وافد إليها من خارجها وتتحمل الأسرة الدولية الأوربية الأمريكية مسئولية أخلاقية وسياسية عن مأساة الشرق الأوسط الراهنة.

وفي ظروف الحرب الباردة “1948- 1989م” صارت إسرائيل حليفا استراتيجيا في المنطقة للمعسكر الغربي. وبعد حوادث 11 سبتمبر 2001م تجدد دور إسرائيل حليفا للولايات المتحدة في الحرب العالمية التي تشنها ضد “الإرهاب” معرفا بصورة تشمل العنف العشوائي وحركات التحرير. كل مبادرات السلام في المنطقة وافدة إليها من خارجها ومقترنة بتقلبات في السياسة الدولية.

مشروع السلام الأخير انطلق من مؤتمر مدريد 1992م الذي كان بدوره ثمرة انتصار الحلفاء في حرب الخليج الثانية “تحرير الكويت” وبعد حرب الخليج الثالثة “إطاحة النظام العراقي” قدمت مبادرة خريطة الطريق. خريطة الطريق ولدت ميتة للأسباب الآتية:

  1. أصحابها أربعة هم: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي، وروسيا، والأمم المتحدة، ولكن القمتين المنعقدتين لتدشينها في عام 2003م في شرم الشيخ والعقبة كانتا تحت الراعي الأمريكي وحده.
  2. خريطة الطريق تتطلع لسلام شامل ولكن قمتي شرم الشيخ والعقبة غيبتا سوريا ولبنان.
  3. رئيس الوزراء الفلسطيني يومئذ السيد محمود عباس قدم كأنه مرشح الطرف الأمريكي الإسرائيلي فأصيب بقبلة الموت.
  4. من أهم أسباب التمهيد للتفاوض إعلان والالتزام بوقف إطلاق النار. ولكن الطرفين الأمريكي والإسرائيلي يتعاملان مع فصائل المقاومة الفلسطينية باعتبارها إرهابية فإن كانوا كذلك فإدخالهم في التفاوض غير وارد. وهم جزء لا يمكن تجاوزه في المعادلة الفلسطينية.
  5. وكان الاجتماعان يفترضان أن الرئيس الفلسطيني المنتخب “السيد ياسر عرفات” عقبة في طريق السلام ينبغي تجاوزها. وهو افتراض غير واقعي.

قبلت إسرائيل التعامل مع خريطة الطريق قبولا اسميا لأنها اعتبرت أن الظروف الموضوعية سوف تمكنها من إملاء شروطها للسلام.

أولا: لأن الحرب الباردة انتهت لصالح حليفها الاستراتيجي. ولأن هذا الحليف يقف معها في جبهة واحدة في حربه ضد “الإرهاب”.

ثانيا: لأن النظام العربي بعد حروب الخليج الثلاثة قد انهار.

ثالثا: لأن استبداد كثير من النظم العربية كان أحد أسباب تفريخ الغلو الإسلامي وأساليبه المتطرفة. لذلك صارت تلك النظم في موقف دفاعي قيد حركتها.

هذه الظروف هي التي عززت الموقف الإسرائيلي وجعلت القيادة الإسرائيلية تخطط لإقامة واقع في المنطقة من جانب واحد: الانسحاب من غزة ومن بعض الضفة الغربية وإقامة الحائط “الأمني” العازل.

ولكن رغم أسباب تعزيز الموقف الإسرائيلي لم تستطع إملاء إرادتها:

أولا: لأن المقاومة الفلسطينية التي انطلقت في انتفاضة الأقصى الثانية منذ عام 2000م بمناسبة زيارة أيريل شارون الاستفزازية للقدس اتصلت وصمدت.

ثانيا: لأن الشعوب العربية مع كل ظروفها الصعبة منحت المقاومة الفلسطينية دعما ماديا ومعنويا قويا.

ثالثا: لأن مواقف الولايات المتحدة الداعمة للغلو الإسرائيلي خلقت لها كراهية في شعوب المنطقة تكاد لكثافتها أن تتجسد ماديا. كراهية عمت الشعوب العربية، والإسلامية، بل حتى الأوربية التي في قياس الرأي في عام 2004م صنفت إسرائيل الخطر الأول على السلام الدولي وأمريكا الخطر الثاني، سلام إسرائيل المفروض من جانب واحد مستحيل وإن فرض فعمره قصير.

كذلك حال سلام من جانب واحد، يتطلع إليه بعض أهل فلسطين لتحريرها من النهر إلى البحر.

في 11 نوفمبر 2004م توفي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وانتخب الرئيس محمود عباس خلفا له.

الرئيس محمود عباس لم يخيب الظن فيه – غصن زيتون- وشرع منذ انتخابه يقول ويفعل ما من شأنه إحياء خريطة الطريق نحو السلام.

وتجدد الأمل في السلام وعقد مؤتمر قمة شرم الشيخ في 8 فبراير 2005م بمبادرة مصرية وأدى إلى تكوين لجان للقيام بمهام من شأنها أن تمهد الطريق للتفاوض من أجل السلام.

وقام الرئيس محمود عباس بمبادرات هدفها إعلان وقف إطلاق النار المتزامن والالتزام به أثناء المفاوضات المزمعة.

هذا المناخ الإيجابي يدعمه اتساع قاعدة الحكم في إسرائيل تحالفا بين الليكود والعمل.

هل يمكن لهذا الفجر الجديد أن يصدق؟

الحد الأدنى الذي يمكن أن تشتريه القاعدة الفلسطينية العريضة هو:

  • الدولة المستقلة في حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.
  • تفكيك المستوطنات اليهودية في حدودها.
  • حق العودة لأهل فلسطين المشردين منذ عام 1948م.

إذا استطاع الرئيس محمود عباس أن يحقق وقفا شاملا متزامنا لإطلاق النار وتفاوضا جادا واتفاقا ملزما بتلك الأهداف فإنه سوف يحقق نقلة في اتجاه بناء السلام في المنطقة.

هنالك عوامل ضرورية لتحقيق هذه النقلة أهمها:

  • اعتبار حركات المقاومة الفلسطينية جزء من المعادلة والتعامل معها على أساس أن لها حقوقا وواجبات. أما فرض واجبات عليها دون حقوق، أو المطالبة بتفكيكها كشرط للتفاوض من أجل السلام فليس ممكنا. وقد أثبتت الانتخابات الفلسطينية الأخيرة الرئاسية والمحلية كما هو الحال في الجامعات أن لها وزنا جماهيريا متينا كما أن لها وزنا اجتماعيا كبيرا عبر الخدمات الاجتماعية التي تقدمها.
  • أن للدور الأمريكي وزنا هاما. ولكن السياسة الأمريكية في المنطقة ستظل فاشلة ومعزولة حتى من حلفاء أمريكا الغربيين ما لم تراجع نهجها الأيدولوجي العقيم.

لقد تعددت مؤخرا التقارير ذات الوزن التي ترى خطأ السياسات الأمريكية في التعامل مع العالم الإسلامي وتوصي بالمراجعة حيث نص تقرير الراند “2003م” أن على الولايات المتحدة أن تتعاون مع التيارات الإسلامية المعتدلة التي تعبر عن الإسلام المدني الديمقراطي المعتدل لأن الحركات الإسلاموية المتطرفة حركات إرهابية والحركات العلمانية معزولة جماهيريا، كما تحدث تقرير صادر عن البنتاغون “سبتمبر 2004م” عن خطأ الخطاب الأمريكي في العالم الإسلامي لأنه أشاع الكراهية ضد الأمريكان.

فيما يتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي فإن المراجعة تقتضي:

  • عدم الخلط بين التحرير المشروع والإرهاب الإجرامي.
  • عدالة التوسط والتخلي عن بحث المواقف أولا مع إسرائيل ثم محاولة الضغط على الفلسطينيين لقبولها.
  • أخذ الواقع في الحسبان فكل محاولة للقفز فوقه تأتي بنتائج عكسية كما شهدوا في العراق.
  • المحافظة على أكبر قدر من وحدة الصف الفلسطيني وإدراك أن أية محاولة لتخطي قوى المقاومة لن تحقق سلاما بل سوف تحول الصدام من فلسطيني إسرائيلي إلى فلسطيني فلسطيني.

هنالك حقائق أخرى ينبغي استصحابها هي: السلام رغبة شعبية عارمة في المنطقة وضرورة لاستقرارها، والسلام لا يمكن تحقيقه بلا عدالة، والوصول إلى صيغة سلام عادل بمجهود طرفي النزاع وحدهما مستحيل لأن الحد الأدنى المقبول فلسطينيا غير مقبول إسرائيليا فالحاجة ماسة لجهد حقيقي دولي.

ومهما كان حال الجهد الدولي الآن مشوها فإن العوامل الآتية سوف تعدله: التطورات في المنطقة تسير في خطى مختلفة عن إرادة الصقور في واشنطن والعراق أحد الدلائل. والحرب ضد “الإرهاب” واحتواء انتشار أسلحة الدمار الشامل كلاهما يوجبان حلا عادلا لنزاع الشرق الأوسط. ودمقرطة البلدان العربية التي يستحيل وقفها سوف تحقق دعما إضافيا للحق العربي عامة والفلسطيني خاصة.

وبعد أن يقف العنف فإن المنطقة سوف تشهد صراعا حضاريا سلميا لبناء أحد مستقبلين:

الأول: أمة عربية واحدة في عدة دول أو ولايات عربية متحدة وإسرائيل وطن عبري متعايش معها ومنخرط معها في استراتيجية واحدة.

الثاني: كيان جغرافي سياسي شرق أوسطي يضم دويلات عربية وتمثل إسرائيل نوعا من الباب العالي وكيلة للهيمنة الدولية الأمريكية.

تحقيق الاحتمال الأول يوجب مشروعا قوميا نهضويا ذا بعد فكري يوفق بين العروبة والإسلام، ويستوعب التعددية الثقافية والدينية، وبعد اقتصادي تنموي، وبعد سياسي ديمقراطي، وبعد اجتماعي عدالي، وبعد خارجي يخاطب خصوصية علاقات هذه المنطقة بجوارها الآسيوي، والأفريقي، والأوربي.

هذا المشروع النهضوي يجعل هذه الأمة فاعلا فإن تقاعست عن هذا الدور فإن مقتضيات التطورات الإقليمية والدولية سوف تجعلها مفعولا به:

من يهن يسهل الهوان عليه      مـا لجــرح بميت إيــــلام!!