ذكرى استقلال السودان الأول 26 يناير 1885م- 2002م والثاني أول يناير 1956- 2002م

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرى استقلال السودان الأول 26 يناير 1885م- 2002م

والثاني أول يناير 1956- 2002م

خطاب رئيس حزب الأمة

 

أبناء وبنات السودان الحبيب

نشكركم على تلبية دعوتنا لهذه الذكرى التي نتخذها مناسبة لوقفة صريحة مع الذات، وتجديد للعزيمة الوطنية. أحلق معكم حول هذين المقصدين عبر سبع نقاط هي:

أولا: الدولة المستقلة في السودان ظاهرة تاريخية عريقة. ولكن السودان في تاريخه الطويل استعمر مرارا. استقل السودان من الاستعمار في تاريخه الحديث مرتين. الأولى في 26 يناير 1885م والثانية في أول يناير 1956م. لقد تطلع أهل السودان للاستقلال وسيلة للتأصيل الحضاري، والثقافي، ووسيلة للتنمية، والرخاء. ولكننا بعد قرن ونيف من الاستقلال الأول، وبعد نصف قرن إلا قليلا من الاستقلال الثاني، نعاني حالة من الإحباط المعنوي، والفقر المادي، لو رأيناها في المنام فزعنا‍‍‍‍‍‍‍‍!.

ما الذي هبط بتطلعاتنا التي كانت تشق عنان السماء استبشارا بالاستقلال عبر عنها شاعرنا:

 

جيل العطاء لعزمنا

حتما يذل المستحيل وننتصر

وسنبدع الدنيا الجديدة

وفق ما نهوى

ونحمل عبء أن نبني الحياة ونبتكر

 

إلى حالة من الإحباط عقودا في ظل الاستقلال عبر عنها نفس الشاعر بقوله:

ولكن ها هي الوعول

تأوي إلى شعب الجبل

مقطوعة الأنفاس

وتحت البيرق الأبيض

تنتظر رصاصة الرحمة!!

 

إليكم الجواب:

الاستقلال الأول حققته الثورة المهدية التي:

  • جسدت إرادة الصمود ضد هجمة الاستعمار في القرن التاسع عشر حين تعاظم التكالب الاستعماري.الثورة التي اعتبرها صاحب العروة الوثقى –مجلة الضمير الإسلامي في ذلك الوقت- هبة الشرق في وجه الاستعمار.
  • ومثلت كل حركات الإصلاح الإسلامي في عصرها على حد تعبير د. عبد الودود شلبي العالم المصري.
  • وأكملت حلقات الالتزام الإسلامي في السودان. فقد كان الالتزام الإسلامي في السودان راسخا. ولكنه كان معنيا بالجوانب العبادية والتربوية والاجتماعية، فأكملته بالجهاد وإقامة الدولة.
  • وأيقظت الدعوة المهدية حالة إسلامية راكدة كبلها الركون للتقليد بالدعوة للاجتهاد والحركة في العزيمة والفقه وفق مقولة: لكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال.
  • الحركة المهدية حولت السودان من مجرد مستقبل للمبادرات السياسية إلى مسرح لصناعتها. وجمعت أهل السودان حول عمل مشترك تجاوز حدود الطريقة والقبيلة. ووحدت أقاليم البلاد في حوض النيل وفي الغرب. وصنعت بطولات لقادة من أبناء وبنات السودان. وصنعت للسودان صيتا سار به الركبان في أركان المعمورة. وعبأت أهل السودان ضد التسلط الأجنبي. بهذه الأعمال غرست المهدية بذرة الوطنية السودانية.

كان سودان المهدية في آن واحد:

  • أنموذج الثورة الشعبية المسلحة لكل الشعوب المستضعفة في الأرض.
  • وقدوة المتطلعين للبعث الإسلامي.
  • والمحرك لآمال الشعوب في التحرر الوطني من قبضة المستعمرين.

ثانيا: إن ما أنجزته الدعوة والثورة المهدية كان عظيما. ولكنه إنجاز جانبته الاستدامة وعصفت به عوامل أهمها:

  • الاستعمار الحديث كان وليد الحداثة بما فيها من ثورة صناعية طورت أساليب الإنتاج، وثورة علمية طوعت قوى الطبيعة لإرادة الإنسان، وثورة سياسية حررت الشعوب من تحكم الطغاة، وثورة ثقافية نقلت البلدان الأوروبية من مجتمع القرون الوسطى الآسن إلى المجتمع الحديث الفوار بالحركة والدينامية. لذلك اكتسبت الدول الأوربية المستعمرة قدرات باهرة مكنتها من غزو وإخضاع العالم. صحيح أن يقال أن الغزو الاستعماري وجد مقاومة لا مثيل لها بسالة وبطولة من سودان المهدية ولكن النتيجة في النهاية كانت على حد تعبير ونستون تشرشرل: واجهناهم وصادمناهم فتصدوا لنا مسارعين، ما رأيناهم يتراجعون بل يقدمون، فحصدناهم بكفاءة سلاحنا الحديث.. دمرنا أجسادهم وقدراتهم المادية ولكننا لم نهزمهم!!.
  • الانقسام الداخلي الذي أضعف كيان المهدية. انقسام فرضته ظروف السودان الاجتماعية.. الظروف التي أوجبت أن تكون الخلافة لأصحاب “البركة” في الطرق الصوفية، ولأصحاب العصبية في العشائر القبلية. فالحزب الحاكم في دولة المهدية التفت حوله مفاهيم العصبية القبلية بينما حزب المعارضة التفت حوله مفاهيم البركة الرحمية ونشأ حولهما استقطاب أضعف الكيان الداخلي للدولة المهدية.
  • كانت الدعوة المهدية تواجه ضرورات تحرير البلاد، وتوحيدها، وبعث الإسلام فيها، والتأهب لاستنهاض همة غلابة لتحرير العالم الإسلامي وتوحيده. هذا التوجه جعلها تطلب التزاما أحاديا. أحادية استقطبت ضدها العناصر السودانية التي رفضت ذلك الالتزام فقامت من منطلقاتها الدينية والقبلية بمعارضة الدعوة والسلطة المهدية.

هذه العوامل الثلاثة هي المسئولة عن تقويض الاستقلال الأول وعن فتح الطريق لاستعمار البلاد في عام 1898م.

ثالثا: جدير بنا في يوم الذكرى هذا أن نتساءل: ماذا بقي من الاستقلال الأول بعد واقعة كرري؟ وماذا بقي منه ليمثل بذرة الاستقلال الثاني؟.

الدعوة المهدية وثورتها غرست في السودان غرسا بقي حيا في البلاد حتى بعد سقوط الدولة. في المقام الأول غرست الدعوة المهدية في السودان مناعة إسلامية. لذلك لم يستطع الاستعمار الثنائي وهو بريطاني القيادة أن يستخف بأمر الإسلام في السودان حتى بعد أن دمرت مدافعه الدولة المهدية. كانت السلطة الاستعمارية الجديدة بالغة الاحترام للهوية الإسلامية لا سيما في شمال السودان. تحترمها وتراعي مطالبها وتحظر التبشير المسيحي بين المسلمين. كان الاستعمار يفعل هذا كله لكيلا يشعل فتيل هبة إسلامية ضده تغذيها أنفاس المهدية الكامنة. وعندما نشأت الأحزاب السياسية الشعبية في السودان فإنها استلهمت المزاج الشعبي فنشأت ملفحة بهوية إسلامية.

وفي المقام الثاني فإن الدعوة المهدية جاءت بدعوة مهدية خلت من شروط المهدية في الفرق الشيعية، ومن توقيتات المهدية في الفرق السنية. وجعلت المهدية هي وظيفة إحياء الدين بلا شروط نسبية، ولا قيود توثيقية.. هذا إنجاز هام جدا للفكر الإسلامي لأنه ينقل عقيدة هامة هي عقيدة المهدية الشائعة في أوساط كثيرة شيعية وسنية إسلامية، من قيود تجعلها جامدة إلى انفتاح يجعلها متحركة.

في المقام الثالث فإن التجربة المهدية في السودان مع ما لحق بها من هدم الدولة أورثت أهلها بطولة الصمود. بطولة الصمود التي أسعفتهم في كل تجاربهم اللاحقة فأصبح تفوق العدو المادي يهدم الماديات ولكنه لا يمس الإرادة الصامدة بأذى. قال الشاعر مغنيا:

 

 

كرري تحدث عن رجال كالأسود الضاريـة

خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية

والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانيـــــــة

ما لان فرسان لنا بل فرّ جند الطاغيــــــة!!

 

هذه التمنيات الأسطورية ليست واقعية. الغزاة في كرري انتصروا ماديا ولكن المدافعين انتصروا معنويا: ما خروا، وما فروا، وما تراجعوا، وما استسلموا، وما هانوا حتى الشهادة.. هكذا أفنوا الأجساد الفانية ولكنهم أورثوا خلفهم إرادة الصمود.

وفي المقام الرابع فإن ما حققته المهدية من تحرير البلاد، وتوحيدها، وجعلها مسرح صناعة للأحداث لا مجرد تابع، وإبراز بطولات أبنائها وبناتها، وإعلاء صيتها بين الأمم أثمر كينونة وطنية تنامت لتصبح قاعدة للهوية الوطنية السودانية. هوية زودت حركة التحرر الوطني في البلاد وصارت مددا لاستقلال السودان الثاني.

رابعا: استقلال السودان الثاني في أول يناير 1956م استمد مقوماته من عدة مصادر أهمها:

  • أصداء المقاومة القبلية والأنصارية لسلطة الاستعمار. مقاومة ظهرت في عدة انتفاضات قادها عبد القادر ود حبوبة، الفكي السحيني، الفكي علي الميراوي، الفكي سنين وآخرون. هذه الانتفاضات خلقت تيار تحد للاستعمار.
  • حركة 1924م. هذه الحركة لم تكن استقلالية بل كانت الأب السياسي للحركة الاتحادية في السودان. لكنها شكلت تحديا للإنجليز. والإنجليز كانوا بالفعل السلطة الاستعمارية وإن كان الحكم اسميا ثنائيا. حركة 1924م وما صحبها من مواقف سياسية خلفت رأيا عاما سياسيا سودانيا رافضا للاستعمار.
  • حركة الخريجين وهي حركة من حلقات:
  • تكوين نادي الخريجين في عام 1920. هذا النادي والنوادي الشبيهة به والجمعيات الثقافية في أم درمان وود مدني وأهدافها جميعا ثقافية واجتماعية، لكنها ساهمت في تكوين الوعي بالذات في نطاق الخريجين. لذلك قفلت السلطة الاستعمارية نادي الخريجين ضمن الإجراءات القمعية التي اتخذتها بعد عام 1924م.
  • تكوين مؤتمر الخريجين العام في 1937م. هذا المؤتمر نقل الوعي بالذات في أوساط الخريجين خطوة إلى الأمام.وفي عام 1935 كانت صحيفة النيل –أم الصحف اليومية السودانية- قد كتبت مقالا طالبت فيه بتقرير المصير لأهل السودان. وفي عام 1942م تقدم مؤتمر الخريجين بمذكرته الشهيرة التي احتوت على 12 مطلبا هي:
    • تقرير المصير لأهل السودان.
    • اشتراك السودانيين في إجازة ميزانية الدولة.
    • تكوين مجلس أعلى للتعليم وتخصيص نسبة عالية من الميزانية للتعليم.
    • وقف الهجرة للسودان.
    • سن قانون الجنسية السودانية.
    • عدم تجديد عقد شركة الجزيرة (أي تأميم المشروع).
    • إعطاء أولوية للسودانيين في الوظائف.
    • تمكين السودانيين من الاستثمار الزراعي والتجاري.
    • إلزام الشركات بتوظيف السودانيين.
    • إلغاء قوانين المناطق المقفولة.
    • وقف الإعانات الرسمية لمدارس الإرساليات.
    • توحيد برامج التعليم في شمال السودان وجنوبه.
  • كفاح الشعب السوداني الذي قادته الأحزاب السياسية بعد تكوينها في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين: كانت الأحزاب السياسية تحالفات عريضة بين الكيانات الدينية، والقبائل، والخريجين. وانقسمت قسمين في توجهاتها السياسية نحو مستقبل السودان:
  • قسم قاده حزب الأمة بلور مواقفه للدعوة للاستقلال عبر المؤسسات الدستورية والتعبئة الشعبية.
  • وقسم قادته الأحزاب الاتحادية وبلورت مواقفها في رفض مؤسسات التطور الدستوري وعبرت عن رأيها عبر التعبئة الشعبية.

الحركتان الاستقلالية والاتحادية، وإن اختلفتا حول مصير السودان كونتا ضغطا متكاملا على السلطة الاستعمارية فالضغط السياسي والشعبي خارج مؤسسات التطور الدستوري، ساعد الضغط السياسي داخلها للمطالبة والحصول على مزيد من الخطوات نحو الاستقلال.

  • التطور الذي جرى في مواقف دولتي الحكم الثنائي:
    • فبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية (39-1945م) وضعت سياسة التطور الدستوري في مستعمراتها تعبيرا عما آل إليه حالها من ضعف واستجابة متدرجة لمطالب حركات التحرير في المستعمرات.
    • ومصر بعد حركة 1952م تخلت عن فكرة السيادة المصرية على السودان.. الفكرة التي شلت سياستها في السودان ومكنت السياسة البريطانية من المناورة ضدها. هذا التخلي عن فكرة مجدبة نادى به بعض المصريين قبل عام 1952م ولكنه لم يحدث إلا بعدها.

هذه العوامل الموضوعية الخمسة صحبتها عوامل ذاتية هي: جدارة إدارة الحركة الاستقلالية لمعركة الاستقلال، ووطنية الحركة الاتحادية التي جعلتها في مراحلها الأولى عامل مقاومة للسلطة الاستعمارية وفي مراحلها الأخيرة حريصة على الكينونة الوطنية السودانية، ثم مؤيدة للاتجاه الاستقلالي.. هكذا استطاعت الحركة الوطنية السودانية بشقيها تحقيق استقلال السودان بصورة مبرأة من النقائص في ظل نظام ديمقراطي معياري. إنه إنجاز عظيم بكل المقاييس، ونيشان على صدر الأحزاب الوطنية السودانية.

خامسا: ولكن ما الذي أفسد هذا العرس، وأفرغ هذا الاستقلال من كثير من معانيه ووصل بالسودان إلى حافة أن يكون أو لا يكون؟

أربعة عوامل هي:

العامل الأول: النظام الديمقراطي لم يستطع تحقيق الاستقرار المنشود فالسلطة الاستعمارية كانت حريصة على تطوير مؤسسات الأمن والنظام كالشرطة والقوات المسلحة وغيرها ولكنها كانت متربصة بمؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات وعاملة على إضعافها بكل الوسائل. هذا كما أن النظام الديمقراطي مرحلة متطورة من نمو المجتمعات وقد تطور في الغرب عبر مراحله المختلفة. ولكن غرسه في مجتمعات مختلفة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا يقتضي تعاملا مدروسا يأخذ الظروف الاجتماعية والثقافية القائمة في الحسبان. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، مما جعل الممارسة الديمقراطية قفزا فوق الواقع الاجتماعي والثقافي، فكانت التجربة الديمقراطية معيارية، لذلك اختلت وفقدت مقومات الاستدامة. التجربة الديمقراطية السودانية قصدت الحق فأخطأته.

العامل الثاني: الذي أفرغ معاني الاستقلال هو الحرب الأهلية.التباين الثقافي، والإثني، والديني، والاجتماعي بين سكان السودان في الشمال وفي المناطق المقفولة لا سيما الجنوب حقيقة تاريخية. لكن الاستعمار رسخ هذه الحقيقة وأوجد لها هوية جديدة في شكل التنصير والثقافة الإنجليزية. الحركة الوطنية السودانية ذات الجذور الشمالية عزت التباين الديني والثقافي بين سكان السودان للاستعمار، ولذلك كانت ثلاثة من مطالب مذكرة الخريجين التاريخية تطالب بما من شأنه نقض ما فعله الاستعمار. تلك المطالب هي: إلغاء قوانين المناطق المقفولة- وقف الإعانات الرسمية لمدارس الإرساليات- وتوحيد برامج التعليم في شمال السودان وجنوبه. هذا الاتجاه صار أساسا لبرامج الحكومات الوطنية التي تعاقبت على السلطة في السودان المستقل.برامج طبقتها الحكومات الديمقراطية بوسائل تدبير ذي حنك يفكر في غد. وأقدمت عليها الحكومات الدكتاتورية بهجوم غر لا يخاف عواقبا.

كانت الحركة السياسية في الجنوب في مراحل أولية لدى معركة المصير السياسي في السودان، لذلك كانت مساهمتها السياسية شكلية ومحدودة.

الحركة السياسية في الجنوب نمت في مقاومة برامج الحكومات الوطنية السودانية التي اعتبرتها برامج تثاقف جبري وتهميش قصدي.

هكذا تباينت المواقف الفكرية والسياسية ممهدة لحرب أهلية طويلة لها مقوماتها الداخلية وحاضناتها الخارجية، وخاض السودان مأساة بالغة الأثر على حياته.

الحرب الأهلية بددت كثيرا من الأماني الوطنية وقسمت السكان حول المصير الوطني.

العامل الثالث: والذي أفرغ الاستقلال من معانيه ودام فترة أطول بلغت ثلاثة أرباع عمر السودان المستقل هو الديكتاتورية في عهودها الثلاثة. هذا الحكم المتسلط تعدى على حقوق الإنسان والحريات العامة وفرض على الشعب السوداني استعمارا داخليا، وشل التطور السياسي في البلاد، وأجهض محاولات الحل السياسي السلمي للحرب الأهلية، ووظف موارد البلاد لأولويات خاطئة.

العامل الرابع: هو الأيديولوجية الطوباوية التي حاولت القفز على الواقع الثقافي والاجتماعي في البلاد من منطلق يساري ويميني. الأيديولوجية الواهمة أعدى للحقيقة من الكذب، ولذلك كان أثرها السلبي على البلاد، لا سيما من محاولاتها صب الناس في قوالبها الواهمة بالإكراه، مدمرا.

هذه العوامل الأربعة وصلت ببلادنا إلى حافة أن تكون أو لا تكون.

سادسا: علينا أن نحصي مشاكلنا الوطنية لا لنقيم مأتما على ما فاتنا فإن تجاربنا مهما كانت مرة ومخفقة يمكنها أن تكون لنا عبرة ومدرسة للنضج الفكري والسياسي. بهذا الفهم كل ما لا يقتلني يقويني. رب إخفاق أورث وعيا واعتبارا خير من نجاح أورث وهما واستكبارا! الحركة السياسية السودانية مطالبة باستنهاض بلادها من الرماد كطائر العنقاء لتحلق في آفاق جديدة.

نحن مطالبون بتخصيب الاستقلال الوطني، إنه تخصيب ممكن عبر ستة محاور:

المحور الأول: التأصيل: التحديث بشقيه اللبرالي والماركسي همشا دور الانتماء الديني والثقافي في المجتمع وتطلعا لإلغائه.والتأصيل الإسلاموي همش دور التحديث ودور الانتماءات الدينية والثقافية غير الإسلامية وغير العربية.ينبغي الاتفاق على ميثاق ثقافي يوفق بين التأصيل والتحديث ويوسع التأصيل بحيث يشمل الاعتراف المتبادل بالتنوع الديني والثقافي والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات مع كفالة حريتها.

المحور الثاني: السلام: لقد حددت قرارات أسمرا 1995م لأهم مقومات اتفاقية السلام العادل وقد طورناها في مبادئ الحل السياسي الشامل المقترح لانعقاد الرأي الوطني حوله.

المحور الثالث: التنمية: الإطار التنموي الموروث من عهد الاستعمار إطار معيب لأنه ركز على محصول نقدي واحد –القطن، وأهمل القطاع التقليدي، ولم يراع التوازن الجهوي. والإصلاح الماركسي لتصويب المشروع التنموي كان خاطئا وأدى لنتائج عكسية. والمشروع التنموي الإسلاموي كان واهما وحاول إلحاق مفاهيم ماضوية باقتصاد حديث. إن علينا الاتفاق على مشروع تنموي يقيم آلية للسوق الحر ويضبطها بضوابط عدالية وإسلامية لا تناقض حقوق المواطنة للآخرين.. مشروع تنموي يحقق التنمية بأسرع خطى ممكنة ويراعي التوازن الاجتماعي والجهوي ويواكب العولمة مستفيدا من إيجابياتها ومحصنا ضد سلبياتها.

المحور الرابع: الديمقراطية: الديمقراطية أساس لشرعية الحكم في السودان لأنه لا توجد “ثورة” سودانية معقود لها الولاء، ولا أسرة سودانية متفق عليها لتتكون منهما مراجع للشرعية. والديمقراطية أساس للسلام لأن اتفاقية السلام ينبغي أن يكفلها دستور ديمقراطي ويدعمها التأييد الشعبي. والديمقراطية أساس للتنمية لأن الديكتاتورية تبدد الفائض الاجتماعي المطلوب لبناء رأس المال البشري من صحة وتعليم والمطلوب للتراكم الرأسمالي عبر الاستثمار تبدده الدكتاتورية في أولوياتها الأمنية وفي محسوبياتها لصالح سدنتها. لكن ينبغي تجنب ثغرات الماضي في التجربة الديمقراطية والاتعاظ بكل حركة التطور السياسي في السودان لوضع مشروع تحول ديمقراطي يحقق الديمقراطية المستدامة.

المحور الخامس: العلاقات الدولية: علاقات السودان الدولية انحصرت إقليميا في إطار عربي وإسلامي ودوليا في إطار الدول العظمى. في الإطار الإقليمي مطلوب اهتمام كبير بحوض النيل وبدول الجوار الإفريقي بل بالبعد الإفريقي كله. وفي الإطار الدولي مطلوب التعامل مع القطبية الواحدة الحالية في المحيط الدولي بصورة تحول دون المواجهات العدائية ودون التبعية وتحقق أكبر قدر من التعاون في سبيل السلام والتنمية. هنالك تعددية دولية في المسائل الثقافية والاقتصادية يمثلها الاتحاد الأوربي، والصين ، واليابان، وكندا، والنمور الآسيوية، وجنوب آسيا، وسائر التكتلات الإقليمية التنموية. هذه توجب مد جسور للتعاون في كافة مجالات المصالح المشتركة.

المحور السادس: الأمن والدفاع: انطبع تقليد الأمن والدفاع في بلادنا بقوانين وأساليب النظم الشمولية. وفي حالة الممارسات الديمقراطية تركت مؤسسات الأمن والدفاع دون إطار توجيهي يمكنها من أداء وظائفها الشرعية ويمنع تعديها على الشرعية الدستورية. هذه المعادلة الأمنية الدفاعية ضرورية لحماية الديمقراطية المستدامة ولصيانة مؤسسات الأمن والدفاع في البلاد لأداء دورها القانوني والشرعي.

سابعا: إن الوعي الفكري السوداني مطالب ، والإرادة السياسية السودانية مطالبة بحوار جاد ومثمر وذي نتائج عملية حول هذه المحاور الستة. حوار يفضي لميثاق وطني جديد تمكننا هوامش الحرية الحالية من بحثه والالتزام به قبل دخول البلاد في مغامرات ومواجهات من شانها أن تمزق البلاد أو تفتح أبوابها للتدخل الأجنبي.

إن البشرى الحقيقية لشعبنا في ذكرى استقلاله الأول والثاني في شهر يناير هذا هي أن مثل هذا التطلع المأمول لم يعد خياليا بل صار بعناية الله، وبنضال شعبنا، وباستجابة النظام الحالي الفريدة في مثل ظروفه صار هذا التطلع بفضل هذه العوامل ممكنا. إنه إمكان ينقله من الكمون للحصول ومن الأمل الواعد للفعل الناجز الوعي الفكري، والإرادة السياسية.

ويدعمه استعداد شعبنا الواسع له. كما يدعمه استنجاز الرأي العام الدولي لإيجاده في أرض الواقع. إن أكبر قوة معنوية هي فكرة آن أوانها وحضر رجالها ونساؤها.. الفكرة الصائبة في الظروف المؤاتية طاقة نووية معنوية.

إن لربكم في دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها.

والسلام عليكم ، مع أطيب الدعوات أن يحفظ الله السودان ويلهم أهله التوفيق.