الماء الوافر النادر.. والأمن الغذائي..!

بسم الله الرحمن الرحيم

الماء الوافر النادر.. والأمن الغذائي..!

25 سبتمبر 2005م

 

منظر الكرة الأرضية من الفضاء منظر كرة من البلور لما يحيطها من ماء يتجاوز 70% من سطحها. هذا الماء مالح والصالح للاستعمال البشري ولاستعمال الحيوانات والنباتات البرية يساوي 1% من المياه.

دعتنا سيهام CIHEAM (المركز العالمي للدراسات العليا للاقتصاد الزراعي في حوض البحر الأبيض المتوسط)، بالشراكة مع معهد دراسات الاقتصاد الزراعي بمدينة باري الإيطالية، وبالتضامن مع عدد من المنظمات الدولية المتخصصة والدول، دعتنا إلى مؤتمر حضرته عشرون منظمة دولية وثلاثون دولة واشترك فيه 170 عالما وخبيرا لمناقشة موضوع: الماء، والأرض، والأمن الغذائي في المناطق الجافة وشبه الجافة.

قدم العلماء في غضون أربعة أيام سبعين بحثا ودراسة تناولت الموضوع في كل جوانبه. المنطقة المعنية بالدراسة هى غرب آسيا وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا. هذه المنطقة تضم كافة الدول العربية.

أوضحت الدراسات والأبحاث الحقائق الآتية:

* إذا اعتبر أن حد الفقر المائي هو ما يعادل ألف متر مكعب للشخص في السنة، فإن المنطقة العربية تعاني الآن من الفقر المائي بسبب زيادة عدد السكان ومحدودية موارد المياه.

* أن كفاءة استخدام المياه على مستوى الأراضي المزروعة في كثير من البلدان المعنية لا تزيد على 40%.

* أن المنطقة العربية تعاني من ضياع 92 بليون متر مكعب سنويا نتيجة لسوء استخدام المياه المستمدة من مصادر تقليدية أي مياه الأنهار، والأمطار، والمياه الجوفية. وأن المطلوب بإلحاح توحيد إدارة المياه القومية كما فعلت بعض الدول وضبط الطلب على المياه واتباع سياسة ري غير تقليدية اعتمادا على التنقيط والرش وتجنب الغمر.

* أن مصادر المياه غير التقليدية وهى تحلية مياه البحر، واستخدام الماء المالح نفسه، واستخدام الماء المسترجع من الزراعة والصناعة والصرف الصحي، يمكن أن يسد نسبة عالية من الفجوة المائية.

* أن الأرض الصالحة للزراعة في المنطقة تبلغ 18% ولكنها تعاني من كثير من السلبيات: سوء الاستخدام الزراعي، الملوحة نتيجة ممارسات الري الخاطئة، زحف العمران العقاري والزحف الصحراوي.. نتيجة لهذا كله فإن نسبة تدني صلاحية الأرض بلغت 77%.

* أن تلوث البيئة الطبيعية داخل هذه البلدان وعلى الصعيد العالمي ـ نتيجة لتفشي الملوثات وللاحتباس الحراري وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة كما نص على ذلك بروتوكول كيوتو ـ ساهم في السلبيات المذكورة.

الأمن الغذائي هو القدرة على سد الحاجة للغذاء الضروري.. العوامل المذكورة هنا أدت إلى تدني الأمن الغذائي في المنطقة وزيادة اعتمادها على استيراد الغذاء زيادة مطردة ومتصاعدة.

* أن الأبحاث العلمية والتطور التكنولوجي يمكن أن يساهما في حل هذه المشاكل. وأمامنا الصين والهند وهما أضخم تجمعين لسكان العالم إذ يبلغ عدد سكانهما بليونين وزيادة أي أكثر من ثلث سكان الأرض ومع ذلك استطاعتا في العقدين الماضيين عبر الثورة الخضراء أن تتغلبا على مشكلة الغذاء وأن تضعا حدا للمجاعات باكتفاء ذاتي في إنتاج الغذاء.

استمع المؤتمر لدراسات علمية مميزة حول تحلية مياه البحر، وحول النباتات التي تقاوم الملوحة ويمكن ريها بماء البحر، وعن قياس تدهور التربة، وما ينبغي عمله لحمايتها، وعن النباتات التي تقاوم الجفاف، وعن قياس حالة الطقس في الحاضر والمستقبل وعن الزحف الصحراوي، وعن اقتصاديات الأمن الغذائي.. دراسات لا أستطيع أن أوفيها حقها في هذه العجالة ولكنها موجودة في موقع سيهام بالشبكة العالمية المركبة.

تناول المؤتمر قضية الأمن الغذائي العالمي ضمن أهداف الألفية الثالثة الثمانية التي أعلنتها الأمم المتحدة في عام 2000م. هذه الأهداف أعطت معنى حقيقيا محددا للشراكة الدولية من أجل تحقيق إصلاح في مجالات القضاء على الفقر المدقع والجوع ـ تعميم التعليم الابتدائي للكافة ـ تحقيق المساواة بين الرجال والنساء وتمكين المرأة ـ خفض نسبة وفيات الأطفال ـ تحسين صحة الأمهات ـ احتواء أمراض الإيدز والملاريا وغيرها ـ المحافظة على سلامة البيئة الطبيعية ـ وتحقيق شراكة أممية من أجل التنمية.. هذه الشراكة أوجبت أن تقوم الدول الفقيرة بإصلاحات معينة وأن تبذل الدول الغنية جهدا مساعدا وأن تخصص نسبة من دخلها القومي (7.0% من دخلها القومي) أي سبعة سنتات في كل مائة دولار لذلك. ولكن اليوم وبعد مضي خمس سنوات من ذلك الإعلان لا يوجد تقدم ملحوظ في سبيل تحقيق هذه الأهداف.

في ختام المؤتمر طلبت مني إدارته مخاطبته وبعد الإشادة بالجهد العظيم الذي قام به العالم المصري أ. د. عاطف حمدي مدير أبحاث معهد سيهام والعالمة الإيطالية د. كوسيمو لاسرفولا مديرة المعهد وسائر العلماء والباحثين. استشهدت بمقولة عمر بن الخطاب (رضى الله عنها): «رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي» المقولة التي كرر معناها بعد ألف عام الفيلسوف الألماني عمانويل كانط: النقد هو أفضل وسيلة للبناء اكتشفها الإنسان.. قدمت ملاحظات للارتقاء بأداء هذه المؤتمرات وزيادة التنسيق بينها، وزيادة تأثيرها على الواقع ومن المنظور أن تنشر ضمن مداولات المؤتمر في موقع المعهد بالشبكة المركبة.

أجدني حريصا على حضور المؤتمرات العلمية داخل السودان وخارجه وأجد مستوى العلماء والباحثين في منطقتنا ممتازا بصورة مختلفة عن ساستها بسبب خضوع العلماء لمقاييس موضوعية في التعيين والترقي، بينما يحتل كثير من الساسة المواقع بوسائل تحكمية. بل كثير من الساسة يعتبرون السياسة هي تصيّد السلطة أو تصيد أخطاء أصحاب السلطة.. السياسة في حقيقتها مهمة أوسع من ذلك وأنبل لو كانوا يعلمون!

السياسيون عامة وكثير من الإعلاميين الذين يتحاورون معهم لا يحضرون هذه المؤتمرات وإن حضروها فحدهم الجلسة الافتتاحية. قديما قال أفلاطون: إن الناس إذا عرفوا الحق والباطل أو الصحيح والخطأ فإنهم سوف يعالجون أمورهم ولكن قال تلميذه أرسطو: معرفة الحق والباطل وحدها لا تكفي، ينبغي أن توجد إرادة إحقاق الحق، فقد يعلم الإنسان الحقيقة ولا يؤثر ذلك على سلوكه. إن علاج قضايا المنطقة يكتسب فاعلية إذا زاد اهتمام العلماء والخبراء بالشأن العام لتفعيل نتائج أبحاثهم ودراساتهم، وإذا ازداد اهتمام الساسة والإعلاميين بالمعرفة العلمية لتنوير سياساتهم.

الحضارة الغربية الحديثة حققت بعض التقدم في هذا المجال وكثير من عالمنا «خلف أتانه يتقمل..!».