خطبة الجمعة القيت بمسجد البلولة بحري – المغتربين 11 رجب 1428هـ الموافق 27 يوليو 2007م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة التي ألقاها الإمام الصادق المهدي

بمسجد البلولة بحري – المغتربين  11 رجب 1428هـ الموافق 27 يوليو 2007م

الخطبة الأولى

 اللهم إني أحمدك وأثني لك الحمد يا جليل الذات ويا عظيم الكرم، وأشكرك شكر عبد معترف بتقصيره في طاعتك يا ذا الإحسان والنعم، وأسألك اللهم بحمدك القديم أن تصلي وتسلم  على نبيك الكريم وآله ذوي القلب السليم وأن تعلي لنا في رضائك الهمم وأن تغفر لنا جميع ما اقترفناه من الذنب واللمم.

قال تعالى مميزا الإنسان “ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ”[1]. وتعظيما لهذا المخلوق أمر الملائكة أن تسجد له. خلق الإنسان في أحسن تقويم ولذلك قال خالقه عنه: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”[2].

هذا التكريم للإنسان المذكر والمؤنث لأنهما خلقا من نفس واحدة: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونساء”[3].

وهو تكريم للإنسان وهو طفل واجبنا أن نؤدبه وأن نعلمه وأن نحبه ويتصل التكريم للصبي والشاب والكهل والشيخ والعجوز والمعوق. وإذا مات فإن لجنازته حقا على الأحياء إلى أن يشيع ويدفن. مرت على النبي e جنازة فوقف وقال: “إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا” فقالوا له إنها ليهودي يا رسول الله قال: أليست نفسا؟.

المخلوقات الحية تتكاثر بالغريزة وعلى الشيوع. لكن الإنسان المكرم والذي تسكنه الغريزة أوجبت الشريعة أن يتكاثر عن طريق الزواج الذي لا يكون مجرد لقاح ذكر وأنثى بل يقوم على اتفاق أو عقد مشهود لإقامة علاقة طيبة“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”[4]. الأسرة التي يكونها الزواج هي العش الذي يليق بهذا المخلوق المكرم في عُشرة بين الزوجين، واستعداد للحمل، والولادة، والرضاعة، والتربية.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

إننا نمر بظروف جعلت الزواج عسيرا والطلاق كثيرا مما ساهم ضمن عوامل أخرى في انهيار الأسرة السودانية ومع انهيارها انهارت الأخلاق، أقول:

  1. الشباب من سن 18 إلى 40 لا يزيد عدد المتزوجين منهم من 25%.
  2. نسبة الطلاق عالية جدا تفوق 33%.
  3. نسبة الرجال للنساء في أوساط كثيرة مختلة داخل السودان وخارجه.

ففي الداخل أدى نزوح عدد كبير من الشباب الرجالي إلى نسبة نسائية عالية، وفي الخارج أدى نفس السبب إلى نسبة رجالية عالية.

  1. نسبة الأسر التي تعولها النساء وحدهن داخل البلاد بلغت الثلث.
  2. آثار الحرب على المجتمعات لا سيما في جنوب البلاد وغربها وفي أوساط النازحين واللاجئين الذين لا يقل عددهم عن 20% من السكان آثار مدمرة للأسرة. والتوقيع على اتفاقيات السلام الناقصة في يناير 2005م، ومايو 2006م، وأكتوبر 2006م، لم يغير حتى الآن من هذه السلبيات.
  3. كنا في السودان ندعم من خزينة الدولة الخدمات الاجتماعية من صحة، وتعليم، وسلع استهلاكية من خبز ووقود. ولكن الآن رفعت الحكومة يدها عن هذا الدعم فوقع الأثر داويا على ميزانيات الأسر.
  4. عدد الذين طردوا من الخدمة المدنية والنظامية يزيد على ثلثمائة ألف وكل واحد أو واحدة من هؤلاء يعول أسرة لا تقل عن خمسة أشخاص.
  5. نسبة العطالة في البلاد كبيرة لا تقل عن 20% حتى بين الخريجين.

والخلل في التعليم أدى إلى تخريج كثيرين بعلم لا ينفع. لذلك لجأ كثيرون لاستجلاب عمالة أجنبية بلغت 80 ألف وهي إلى زيادة.

هذه العوامل كلها تزيد من انتشار الفقر وتنشر الإعسار وتهبط بنسبة الاقبال على الزواج وترفع نسبة الطلاق. لذلك صارت الأسرة السودانية في خطر وبالتالي كافة الأخلاق من أمانة، وصدق، وعفة، في خطر.

المسألة السياسية والاقتصادية لا حل لها إلا بإقامة الحكم الرشيد والتنمية البشرية المتكاملة.

ولكن هنالك ما يمكن تحقيقه في النطاق الأهلي على نحو ما فعل الإمام عبد الرحمن المهدي الذي سن سنة حسنة يسرت الزواج. هذه السنة تآكلت مع الأيام وصرنا الآن في حاجة لإحيائها على أساس الزواج الميسر المبسط الذي نعكف على دراسة صيغة جديدة له نرجو أن تيسر وتبسط الزواج.

هذا الإصلاح واجب ديني، ووطني، بل إنساني.

فالزواج ليس شيئا كماليا في الحياة، إنه أحد مسببات بقائها لأن التكاثر خارج الرباط الشرعي باب لمفاسد فردية واجتماعية لا أول لها ولا آخر، ولذلك كان رسول  الله (ص) يحث على الزواج ويحببه إلى الشباب.  روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ eَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ eَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ e إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا !! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)، وروى الطبرسي في مكارم الأخلاق أن رسول الله e قال: (يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، وروى الترمذي وابن ماجة عن رسول الله e قوله (تزوجوا فإني مكاثر بكم يوم القيامة)، وروى كل أهل السنن إلا النسائي حديثا عن أبي هريرة أن رسول الله e قال:  “ثلاثة حق على الله عز وجل عونهم: المكاتب يريد الأداء، والمتزوج يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله”.

وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[5] ، أن النبي e قال: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة»  ورواية الترمذي مائة مرة. إن الاستغفار سيد الدعاء والدعاء مخ العبادة، استغفروا الله.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.

الجهاد ذروة سنام الإسلام وهو ماض إلى قيام الساعة.

والجهاد يبدأ بجهاد النفس لحملها على الجادة وهو ما سماه النبي e الجهاد الأكبر. والجهاد هو بذل الجهد لتكون كلمة الله هي العليا بالوسائل المدنية وبلا عنف ولا يوجب القتال إلا دفاعا عن النفس أو دفاعا عن حرية العقيدة قال تعالى : )أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[6] وقال: “وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”[7] . والمبرر الأساسي الذي شرحه القرآن لتصدي المسلمين للقتال جاء في قوله تعالى: )أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا إيمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ اتخشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين[ [8]  وهذا النهج الرباني هوالذي جعل النبي محمد e يحقق أهم انجازاته عن طريق مدني خال من العنف أهم تلك الإنجازات أنه e أقام الدولة في المدينة سلميا، واستمال قبائل الجزيرة العربية للدعوة في عامي صلح الحديبية سلميا، وفتح مكة سلميا.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.

الإسلام اليوم يتمدد في أوربا وفي أمريكا رغم ضعف المسلمين سلميا. وفي تركيا يتمدد البعث الإسلامي ويهزم الفكر النافي للدين سلميا. هنالك حركات إسلامية مدنية في تركيا وفي ماليزيا وغيرها من البلدان انتصرت للإسلام بأساليب سلمية، ومدنية، وديمقراطية. وهذه اهتمت بالخدمات الاجتماعية وبالإصلاح وبالأساليب الديمقراطية فقدمت تجارب ناجحة لبلدانها وناجحة في خدمة الإسلام.

وفي مجال آخر فإن حزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، قدما تجربتين إسلاميتين حققتا خدمات اجتماعية لشعبيهما، ومقاومة للاحتلال، وتمددا سياسيا ديمقراطيا.

ولكن كل التجارب التي حاول أصحابها ربط الإسلام بالعنف في الاستيلاء على السلطة، أو دعم السلطة المستبدة، أو في الاحتجاج بالعنف العشوائي هؤلاء أضروا بالإسلام إذ ربطوا اسمه بالاستبداد في الحكم أو بالإرهاب في المعارضة.

هذا هو حال التجربة السودانية التي زعم أهلها أنهم دبروا الانقلاب من أجل تطبيق الشريعة. كل الذين حاولوا تطبيق برنامج فكري عن طريق الانقلاب العسكري حصدوا تجربة مرة حدث هذا للانقلابين البعثيين وللانقلابين الإسلاميين.

نتيجة اخفاقات التجربة السودانية أن البلاد تتجه للتشظي والتدويل. هذا مصير قاتم للوطن ولا تجدي معه المغالطة، ولا الاستنجاد بالغير بل المطلوب أن يتراضى أهل السودان على ثوابت ومبادئ يعلنون الالتزام بها جميعا وهي:

الثوابت الدينية هي:

  1. حرية العقيدة والضمير.
  2. التزام قطعيات الشريعة.
  3. التسامح في الاختلافات الاجتهادية.
  4. التعايش السلمي بين الأديان.
  5. احترام التعددية الثقافية.

الثوابت الوطنية:

  1. الالتزام بسيادة الوطن ووحدته وسلامة أراضيه.
  2. كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة.
  3. نبذ العنف في سبيل تحقيق المقاصد السياسية.
  4. نبذ التناصر بالأجنبي في سبيل التنافس السياسي.
  5. الالتزام بالسلام العادل.

مبادئ السلام العادل هي:

  1. الوحدة الطوعية “تقرير المصير”.
  2. تأسيس التراضي الوطني على المشاركة العادلة في الثروة- والسلطة- ومؤسسات الدولة النظامية والمدنية.
  3. اللامركزية- الفدرالية.
  4. نبذ العنف ونبذ العصبيات الإقصائية.
  5. حسن الجوار مع كافة جيران السودان.

مبادئ الحكم الراشد هي:

  1. إقامة الحكم على المشاركة- والمساءلة- والشفافية- وسيادة حكم القانون.
  2. حسم الخلافات السياسية عن طريق التنافس الانتخابي الحر.
  3. التناوب السلمي على السلطة عبر الانتخابات العامة.
  4. تحقيق التوازن الجهوي، والديني، والثقافي والاجتماعي والتنموي.
  5. نبذ الخطط الانتقامية والتعامل مع حزازات الماضي على أساس التفاوض والمصارحة والمصالحة.

أما في ما عدا هذه الثوابت من قضايا تفصيلية فينبغي أن يتفق السودانيون جميعا على لقاء جامع لتطوير اتفاقيات السلام ليصير السلام شاملا وعادلا باذلا لكل ذي حق حقه.

وفي ظل هذا السلام العادل الشامل تنظم انتخابات عامة حرة نزيهة احتكاما للشعب وتمكينا له لحسم مسألة السلطة وتسليمها لمن ينتخبهم.

هذا تطبيق مناسب لظروفنا للمبدأ الرباني: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[ [9].

نعم أزماتنا كثيرة والمتربصون ببلادنا كثيرون ولكن مع الأزمة دائما فرصة لذلك قيل

اشتدي أزمة تنفرجي.

قال النبي e: “إن لربكم في دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها”. (إن اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[10]

قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

 

[1]   سورة السجدة الآية 9.

[2]  سورة الإسراء، الآية 77

[3]  سورة النساء الآية 1

[4]  سورة الروم الآية 21

[5] سورة محمد الآية 19

[6] سورة الحج الآية 39

[7]  سورة البقرة الآية 190.

[8]  سورة التوبة الآية 13

[9] سورة الشورى الآية 38

[10]  سورة النحل الآية 90.