خطبة عيد الفطر المبارك 1 أكتوبر 2008م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة عيد الفطر المبارك

غرة شوال 1429هـ- غرة أكتوبر 2008م

الخطبة الأولى

الله اكبر الله أكبر الله أكبر

اللهُمَّ إنِّي أحْمَدُكَ وأُثْنِي لَكَ الحَمْدَ يَا جَلِيلَ الذَاتِ ويَا عَظِيمَ الكَرَمِ، وأَشْكُرُكَ شُكْرَ عَبْدٍ مُعْتَرِفٍ بِتَقْصِيْرِهِ فِي طَاعَتِكَ يَا ذَا الإِحْسَانِ والنِعَمِ، وأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِحَمْدِكَ القَدِيْمِ أَنْ تُصَلِّيَ وتُسَلِّمَ عَلَى نَبِيِّكَ الكَرِيْمِ وعَلَى آلِهِ ذَوِيْ القَلْبِ السَلِيْمِ، وأَنْ تُعْلِيَ لَنَا فِي رِضَائِكَ الهِمَمَ، وأَنْ تَغْفِرَ لَنَا جَمِيْعَ مَا اقْتَرَفْنَاهُ مِنَ الذَنْبِ والّلمَمِ، وبعد،

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

قال تعالى: (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ)[1]. ديننا هو ملة الوحي والعقل. لا أقبل أن الله الذي وهبنا العقل وسائر الملكات الإنسانية أراد لنا أن نعطلها. بل أقول أن تعطيلها هو قدح في حكمة المولى سبحانه وتعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ)[2].

نصوم وللصوم وظيفة روحية لما فيه من صمدية، ووظيفة تربوية لما فيه من مصابرة، ووظيفة صحية لما فيه من تمرين للجهاز الهضمي، ووظيفة اجتماعية لما فيه من تواصل، ووظيفة تكافلية لما فيه من تعاطف مع المحرومين.

ونخرج زكاة الفطر وهي الآن خمسة جنيهات عن كل فرد منا ولهذه الصدقة وظيفة تطهيرية تمسح المخالفات، ووظيفة اجتماعية بسد حاجة المستضعفين.

نحفل بالعيد وللعيد وظيفة نفسية كسرا للمعتاد وجلبا للبهجة وجمعا للأجيال من جد وأب وحفيد وجدة وأم وحفيدة في برنامج احتفالي واحد. وللعيد وظيفة تجديدية بما فيه من حث على التعافي وترميم السبيكة الاجتماعية.

ونحشد جماعة لصلاة العيد صلاة لها وظيفة روحية إرشادية، ووظيفة تعبوية تظهر حماسة المؤمنين وتشرك الكافة حتى الحيَّض من النساء يشهدون الخير ودعاء المسلمين.

إن لشعائر الإسلام مقاصد كما أنها تنبع من نوايا ” ‏إِنَّمَا الْأَعْمَالُ ‏ ‏بِالنِّيَّاتِ ‏ ‏وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”[3].

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ)[4]. سلسلة النبوة التي ختمت بمحمد (ص) سلسلة متماسكة الحلقات. وصحيح دخل في التوراة والأناجيل شبهات لأنها مدونات بشرية بعد وفاة من أوحيت إليهم من الأنبياء ولكن مع ذلك يصدق فيها ما جاء في القرآن: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ[5]).

جاء في التوراة أن الله قال مخاطبا الإسرائيليين: سأرسل نبيا من أخوتكم مثل موسى وسأضع كلماتي في فمه (سفر التثنية 18/18). وجاء أن الله قال لإبراهيم عليه السلام: “وأما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وها أنذا أباركه وأنميه وأكثره، ويلد اثنا عشر رئيسا وأجعله أمة عظيمة” (سفر التكوين17/20).. هذه الأوصاف تنطبق تماما على محمد (ص) حفيد إسماعيل عليه السلام.

وجاء في الإنجيل أن عيسى قال: إن نبيا سوف يأتي بعده  (إنجيل يوحنا 16/17)، وقال: إن الذي سيأتي بعده هذا لن ينطق عن نفسه بل يردد ما يسمع (إنجيل يوحنا 16/13)، وقال: سوف أصلي للرب ليرسل لكم معزيا آخر بعدي ليبقى معكم دائما (إنجيل يوحنا 14/16).. هذه الأوصاف تنطبق على النبي محمد (ص) وديمومة البقاء معناها بقاء تعاليمه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[6].

صحيح توجد اختلافات حول تفسير نصوص التوراة والأناجيل عند أهل الكتاب، ولكن المرحوم أحمد ديدات في كتابه المسمى “الاختيار” قدم حججا لا ترد بأن المقصود في التوراة والأناجيل هو محمد (ص).

قال عيسى عليه السلام لتمييز الرسالة الصادقة: بثمارها تعرفونها. رسالة محمد (ص) تسعف الإنسانية في سبع قضايا أساسية لتنوير وتحرير البشرية هي:

  • تأكيد وحدة الأديان في الغيبيات وكفالة الحرية.
  • إقرار أن للمعرفة الإنسانية أربع وسائل: الوحي، الإلهام، العقل، والتجربة؛ وأنها تتكامل ولا تتناقض.
  • أن لمكارم الأخلاق ثلاثة أسس موضوعية هي المعاملة بالمثل، والعرف، والإيثار.
  • القول بالإخاء الإنساني المطلق فالإنسان مكرم من حيث هو.
  • اعتبار العدل أساسا للمعاملات بين الناس.
  • الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية.
  • التطلع لمصير إنساني مشترك.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ)[7]. الدعوة الإسلامية انطلقت كالشهاب وأقامت دينا عالميا ودولا عظمى وحضارة، ولقحت حضارات كبرى ثم تعرضت الأمة لعاملين: الأول هو تحول الحكم إلى ملك عضود يقوم على منطق القوة، والثاني هو تحول الاجتهاد إلى تقليد يقوم على إتباع لا لحقائق التنزيل وحدها، ولكن لاستنتاجات صاغها البشر. هذان العاملان الاستبداد والركود دمرا حيوية الأمة وجعلاها قابلة للغزو فغزتها الدول الأوربية الاستعمارية وأخضعتها بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة باختراق الدولة العثمانية. لذلك ومنذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي تعددت حركات التجديد والتحرير والتطلع لوحدة الأمة.

إن الظروف الاستثنائية التي لم يشهد المسلمون قبلها مثلها على نحو ما عبر القائل:

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد   وجدته كالطير مقصوصا جناحاه

الظروف الاستثنائية هذه أوجبت حركة استثنائية. وعلى حد تعبير الشيخ أحمد العوام أحد قادة الثورة العرابية فإن الدعوة المهدية لبت هذا النداء وصارت دعوة على حد تعبير الدكتور عبد الودود شلبي تجسدت فيها كل تطلعات أهل القبلة في زمانها.

كل المسلمين يتطلعون لمهدي يأتي في آخر الزمان كما يعتقد كثير من أهل السنة، أو هو الإمام محمد الحسن العسكري الذي غاب منذ 256هـ ويرجى أن يعود مرة أخرى كما يعتقد كثير من أهل الشيعة، ولكل حجته. ولكن الحاجة كانت ماسة للخلاص من قيود التقليد، والقضاء على محابس الاستبداد، والتحرر من التسلط الأجنبي مما أوجب قيام دعوة تلبي هذه المطالب. فعندما أقدم داعية واستجاب لخطاب غيبي صدقه تجاوب معه الشارع السياسي الإسلامي في السودان وأماكن كثيرة.

مبادئ هذه الدعوة أسعفت الأمة في أربعة مجالات هامة:

الأول: الالتزام بقطعيات الوحي في الكتاب والسنة والتحرر من التقليد المميت للحركة على أساس أن لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.

الثاني: التحرر من الاستبداد واتخاذ قيادة يتولاها من يتقلد بقلائد الدين وتميل إليه قلوب المسلمين.

الثالث: التحرر من الاستعمار وطرد الدخيل.

الرابع: تجاوز الخلافات حول التوقيتات والأنساب في أمر المهدية، وتلبية الحاجة الاستثنائية لإصلاح استثنائي.

ليحتفظ من شاء بعقائده في المهدية. ولكن مصلحة الإسلام والمسلمين أوجبت تلبية فورية لتحقيق تطلعات الأمة. تلبية فورية لوظيفة المهدية، وقد كان.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

قال تعالى: (وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)[8].

ما أشبه اليوم بالبارحة! أمتنا اليوم مفرقة مذاهب وفرقا يقيدها التقليد لنصوص  باعتبارها جوهر الدين مع أنها اجتهادات بشرية، ويسوسها غالبا حكام يمارسون على شعوبها إرادة الفرد المطلقة، ودولها في الغالب تعاني من التسلط الأجنبي الذي يمارس نفوذه بصورة غير مباشرة حينا وبصورة مباشرة بالاستيطان والاحتلال أحيانا.

هذا الواقع الظالم الأليم أفرز في مقاومته فصائل من الغلاة يسعون لهدم الواقع الحالي لإقامة بديل ماضوي يدفن الأمة في ماضيها وبأساليب عنف عشوائي غير مقيد بأهداف الجهاد الإسلامي ولا بوسائله.

لذلك صارت الحاجة ماسة لمشروع نهضوي إسلامي يقوم فكريا على التوفيق بين التأصيل والتحديث، وسياسيا على الحكم الراشد الذي يكفل المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون، وحرية الأديان، والمساواة في حقوق المواطنة، ويقوم اقتصاديا على التنمية والعدالة الاجتماعية ويقوم في سياسته الدولية على التحرر من الثلاثي المقيت: الاستيطان، والاحتلال، والاستغلال ويلتزم بالسلام العادل والتعاون الدوليين.

هذه هي معالم الوسطية العالمية الإسلامية الصالحة لتحقيق الوفاق بين أهم أقسام الأمة الثلاثة: أهل السنة، والشيعة، والصوفية.

لقد اندلعت الفتنة فعلا في كثير من الأقطار الإسلامية وصارت خلافات الفرق مدخلا يراهن أعداء الأمة علي استغلاله لأغراضهم لذلك صارت الحاجة ملحة للاتفاق على:

  • بيان ما يجمعنا من كتاب واحد ورسول واحد تلزمنا جمعيا قطعياتهما.
  • تحديد المتفق عليه من أساس الحكم الراشد والاقتصاد، والعلاقات الخارجية.
  • اعتراف متبادل بالمذاهب السنية الأربعة ومذهبا الشيعة، والمذهب الاباضي والالتزام بالتعايش بينها كخيارات اجتهادية لا تلزم غير أصحابها والاجتهاد فيها وفيما ورائها مفتوح.
  • سوف تستمر اختلافات حول الإمامة وحول المهدية اختلافات يجري التعايش معها مع اعتماد برنامج الإصلاح المشترك تلبية للحاجة الملحة للإصلاح.
  • السماح لكل فرقة ومذهب بالدعوة لصالحه. على أن يلتزموا جميعا بالآتي:
    • الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
    • أن تكون الدعوات المتبادلة للفرق والمذاهب عن طريق مؤسسات أهلية لا رسمية.
    • نبذ السب الأموي والصفوي للسلف من الصحابة.

قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[9]

أحبابي أسالوا الله من فضله إنه بنا لطيف ولنا غفور رحيم:

يا عظيم الذنب عفو الله  عن ذنبك أكبر

أكبر الأخطاء في أصغر عفو الله تصغر

 

 

الخطبة الثانية

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر

 الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. قال تعالي: (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ[10]).

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

النظام الذي قام في 30 يونيو 1989م مر بعدد من المراحل.  في المرحلة الأولي كان نظاماً أحاديا مستمدا فكره وأفراده من برنامج وكوادر حزب سياسي واحد مما خلق:

  • استقطابا حاداً في البلاد بينه وبين القوي السياسية الأخرى.
  • تعميقا حاداً للحرب الأهلية في الجنوب بإعطائها طابعا دينياً.
  • استعداءً لدول الجوار التي يزعزع أمنها القومي وجود نظام في الخرطوم ذي أجندة دينية لأن شعوبها متعددة الأديان.
  • تحالفا دوليا مضاداً له متعدد الأسباب منها التأهب لحماية المسيحيين، ومنها الخوف على استقرار أصدقائهم من دول الجوار، ومنها الخوف من رعاية الإرهاب.

كل هؤلاء الذين استعداهم النظام ومن المنطلقات المختلفة تحالفوا ضد النظام الجديد. وكان أقوي تعبير عن هذا التحالف الجديد مؤتمر اسمرا في يونيو 1995م. قرر هذا المؤتمر قرارات مصيرية أهمها:

  • أن أزمة السودان لا توصف بأنها شمالية جنوبية بل قومية.
  • أنه فيما يتعلق بالعدل في المشاركة في السلطة واقتسام الثروة، واللامركزية في حكم البلاد وإدارتها، والمطالبة بقومية مؤسسات الدولة، وضرورة الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية، والمطالبة بالحريات العامة فإن كافة أقاليم السودان تنادي بمطالب مشتركة وتتطلع لعدالة تقوم على مقاييس موضوعية واضحة.
  • أن هناك عوامل موضوعية تبرر أن يكون لأهل الجنوب الحق في تقرير المصير كأساس للوحدة الطوعية أو الكنفدرالية، أو الانفصال.
  • أن هذه الحلول ينبغي أن تصدر من مؤتمر قومي دستوري يمنحها الشرعية المطلوبة.

وسطاء الإيقاد وهم دول الجوار السوداني جنوباً، وشركاء لإيقاد وهم دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وكندا، واليابان لم يؤيدوا هذا الرؤية السودانية القائمة على تشخيص صحيح لأزمات السودان وعلى إستراتيجية قومية لحلها بل اندفعوا بتوسطهم في اتجاه ثنائي بين حكومة السودان والحركة الشعبية. توجه صادف هوى الحزبين. وبعد تفاوض طويل أبرم الحزبان المتفاوضان اتفاقية نيفاشا في يناير2005م برعاية ومباركة الوسطاء المجاورين والدوليين وسموها تمنيا اتفاقية السلام الشامل. أبرمت الاتفاقية في وقت فيه يدور الاقتتال حاميا في دارفور ومؤجلا في شرق السودان.

وتأكيدا لخطأ افتراضات نيفاشا تطورت أزمة دارفور بصورة فاقت في آثارها السياسية داخليا، والخارجية دوليا كافة أزمات السودان السابقة لها واللاحقة. ومع ذلك وإمعانا في نهج التمني قرر الجانب الحكومي السوداني بدعم من الوسطاء الأفارقة والأجانب أن مشكلة دارفور يجب أن تحل تحت سقوف اتفاقية نيفاشا الثنائية. وبصورة مدهشة عملوا على الآتي:

أولاً: أن تقبل كل القوي السياسية كافة بنود اتفاقية نيفاشا التي لم تشارك فيها فإن هي لم تفعل ذلك تفقد شرعيتها وتحرم من المشاركة السياسية والانتخابية.

ثانياً: إبرام اتفاقية أبوجا دون مساس بترتيبات نيفاشا وسموها اتفاقية سلام دارفور في مايو 2006م، فجاءت بعيدة عن الاستجابة لمتطلبات أهل دارفور.

ثالثاً: إبرام اتفاقية اسمرا مع جبهة الشرق وسميت اتفاقية شرق السودان في أكتوبر 2006م

من ناحيتنا وجهنا نقدا موضوعياً لاتفاقية نيفاشا لا من حيث ما حققت من مكاسب للجنوب فهذه برمتها مستمدة من قرارات أسمرا 1995م التي شاركنا في تصميمها. ولكن من حيث:

  • أنها تراخت في موضوع التحول الديمقراطي.
  • أنها قسمت المنافع على حزبين وادعت أن هذا هو السلام الشامل فقفلت الباب أمام أية تسويات لاحقة مع جهات مستحقة.
  • أنها انطوت على تناقضات كادعاء الشمول مع استمرار هيكلها الثنائي.
  • أنها بموجب صياغات حمالة أوجه اقترحها الوسطاء اشتملت على بنود تحمل أكثر من معني.
  • أنها ركزت على التقاسم وأهملت قضايا كثيرة كانت وستظل مصدراً للنزاع مثل العلاقة بين الأديان، والعلاقة بين الثقافات، والمساءلة عن تجاوزات الماضي، والعلاقات الخارجية، والمياه، وغيرها.

وقدمنا نقدا موضوعيا كذلك لاتفاقيتي أبوجا واسمرا.

ولكن انتقاداتنا مع أنها يعلم الله توخت الموضوعية والمصلحة الوطنية أهملت تماما وغيبنا عمداً كما غيبت قوي كثيرة في شمال البلاد وفي جنوبها. ومع ذلك صارت اتفاقيات السلام هذه أساس النظام السياسي، والدستوري، والإداري لحكم السودان تمارسه حكومة سميت حكومة الوحدة الوطنية.

وبعد مرور ثلاثة أعوام وزيادة على اتفاقية نيفاشا، وعامان على اتفاقيتي أبوجا واسمرا ظهرت الحقائق الآتية:

أولاً: أن أغلب العيوب التي ذكرناها ظهرت في الواقع وسببت أزمات متلاحقة.

ثانياً: أن المواعيد المحددة بموجب الاتفاقية والدستور أخلفت.

ثالثاً: أن فجوة الثقة بين أطراف الاتفاقية زادت اتساعا وصار الطرفان يستعينان ضد بعضهما بعضا بعناصر داخلية وخارجية.

رابعاً: أن اتفاقيتي أبوجا واسمرا صارتا جزءا من المشكلة لا سبيلا للحل.

هكذا لم يعد أحد يدعي أن اتفاقيات السلام حققت السلام العادل الشامل، ولا الاستقرار الوطني المنشود، ولا التحول الديمقراطي المطلوب.

ونتيجة لاتصالات واسعة وحوارات ولد مشروع التراضي الوطني في 20مايو 2008م.

مشروع التراضي الوطني حدد بعض القضايا وهي: دارفور ـ الحريات ـ مراجعة الاتفاقيات ـ الانتخابات الحرة النزيهة لتكون أجندات لملتقي سوداني جامع لا يستثني منه أحد لنقل حلول الأزمات السودانية من الثنائية إلى القومية، ومن الحضانة الأجنبية إلى الحضانة السودانية.

وقبل تنفيذ مشروع التراضي الوطني أقدم مدعي المحكمة الجنائية الدولية على طلب للمحكمة لاعتقال رأس الدولة السوداني لاتهامه بطائفة من الجنايات.

هذا المطلب لم تؤيده المحكمة بعد والاحتمال أن تفعل ولكن قبل تأييده خلق استقطابا داخليا وخارجيا حوله.

الموقف الداخلي منقسم لثلاثة أقسام هي:

  • موقف المؤتمر الوطني وحلفائه الذين يرون أن المحكمة ليس لها اختصاص في السودان وأن القضاء السوداني كفيل سياديا بتحقيق العدالة في البلاد.
  • موقف مضاد تماما يؤيد اختصاص المحكمة والامتثال لما تقرر.
  • موقفنا نحن الذي أيد قرار مجلس الأمن 1593، والذي يري أن المحكمة الجنائية الدولية تطور إيجابي في القانون الدولي يجب الحرص عليه للحيلولة دون الإفلات من العقوبة، وأن الجهاز العدالي السوداني غير مؤهل لهذا النوع من المساءلة لأن إجراءات التطهير السياسي نالت من استقلاله، ولأن القوانين السودانية لا توجد فيها نصوص تعاقب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كما في القانون الدولي، وأن قوانين السودان تمنح الحصانة لكافة المسئولين السودانيين. ومع ذلك فإن قرار اعتقال رأس الدولة سوف يقاوم ويفتح بابا كبيرا للتنازع، وإن ترتيبات اتفاقية السلام القائمة أصلا على ثنائية حزبية سوف تتفكك، وإن أسس الوجود الدولي والدبلوماسي في السودان سوف تنهار. وإن أرواح مئات الألوف من نازحي دارفور بالمعسكرات الذين يعتمدون على الإغاثات الأجنبية في توفير الغذاء والعلاج يتهددها الخطر. لذلك ينبغي إيجاد معادلة بين عدم الإفلات من العقوبة أي المساءلة وبين الاستقرار المنشود. معادلة بين وجهين من العدالة: العدالة العقابية والعدالة المحرية.

صارت الحاجة لاتفاق وطني حول هذه القضية ملحة وملحقة بالقضايا الأخرى التي سوف يتناولها الملتقي الوطني الجامع.

ما زالت بعض الأطراف السودانية مشدودة لتناول أحادي أو ثنائي للأزمات الوطنية وما زالت بعض الأطراف السودانية تتبضع حل مشاكلنا في أركان العالم الأربعة.

ولكن صدقوني الدروب الأحادية والثنائية هي التي أوصلتنا لما نحن فيه وفاقد الشيء لا يعطيه. والرافع الخارجي مهما حسنت نواياه ينقصه التشخيص الصحيح للمشاكل وتنقصه حتما الإحاطة الإستراتيجية للحل.

نحن نرحب بالرافع الخارجي العربي، والأفريقي، والدولي لا سيما في ظروفنا الحالية التي وجدوا فيها موطئ قدم كبيرة في الشأن السوداني، ولكن هذا الرافع مجدٍ كمساعد للجهد السوداني لا كبديلٍ له:

وذي علة يأتي عليلا ليشتفي      به وهو جار للمسيح بن مريم!

وكأن ما فينا لا يكفينا، فإن مشاكل أخري تلوح في الأفق أهمها تأخير الإجراءات المطلوبة لإجراء الانتخابات في موعدها وأثر ذلك، وتدهور الأحوال الأمنية في جنوب البلاد وفي غربها باستمرار. تدهور أمني بعضه يعود لاحتراب قبلي يتجدد باستمرار. ونحن إذ نناشد أهلنا جميعاً في غرب البلاد وفي جنوبها الامتناع عن الفتن القبلية والتصالح نري أن المشكلة صارت جزءا من التدهور الأمني العام.

لقد بح صوتنا في الحديث عن الحالة الاقتصادية وما توجبه من إصلاح سياسات الاقتصاد الكلي، وضبط الميزانية من حيث التسيب الضرائبي والصرف المترهل، وإصلاح القطاع النفطي، ومحاربة الفساد، والتوفيق بين المشروعات الاستثمارية وحقوق المواطنين المتأثرين بها وما يتطلب ذلك من عقد مؤتمر قومي اقتصادي لإصلاح الاقتصاد الوطني. وأضيف: إن أسعار السلع ارتفعت ارتفاعا جعل الحالة المعيشية جحيما لا يطاق ارتفاعا تكمن وراءه أسباب داخلية وأخرى خارجية، ويتطلب مؤتمرا متخصصا للأمن الغذائي يشخص الحالة ويضع إستراتيجية قومية للإصلاح.

وأجد نفسي محتارا كيف لا نقدم بالسرعة والجدية المطلوبة على الملتقي الجامع الذي يخاطب هذه الأزمات من رؤية وطنية شاملة؟ وكيف يتصرف بعض الناس دون إحساس بالخطر المحيط بالبلاد وكأن الأمور اعتيادية يدقون الطبول لمنافسات حزبية بينما سفينة الوطن قاب قوسين أو أدنى من جبل الجليد؟

وكيف تنام الطير في وكناتها     وقد نصبت للفرقدين الحبائل؟

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).[11]

هنالك تدبير ضد المسجد الأقصى وضد القدس وهنالك حصار جائر لشعب مظلوم في غزة.

وهنالك خلاف حول الملف النووي الإيراني يوشك أن يؤدي لحرب جديدة.

ينبغي أن تتحد أمتنا لحماية الأقصى والقدس ولإنقاذ شعب غزة من الحصار وللحيلولة دون حرب جديدة على أساس واضح: لا لأسلحة دمار شامل في منطقة الخليج ولا لحجر المعرفة النووية عن أية دولة ولا لازدواجية المعايير التي تسمح لدولة توسعية- إسرائيل- أن تمارس الابتزاز النووي ضد الأخرى.

توشك الولايات المتحدة على اختيار رئيس جديد والمرشحان يتحدثان عن ضرورة التغيير. على أمتنا أن تقول لهما بوضوح لا يمكن أن تكون كل مصالحكم مع العرب والمسلمين وكل مواقفكم مع إسرائيل. ينبغي أن تقوم العلاقة بيننا على أساس المصالح المشروعة المتبادلة.

أما نحن في السودان فإن كل هذا الجري وراء تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة لا يجدي ما لم نزل الأسباب الموضوعية التي عبأت لوبيات أمريكية ضد بلادنا فاستغلوها لدعم أجندات خفية ولنصرة فريق سوداني على فريق. نزيل الأسباب الموضوعية وبشجاعة تامة نحدد الأسس العادلة المطلوبة لعلاقة سوية وإلا فلا. فالعالم اليوم يخرج من عباءة الأحادية الدولية. والأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية الحالية أضعفتها في كل المجالات ولا سيما التردي المالي والاقتصادي.

الإخفاق الأمريكي، والتعددية الدولية القادمة، واستعداد بعض العناصر الأمريكية الهامة للإقدام على التغيير أنباء سارة إذا نحن أقدمنا على إزالة عيوبنا الذاتية التي تستغل ضدنا وتحديد شروطنا العادلة للعلاقة.

ختاما: أقول إن أفضل ما في الموقف السياسي السوداني الآن هو أن كافة القوى السياسية على وصال مع بعضها وإن مبدأ تداول الأمر الوطني بصورة جامعة لا يستثني أحدا مقبول للكافة لم يبق إلا التخلص من تليُّف الإرادة السياسية والإقدام على سبيل الصلاح والنجاح والفلاح.

أبشركم باستمرار نشاط حزب الأمة في مؤتمراته الولائية والنوعية وورشات العمل الفكرية تحضيرا للمؤتمر العام. وبما حققت هيئة شئون الأنصار من أنشطة الدعوة والإرشاد والخدمات الاجتماعية.

أرحب بالذين عادوا لحزبهم بعد فترة الجفوة. وأناشد الآخرين الذين جمّدوا نشاطهم والذين اتخذوا خيارات أخرى: إن الظرف الوطني الحرج الحالي يحتاج لتكاتف الجميع، وإذا تخلوا عن أية تنظيمات أخرى والتزموا بالمؤسسة فحزبهم أولى بهم. إن وطنكم يناديكم وحزبكم يناديكم فهلموا لتلبية النداء.

ختاما رحم الله موتانا هذا العام وأخص بالذكر الحبيبة سارا فقد كانت خير معين لكياننا ومجاهداته في سبيل الدين والوطن، ورحم شهداءنا وعجل بشفاء مرضانا وتقبل صيامنا وقيامنا ووفقنا للتعافي والتصافي وأقال عثرات بلادنا آمين.

 

السلام عليكم ورحمة الله

الهوامش

 

 

[1] سورة محمد الآية 14

[2] سورة الأعراف الآية 179

[3] رواه البخاري وأبو داؤد من حديث  رسول الله (ص) عن عمر بن الخطاب  (رض)

[4] سورة الشورى الآية 13

[5] سورة الأعراف الآية 157

[6] سورة الحجر الآية 9

[7] سورة آل عمران الآية 104

[8] سورة لقمان الآية 14

[9] سورة البقرة الآية 186

[10] سورة يوسف الآية 108

[11]  سورة الممتحنة الآية (8)