إفادات أمام قمة زعماء العالم عقدت تحت عنوان:في منعطف تحول: البحث عن مداخل مبتكرة للسلام عبر القيادة المسؤولة والحكم الراشد

بسم الله الرحمن الرحيم

نحو مجلس للأديان بالأمم المتحدة

 

إفادة الإمام الصادق المهدي أمام قمة زعماء العالم التي عقدت تحت عنوان:

 العالم في منعطف تحول: البحث  عن مداخل مبتكرة للسلام عبر القيادة المسؤولة والحكم الراشد

في الفترة من 11 –16 أغسطس 2003م

سيول- كوريا

مقدمة:

حينما قام النظام العالمي الحالي في أعقاب الحرب العالمية الثانية سادت العلمانية، فقد كان ما يجمع بين المدرستين الفكريتين السائدتين: مدرسة النظام الديمقراطي الرأسمالي في الغرب ومنافستها المعارضة: المدرسة الشيوعية اعتقادهما بأن الهوية الثقافية والدينية التي ميزت مجتمعات ما قبل الحداثة ستتجاوزها قوى الحداثة. لذلك لم يكن مستغربا أن تهمش مواثيق ومؤسسات النظام العالمي الجديد الأمور الثقافية والدينية.

وفي العقدين الآخرين من القرن العشرين اضطرت الأفكار العلمانية للتنازل عن احتكار الصواب لصالح نزعات الإحياء الثقافي والديني.

ستتقصى هذه الورقة أثر تلك الظاهرة، وتحدد تأثيرها الحتمي على شؤون العالم، وتستعرض التحولات التي ينبغي على الأمم المتحدة مخاطبتها وستجادل الورقة من أجل إصلاح فكري ومؤسسي للنظام العالمي لاستيعاب تلك الظاهرة.

تقدم النقاط السبع التالية حجتي:

1/ التطورات الأكثر أهمية وذات العلاقة بهذه الأطروحة هي:

  • في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين لوحظ أن هناك صعودا للأصولية الدينية، وفي منتصف الثمانينيات أجرت الأكاديمية الأمريكية للعلوم والآداب دراسة للظاهرة وبعد أربع سنوات من البحث نشرت تقريرها في 1988م. وثق التقرير صعود الأصولية لعدة أديان عالمية هي: البوذية- الهندوسية- اليهودية- المسيحية- الإسلام. كانت تلك الأديان تسعى لصد تحديات العلمانية وللإيفاء بالحاجات الروحية والأخلاقية.
  • نشرت لجنة الجنوب في ديسمبر 1990م تقريراً بعنوان “تحدي الجنوب” درس إخفاقات برامج التنمية في أقطار عديدة في الجنوب وخلص إلى أن هناك سببا مشتركا لذلك الإخفاق هو إغفال تلك البرامج للخصائص الثقافية للمجتمعات المعنية.
  • في ديسمبر 1992م تم إنشاء لجنة مستقلة بالاشتراك بين اليونسكو والأمم المتحدة هي اللجنة الدولية للثقافة والتنمية وتم تفويضها من قبل المنظمتين لتعد تقريراً يعنى بالسياسات حول التداخل بين التنمية والثقافة. وفي عام 1995م أصدرت اللجنة تقريراً بعنوان “التنوع البشري الخلاق” أكد أهمية الثقافة في النشاط الإنساني وأوصى بالاعتراف بالحقوق الثقافية كركيزة هامة من ركائز حقوق الإنسان. لقد اكتسبت الاعتبارات الدينية والثقافية بروزاً  عظيماً في العديد من مجالات النشاط الإنساني: الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والدبلوماسي والأنشطة غير الحكومية.

2/ في كتابه “نقد العقل الخالص” حاجج إيمانويل كانط محقا لصالح حقيقة أن المعرفة البشرية الممكن إثباتها تعتمد على الإدراك الحسي، ومع ذلك ففي كتابه “نقد العقل العملي” اعترف مصيباً بحقيقة أن القيم الروحية والأخلاقية والجمالية والتي تقع خارج نطاق الحواس ضرورية للوجود الإنساني.

وفي الحقيقة فإن أي بحث شامل مستقصى لحاجات الإنسان يكشف أن هناك عشر حاجات: روحية، مادية، أخلاقية، عاطفية، معرفية، اجتماعية، جمالية، رياضية، بيئية، وترفيهية. بعض هذه الحاجات يمكن إشباعها بوسائل سياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية والبعض الآخر يمكن إشباعها بالدين والحب والثقافة.

بعض أشكال الأصولية الدينية تلحق ضراراً بالإنسانية بتغولها على مجالات العلوم والتكنولوجيا وكذلك تفعل بعض أشكال الأصولية العلمانية بتغولها على مجال ما فوق العقل وكلاهما ينتج صورة شائهة للإنسان. إن على الاستنارة الدينية في هذا المفرق من التطور البشري أن تخلص للآتي:

أولاً: هناك عالم طبيعي تدركه الحواس البشرية وهناك طبيعية بشرية تشارك وجوداً فوق المدركات العقلية يمكن الوصول إليه عبر الوحي والإلهام والبصيرة والإدراك فوق الحسي. هاتان الركيزتان كانتا وما زالتا وستظلان تمنحان الإنسان تعريفه.

ثانياً: أية دراسة شاملة للأديان المقارنة ستكشف عالمية القيم الروحية والأخلاقية وستمكن المؤمنين من تحديد منهج مشترك لحل مشكلات الإنسانية.

3/ الاعتقاد الديني دعامة نفسية للإنسان ووسيلة لمحاسبة الذات وأساس لفضيلة الإيثار ووسيلة للتماسك الاجتماعي، ويدرأ غم الوحشة ويحقق الجماعية. وعليه فإن الدين يشكل قوة نفسية واجتماعية بالغة الشدة. وخلافا لقوة العناية الإلهية: الروحية والمعنوية والتي قد يشكك فيها غير المؤمنين، فإن قوة الدين النفسية والاجتماعية يمكن أن تخدم الأهداف الخيرة أو يساء استخدامها على أيدي الأشرار. وبالرغم من إدراكنا جميعا بأن الله يريد السيادة الكاملة للخير على الشر والنهاية السعيدة للنفس الإنسانية إلا أن إرادة الله تتجلى عبر سعي الإنسان.

4/ هناك مجموعة من المشاكل تمثل تحدياً للإنسانية وتحتاج جهد المؤمنين المكثف المنسق لمواجهتنا بنجاح. تلك المشاكل هي:

  • في أكثر الأحيان أخفقت الإنسانية في حل نزاعاتها المحتومة سلمياً، يجب أن يكون هناك التزام قاطع بحل النزاعات سلمياً دون عنف. إن ثقافة السلام تتطلب اعترافاً بالآخر من حيث الحقوق والاختلافات الثقافية وتتطلب آلية معروفة لحل النزاعات الاجتماعية والوطنية والدولية، ووسيلة لقتل النزاعات في مهدها وبرامج عديدة لتشجيع التعاون الدولي في كل أوجه النشاط الإنساني ذات الصلة.
  • تسعى التنمية لتطوير البنية التحتية المادية والاجتماعية للمجتمعات لزيادة إنتاج السلع والخدمات لمقابلة احتياجات الإنسان الأساسية. تشكل التنمية تحديا أساسياً للدول والمجتمع الدولي.
  • العدالة الاجتماعية لإزالة الاستقطاب في المجتمع بين الأثرياء والمعدمين. تسعى العدالة الاجتماعية لجعل الرسم البياني للتركيبة الاجتماعية على شكل السهل المرتفع وليس على شكل الهرم. (“كناية عن التفاوت الحاد بين أقلية ثرية في القمة وأغلبية معدمة في القاعدة).
  • حرية البحث العلمي والتكنولوجي والفكري.
  • حماية الحريات الأساسية: حرية الضمير- حرية التعبير- وحرية التجمع والتنظيم.
  • الحكم الراشد الذي يتطلب أربعة أسس رئيسية هي: المشاركة، المحاسبة، الشفافية وحكم القانون.
  • حماية البيئة الطبيعية على أساس برنامج ملزم للنظام البيئي.
  • الاعتراف بالآخر الديني والآخر الثقافي والالتزام بالتعاون بين الأديان والثقافات.

كثير من المسائل الحالية تمت معالجتها بخطط علمانية، وكثير من التيارات الدينية متخلفة  بحيث لا يمكن المساعدة في حل المشكلات، إنها جزء من المشكلة لأنها تيمم وجهها شطر الماضي وتفشل في مخاطبة التحول الاجتماعي.

ولكن مع ذلك فهناك فكر ديني مستنير عريض يعترف بضرورة مخاطبة التحول الاجتماعي ويدرك إمكانية الاحتفاظ بأصالته الدينية ويتعامل مع حاجات العالم المتجددة. الإنسان الحديث يعاني جوعاً روحياً وعاطفياً، فالولوغ العميق في تعاطي المخدرات والكحول وطبيعة الجذب والاستغراق في الموسيقى الحديثة، كل هذا ليس لمجرد الترفيه ولكنه بحث لإشباع ذلك الجوع الروحي والعاطفي. البعث الديني الحالي بشارة للإنسانية لأنه يشكل إشباعاً أفضل لذلك الجوع، ولكن هذه الظاهرة ربما تكون نذير سوء إذا فعلت ذلك وكان الثمن حبس الإنسان في الماضي. إن على الفكر الديني أن يجرد المنكفئين من أسلحتهم وأن يحفظ روح الإنسان الحديث وأن يكون قوة دافعة عظيمة للإنسان الحديث في سعيه لتحقيق نظام اجتماعي ونظام عالمي أفضل.

5/ نظام الأمم المتحدة اليوم ليس هو نظامها في سنوات تكوينها الأولى، فقد صبغ تأثير الحرب الباردة الطور الثاني بصبغة قوية. وبعد الحرب الباردة دخل النظام طورا ثالثاً تم فيه تهميشه سياسياً –إلى حدا ما- بقوة الولايات المتحدة الأمريكية الضخمة.

هناك حاجة ملحة لمراجعة ضوابط وقواعد مجلس الأمن لتحقيق قدر أعلى من التوازن والديمقراطية. إن قدرة الأمم المتحدة على معالجة مشاكل العالم تضمحل بين مبادرات القوة الضخمة للولايات المتحدة وظاهرة العولمة التي تقوي باضطراد الشركات متعددة الجنسيات. من الضروري ملاحظة كيف أن وكالات الأمم المتحد المتخصصة قد طورت أنشطتها بطرق مختلفة لمخاطبة مشاكل العالم الطارئة. تعتبر مؤتمرات السكان، المرأة، التنمية، الأطفال، البيئة، والموارد المائية  معالم بارزة، وقد أسهمت الإصلاحات الفكرية والمؤسسية التي أوصت بها هذه المؤتمرات الهامة في تطوير نظام الأمم المتحدة.

هناك حاجة ماسة في هذا المفترق لعقد ورشة عمل دولية لمناقشة إصلاح الأمم المتحدة.

6/ هناك أربعة مجالات تتطلب اهتماماً متزايداً من الأمم المتحدة وتتطلب تطوير مؤسسات مناسبة لها:

  • التنمية: في ظل العولمة وتزايد قوة الشركات متعددة الجنسيات لا بد من اعتبار التنمية شأناً دولياً وهذا يوجب تضمين وسائل لمنع الجوانب السالبة في العولمة ووضع ميثاق لأخلاقيات العمل تلتزم به الشركات متعددة الجنسيات والنظر في كيفية التعامل مع مسألة الدين الخارجي وهكذا.

إن اعتبار التنمية شأناً دولياً ليس لمجرد الإيثار وحب الغير للآخرين ولكن للعالم المتقدم نفسه مصلحة في تنمية العالم النامي إذ تمنحه التنمية فرصاً أكبر للاستثمار وأسواقاً أوسع. كما يحتاج العالم المتقدم للتعامل مع فقر الدول الفقيرة مثلما يتعامل مع الطبقات الفقيرة في أوطانه وإلا فإن مشاكل الدول الفقيرة ستطفح وتتخطاها لتقع على الدول المتقدمة، فالإرهاب والهجرة غير القانونية وزراعة المخدرات والانفجار السكاني والمخاطر الصحية كلها ثمار للفقر واليأس.

صحيح أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أصبحا أوسع أفقاً في تعاملهما. يجب أن يكون هناك التزام جماعي دولي بالتنمية وفق الخطوط التي أوصت بها مؤتمرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية وتوصيات لجنة الجنوب.

ب‌.     الديمقراطية:

أصبح من المسلمات أن الدكتاتورية تعني الحكم الطالح وهي شرط سابق لانتهاك حقوق الإنسان. لذلك يجب أن يعتمد الحكم الراشد أساساً للاعتراف الدولي. يجب على الأمم المتحدة أن تنشئ مرصداً لمراقبة الحكم الراشد وأن تجعله شرطاً لعضويتها. يقوم الحكم الراشد على أربع دعامات هي: المشاركة، المحاسبة، الشفافية، وحكم القانون.

ج. المنظمات غير الحكومية: إن تطوير المنظمات غير الحكومية وسيلة لمشاركة أوسع وإشراك مفيد للمجتمع المدني. إن وجود آلية تجعل صوت المنظمات غير الحكومية مسموعاًً في نظام الأمم المتحدة ضرورة.

د. الدين: تم إغفال الدين فكرياً ومؤسسياً في نظام الأمم المتحدة الحالي وفي ضوء التطورات الجديدة ينبغي تصحيح هذا القصور.

7/ إن إنشاء مجلس ديني بالأمم المتحدة سيستجيب للحاجات الحاضرة وسيجسر هذه الفجوة في نظام الأمم المتحدة الحالي. سيكون لهذا المجلس أربع وظائف على الأقل:

أولاً: يمكن للمجلس عمل فهرس للأديان وجمع مكتبة دولية شاملة للأديان.

ثانياً: يمكنه رفع الوعي والمعرفة بأديان الإنسان عبر أنشطة مختلفة.

ثالثاً: يمكن أن يعمل كمؤتمر للأديان يقوم بتبادل مثمر بين الأديان المختلفة مما يؤدي لتفهم أعمق وتسامح أكبر.

رابعاً: يوصي بالطرق والوسائل التي تمكن الدين من توظيف وزنه الضخم في حل مشاكل الإنسانية الوطنية والدولية المعاصرة.

ينبغي أن يتم تكوين هذا المجلس بناءً على قرار من الأمم المتحدة وأن تكون المحصلة الأخيرة ميثاقاً دينياً عالمياً ومجلساً للأديان بضوابط محددة تحدد السلطات اللائحية والمؤسسية. ولأجل ذلك الهدف يجب أن يصدر هذا المؤتمر التوصيات اللازمة.