الظلمات والنور في طريق المشروع الإسلامي  المعاصر

بسم الله الرحمن الرحيم

الظلمات والنور في طريق المشروع الإسلامي  المعاصر

27 أغسطس 2006م

 

سعدنا منذ أيام بنفحات الإسراء والمعراج في رجب الخير. وهما حدثان أكرم الله بهما النبي (ص) بوصال روحي ووعد حق في وقت حالك السواد من أوقات الدعوة واجه فيه إعراض أهل مكة، وإسفاف أهل الطائف، ومسته البأساء والضراء.

الفجر يبزغ بعد أحلك ساعات الظلام. هذه ظاهرة طبيعية. وأضيق الأمر إن قدرت أوسعه كما قال ابن زريق. هذه ظاهرة سيكولوجية. وربما جاء الفرج بعد قمة الحرج.. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[1]. هذه ظاهرة إلهية وتقابلها عبارة “الصبر مفتاح الفرج”، وهي ظاهرة سوسيولوجية ما أحرانا أن نتأمل حالنا الراهن حول كثير من مفردات واقعنا.

ههنا أتناول المشروع الإسلامي المعاصر في كثير من بلداننا وقد خذله عاملان:

الأول: داخلي صنعه مسلمون دفعهم الجهل أو الحماسة أو الغرض فربطوا بين الشعار الإسلامي والعنف العشوائي في المعارضة، مع أن للإسلام أخلاقاً وضوابط للقتال لا يجوز شرعا تجاوزها. وغيرهم ربط بين الشعار الإسلامي والفساد والاستبداد في ممارسة السلطة، مع أن الإسلام لا يمنح شرعية لسلطة لا تأتي عن طريق الشورى “المشاركة” ولا تمارسها بالحسنى والإصلاح. قال ابن القيم: “فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه”.

هؤلاء في الحالين أساءوا لديباجة الإسلام الوضاءة، فزادوا الصف الإسلامي فرقة، وأهدروا المصالح العامة، وفتحوا أبوابا واسعة دخل منها أعداء الأوطان والإسلام ليخضعوا أهلها.

العامل الثاني: عامل خارجي متعلق بالثغرات التي مكنت للهيمنة الدولية غزو الديار بصورة ما:

يا سادتي لم يدخل الأعداء من حدودنا   لكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا!!

نظام طالبان في أفغانستان تصدى للعجز الذي أصاب الحكم بعد جلاء القوات السوفياتية متجاوزا الحركات المنظمة التي خاضت المقاومة ومؤسسا لنظام نسبه للإسلام. نظام من عيوبه النقص في المعرفة الإسلامية، والنقص في الخبرة السياسية والدبلوماسية، والتورط في أجندات الآخرين: باكستان أولا، والقاعدة ثانيا، فانفرط العقد رغم حماسة طالبان.

كان السودان الحديث أولى بإقامة تجربة إسلامية ناحجة. ففي عام 1980م أقام الإسلاميون السودانيون على اختلاف اجتهاداتهم جماعة الفكر والثقافة الإسلامية. جاء في وثيقتهم التأسيسية وصف للسودان بأنه متعدد الأديان والثقافات، متعدد الرؤى الإسلامية والأحزاب، وأنه مجاور لبلدان متوجسة من النهج الإسلامي، لذلك ينبغي أن يحصن التوجه الإسلامي نفسه فيه بالنهج التضامني بين المسلمين، ونهج الحوار مع غير المسلمين، والنهج الديمقراطي في آلية الممارسة.

وفي 1989م اجتمعت منظمات إسلامية إخوانية أو متفرعة من أصل إخواني، ومارسوا نقدا ذاتيا لحركاتهم. السيد عبدالله النفيسي نشر وقائع ذلك الاجتماع وكان من بين توصياتهم أن تتجنب الحركات الإسلامية الطريق الانقلابي العسكري للمشروع الإسلامي.

قيادة الجبهة الإسلامية السودانية اشتركت في ذينك المنبرين ولكنها ضربت بما ورد فيهما عرض الحائط وأقدمت على مغامرة انقلاب ” الإنقاذ” التي ربطت بين الشعار الإسلامي والانقلاب العسكري، والاستبداد، والتعصب، والفساد الذي ترتب على ذلك. وبعد عقد ونصف من التيه والتخبط دمرت وطنا باسم تطبيق الشريعة فيه.

لا أستطيع هنا الخوض في كل تجارب التطبيق الإسلامي الحديثة وقد خضت فيها بتوسع في كتاب “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي”(1985) وكتاب “نحو مرجعية إسلامية متجددة” (2006) ولمن شاء أن يرجع إليهما.

في الماضي لا سيما القرن التاسع عشر كانت حركات التأصيل والتحرير: الوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا وغيرها قد تطلعت للتأصيل الإسلامي وعملت على مقاومة الاستعمار.

وفي القرن العشرين عملت الإخوانية وفروعها، والخمينية وثورتها على إحياء التوجه الإسلامي في العصر الحديث واتخذتا الإصلاحية والثورية سبيلا لذلك. ومع ما صحب عطاءهما من حيوية فإن الإخوانية قد قعد بها الانكفاء الحزبي والغياب البرامجي. وحدت ولاية الفقيه والالتزام المذهبي من تأثير الثورة الإسلامية في إيران، ولكن التجربة صمدت وفاقت في نجاحها التجارب الأخرى وتحمل كثيرا من مقومات التطور.

إن لحركات التأصيل والتحرير الإسلامية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين عطاءها وعثراتها ولكن نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أتت بمستجدات توجب اجتهادات تخاطبها.

التحديات التي تواجه مجتمعاتنا اليوم تتمثل في التحرير من الاحتلال، والتنمية، الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والعلاقات الدولية الندية. وهي تحديات لا يمكن للمسلم أن يواجهها دون مرجعية إسلامية وقد استطاع الإسلام أن يمنح الأمل لدى إخفاق الخيارات الأخرى. بل رغم ضعف المسلمين يشهد العالم فتوحات إسلامية! فاعتناق الإسلام في أمريكا وأوربا الآن يبلغ مئات الآلاف. القاسم المشترك الذي يقوله هؤلاء هو أن الإسلام يمنح الطمأنينة في عالم مضطرب ومختل القيم. وقال فارهاد خوسروكافار الأستاذ الفرنسي: “كان المتطلعون لعالم أفضل في الماضي في الغرب يتجهون نحو اليسار. الآن هؤلاء يجدون ضالتهم في الإسلام”.

بعض الحركات الإسلامية المعاصرة ترسل البشائر: فحزب العدالة والتنمية في تركيا يحاول تقديم مرجعية إسلامية جديدة وحزب الله يقدم أنموذجا ثرا من الحيوية الشعبية، والديمقراطية، والرعاية الاجتماعية، والانفتاح التعايشي نحو الآخرين، والجدوى التحريرية في وجه الاحتلال. وهي معان تظهر أيضا في حركة حماس.  ونحن في السودان نحاول تقديم مرجعية إسلامية متجددة مبرأة من الانكفاء والاستلاب ومصفحة بالوعي والمعرفة والتعبئة الشعبية.

التجارب الإسلامية الفاشلة، وأجندات الهيمنة الدولية، نشرت ظلمات في عالمنا. ولكن الاجتهادات والحركات الواعدة تبشر باستنارة معطاءة. وما أحرانا في ذكرى الإسراء والمعراج أن نلتمس منها الخيرات المأمولة.

كل الدلائل تشير إلى أن القوى الحية في مجتمعنا سوف تحيل الأزمات المشاهدة إلى فرص استنهاض وبعث إذَّن آذانها. قال رسول الله (ص): “إن لربكم في دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها”. وبتعبير وضعي قال شكسبير شاعر إنجلترا الأعظم على لسان بروتس:

 

للبشر صروف الدهر كموج البحر                 إن ركبوا الموجة حين المد ينالوا الظفر

 

[1]  سورة يوسف الآية 110