صحيفة الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

صَحِيْفَةُ اْلإِمَاْمَةِ

أمر الدين لا يستقيم إلا بوجود قيادة مؤهلة تسعى لإعلاء أمره وتعميق مفاهيمه وتنفيذ مبادئه وتطبيق أحكامه وتحقيق العزة للمؤمنين. قال تعالى:{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (سورة النساء الآية 83). والقيادة في الإسلام اتخذت عدة مسميات فالإمامة، والخلافة، والإمارة كلها تفيد قيادة الأمة لفلاح الدنيا وصلاح الآخرة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يحل لثلاثة نفرٍ يكونون بأرضٍ فلاةٍ إلا أمروا عليهم أحدهم” (رواه أحمد). أسس النبي صلى الله عليه وسلم دولة في المدينة وكان نبياً وإماما رئيس دولةٍ ثم خلفه الخلفاء الراشدون لمواصلة المسيرة في تطبيق أحكام الدين ونشر دعوته. اتخذت دولة الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى ركنا أساسيا لها. قال تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (سورة الشورى الآية 38). قال أبو هريرة (رضي الله عنه): “ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم” (رواه أحمد) وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر (رضي الله عنه):” لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما” (رواه أحمد). والشورى هي الوسيلة الوحيدة التي تحقق مقاصد الشريعة في العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد لدى اختيار الإمام لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا”، وذكر أولهم ” رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون” (رواه ابن ماجة والترمذي). وقال الإمام علي بعد ما أصر بعض المسلمين عليه لمبايعته في منزله: إن كان ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا عن رضا المسلمين.

وبعد الصدر الأول تحولت الدولة الإسلامية إلى ملك عضود ونقضت فريضة الشورى فأتى ذلك بالوبال عليها بعد حين فعطلت مبادئ الدين وضيعت مصالح المسلمين، ودخل العالم الإسلامي في عهد ظلامي جعل دوله لقمة سائغة للأطماع الاستعمارية، وبيئة صالحة لنمو الدجل والخرافة وشيوع التقليد. وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري والتاسع عشر الميلادي، هجمت الإمامة أو الخلافة الكبرى على الإمام محمد المهدي بن عبد الله عليه السلام، فأعلن دعوته وتصدى لمهمة بعث الدين بعد اندراسه قال: “أنا عبد مأمور بإحياء الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما”. كيان الأنصار في عهد المهدية كان جامعا وقيادة الإمام المهدي كانت إمامة جامعة ودعوته موجهة لكل أهل القبلة استجابة لقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} (سورة الصف الآية14)، وبايعه الناس بيعة جامعة وملزمة. الوظائف القيادية في المهدية حددت بأمر المهدي وقراراته كانت عن طريقي الإلهام والشورى المسنونة. وبينما كان العرف الجاري في ذلك الزمان أن الخلافة في الكيانات الدينية السودانية تقوم على أساس القرابة باعتبار أن البركة تنتقل إلى الأبناء والأخوة، والخلافة في الكيانات القبلية تقوم على ذات الأساس باعتبار العصبية، فإن القيادات التي اختارها المهدي لم تستند على القربى أو العصبية القبلية وكان خلفاؤه من شتى الأعراق، وقد وصف الإمام المهدي ولي الأمر بأنه:” من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين”.

وبعد نهاية الدولة المهدية عمل الاستعمار على إعدام أو أسر القياديين في المهدية، فأحدث ذلك فراغاً قيادياً لدى الأنصار. ودون استناد على لقب قيادي من عهد المهدية أقدم السيد عبد الرحمن على ملء ذلك الفراغ القيادي فاعتبره الأنصار قيادة روحية وسموه الوسيلة، ثم وبعد خمسين عاماً من جهاده المدني، وبعد مرور قرن هجري كامل على مولد الإمام المهدي بايعه الأنصار إماماً في 1359هـ. هذه الإمامة مكتسبة، وبيعته سماها بيعة الرضا، وقال بشأنها: “والبيعة تابعة لأمر الدين وتعديل الإمام القائم لها حسب ظروف الأزمنة مع سلامة العبادات واتباع الأثر” وأقر بيعة الإمام المهدي عليه السلام كما هي إلا فيما يتعلق بالقتال والزهد، مع إبقاء الروح الجهادية حية، وروح الزهد بجعل المال في اليد دون القلب. وقبل وفاته في مارس 1959م سمى الصديق خليفة وأشار لذلك في وصيته، ولكن كبار آل المهدي والأنصار رأوا تسميته إماماً لمواجهة الظروف التي تواجه كيان الأنصار والبلاد في محنة الحكم العسكري الأول. وبما أن السيد الصديق كان اليد اليمنى لوالده أثناء حياته وشريكه في كل أعماله فإن خلافته امتدادٌ لخلافة والده. وحينما حضر ت الإمام الصديق الوفاة في 2 أكتوبر 1961م إبان المواجهة مع نظام عبود قال في وصيته: “بعد وفاتي يتألف مجلس شورى برئاسة السيد عبد الله الفاضل المهدي وعضوية السادة الهادي، ويحي، وأحمد والصادق المهدي. ويرعى هذا المجلس شئوننا الدينية والسياسية بكلمة موحدة حتى تنقضي الظروف الحالية في البلاد، وعندما تلتفتوا لأمر اختيار الخليفة الذي يكون إماماً يكون ذلك عن طريق الشورى بقرار الأنصار”. أعلن المجلس الخماسي أن ظروف البلاد الطارئة تقتضي تقديم السيد الهادي ليكون الإمام. ثم بايعه الناس. إمامة السيد الهادي كانت على نهج الإمام عبد الرحمن وهي إمامة اختيار، فقد شكل عهده مع عهد الإمام الصديق امتداداً لحقبة المهدية في طورها الثاني طور الانتقال للتعايش مع الآخر الملي والوطني والانفتاح على العصر الحديث. وفي فبراير من عام 1969م سمى الإمام الهادي السيد الصادق المهدي الرجل الثاني في الكيان. ثم حدث انقلاب مايو 1969م وما تلاه من أحداث المواجهة الدموية مع الأنصار في الجزيرة أبا وودنوباوي، ثم استشهاد الإمام الهادي وصحبه الميامين عقب أحداث الكرمك في مارس 1970.

تولى السيد الصادق المهدي بعد استشهاد الإمام الهادي قيادة الأنصار بموجب تسمية الإمام الهادي له الرجل الثاني من بعده، وبموجب البلاء فقد تصدى لقضية الأنصار والبلاد متعرضا للمشقة وقائداً صفوف الأنصار إبان هجرتهم الأولى للتصدي لقهر النظام المايوي عسكرياً. ولكن السيد الصادق المهدي رأى أن الدعوة المهدية تجابه تحدياً جديداً هو قيادة تيار التحديث المؤصل بين صفوفها، وفي جميع البلدان الإسلامية، مما يستوجب نقلة فكرية وعملية، من أهم خطوات هذه النقلة إتمام البناء المؤسسي لكيان الأنصار. فقام بعد العودة للوطن عقب المصالحة الوطنية في يوليو 1977م بإجراء مشاورات في صفوف الأنصار أسفرت عن تكوين هيكل حديث لكيان الأنصار تحت إشرافه باسم هيئة شؤون الأنصار، بموجب وثيقة سميت الدليل التأسيسي صدرت بتاريخ 1399هـ -الموافق 1979م. عدل ذلك الدليل مع المحافظة على جوهره وسمى الدليل التأسيسي “2” في عام 1986م. وفي عام 1994 بعد تشاور واسع تم تطوير هيئة شؤون الأنصار، وتمت مراجعة الدليل التأسيسي اسماً ومضموناً، فصار يعرف بـالدليل الأساسي، أما المضمون فإن الدليل تم تعديله لمزيد من المشاركة والمؤسسية. الهيئة حسب ذلك الدليل مؤسسة ديمقراطية لها بنىً قاعدية وقيادية، والمناصب القيادية فيها تنال عبر التصعيد والانتخاب. والإمام هو قائد كيان الأنصار، ويتم ترشيحه بواسطة مجلس يسمى مجلس الحل والعقد، ويراعى عند ترشيحه البلاء والالتزام بالدين الإسلامي والكفاءة العلمية والاجتهاد في سبيل دعوته ورفع شأن الأحباب، ويكون ممن تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين، ومن أعلى الناس همة وأوفاهم ذمة. يبايع الإمام أولا بواسطة مجلس الشورى ثم المؤتمر العام، ويسعى عقب ذلك للحصول على البيعة من الجمعية العمومية للأنصار في مناطقهم كلها، ويصير ملزما بالعمل بالكتاب والسنة والجهاد والاجتهاد ونهج الشورى. تشمل مسئولية الإمام تقديم القيادة الدينية والروحية والقدوة الحسنة، والعمل على تحقيق أهداف هيئة شؤون الأنصار، والعمل على رعاية الأنصار، وتقديم الفتاوى والنصح في أمور الدين والدنيا، علاوة على المشاركة في تكوين مجالس الهيئة. الإمامة بالتالي أحد أركان مؤسسة الهيئة المزمع إكمالها.

إن مؤهلات الإمام حسب مراجع المهدية في مرحلتها الأولى هي الأهلية “التقلد بقلائد الدين”، والشعبية “ميل قلوب المسلمين”، أما آلية اختيار الإمام فلا يوجد في مراجع المهدية في مرحلتها الأولى ولا في طورها الثاني سوى القاعدة التي حددها الإمام الصديق في وصيته بأن اختيار الخليفة يكون عن طريق الشورى بقرار الأنصار، وقد آلت هيئة شؤون الأنصار على نفسها أن تنفذ هذه الوصية، فإمامة الأنصار المقبلة إمامة انتخاب، وهيئة شؤون الأنصار مؤسسة مشاركة وشخصية اعتبارية تجسد الولاء الأنصاري.

مؤسسات هيئة شؤون الأنصار يجري الآن تكوينها على أساس الشورى والمؤسسية وستكون هي آلية انتخاب الإمام. إن ما يشيعه بعض الأفراد والفئات من حديث عن الإمامة والبيعة خارج هذه المؤسسات استباق للزمن وخروج عن ما أجمع عليه الأنصار. من حيث المرجعية الأنصارية الخاصة كما نصت على ذلك وصية الإمام الصديق، ومن حيث مقتضيات مجابهة تحديات العصر، ومن حيث المرجعية الإسلامية العامة، لا سبيل لإمامة بلا شورى. قال عمر (رضي الله عنه): “مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ” (رواه البخاري وأحمد). وقال زيد بن علي بن الحسين: “ليس الإمام منا من أرخى عليه ستره”.

إن دور الأنصار في المرحلة الحالية هو دور توفيق بين الأصل والعصر، والتطلع لتوحيد أهل القبلة حول برنامج حد أدنى فصّله “نداء المهتدين”، ولجمع كافة أهل الملل على كلمة سواء على نسق “نداء الإيمانيين”، ولدعوة جميع أهل الأرض إلى الحوار والتعايش السلمي كمثل ما بيّن “نداء الحضارات”، والإمامة المنتخبة سوف تقود الهيئة في هذا الاتجاه.{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِين}(سورة يوسف الآية108).

هيئة شؤون الأنصار

أول شوال 1422هـ- ديسمبر 2001م