لندن قناة المستقلة: حديث السيد الصادق المهدي عن علاقة الدين بالدولة

بسم الله الرحمن الرحيم

حديث السيد الصادق المهدي عن علاقة الدين بالدولة

لندن قناة المستقلة

 

المناخ الذي نناقش فيه هذه القضية اليوم جديد و لكن الذي أفسد مناخ التداول في هذا الأمر هو الظلم ((لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم )) . فعندما قام النظام وصنف المختلفين معه سياسيا بأنهم بغاة وخلق استقطابا حادا في السودان تغير المناخ الفكري والسياسي في البلاد ونتيجة لذلك حدث تطرف في تناول هذا الموضوع .

اليوم الحركة الشعبية تطرح العلاقة بين الدين الدولة بصيغة مبالغة ليس هذا فقط ، بل نجد أن شخصا مثل الدكتور فرانسيس دينق والذي تحدث في كتاباته السابقة عن نجاح تجربة العلاقة بين العرب ودينكا آبيي ، الآن في كتابة (حرب الرؤى ) يتحدث عن أن وحدة السودان واستقراره رهينة بأن يتخلى من يظنون أنهم عرب عن هذا الانتماء . مناخ الغلو هذا أدي إلى دعوة تقرير المصير ففي كل مداولاتنا مع الحركة الشعبية لم ترد هذه العبارة أصلا ، فقد جلست مع الأخوة الجنوبيين في الداخل والخارج كرئيس وزراء لساعات طوال ولم ترد كلمة تقرير المصير هذه إلا بعد أن قام طرح في السودان اعتبره الجنوبيون عازلا لهم دينيا وثقافيا لذلك اتفقوا على المطالبة بحق تقرير المصير في نوفمبر 1993م، هذه العبارة في مداولاتنا السياسية مع الحركة الشعبية ومع يوساب لم تظهر قط أثناء الديمقراطية الثالثة. أعتقد أن النظام الحالي وهو يتناول هذه القضية ونحن أيضا كقوى سياسية لا بد أن نأخذ في الحسبان أن المخاوف التي رسبتها تجربة الغلو هذه مسئولة مسئولية كبيرة عن تلغيم المناخ وعن طرد التسامح وعن قفل باب الحوار وعن إثارة المخاوف وعن فتح الباب لاستقطاب فيه دعم أجنبي كبير من منظمات كثيرة كنسية وغيرها تدعم هذا الاستقطاب وتغذى هذه المخاوف، لا بد ونحن نناقش هذا الموضوع أن ندرك أن شيئا ما لغم وسمم المناخ الفكري والسياسي لأننا إذا لم نفعل ذلك نجد في أنفسنا نتحدث في مستوى أكاديمي معزول عن الواقع السياسي. انطلاقا من هذه الخلفية التي بدأ تفكيكها والتي بدأ علاجها والتي يجب أن تعالج علاجا حقيقيا بصراحة شديدة نتحدث فيها عن أن ما كان خطأ وأن ما نحن بصدده الآن هو التسامح والحوار والديمقراطية واستيعاب الآخر لكي نطمئن الأطراف المختلفة حول هذا النقاش، وهذا يحتاج بالفعل لما نسميه في السودان. بخور الباطن- أي الكلمة الطيبة- وهذا مطلوب جدا في هذه المرحلة لأنها سممت وشوهت تداول الأمر وأخرجته عن ما ينبغي أن يلتزم به من موضوعية.

بعد هذه المقدمة أود أن أقول كلاما محددا للغاية.

ما هي السياسية؟

إن كانت السياسة هي مطاردة السلطة والسعي إليها بكل الوسائل أي الميكافيلية والنفعية يمكن أن نقول السياسة الميكافيلية والنفعية أصلا معزولة عن الدين، يفصل الدين عن الميكافيلية والنفعية أما إذا تحدثنا عن أن السياسة فيها أخلاق وفيها أهداف عليا ومثل وتضحيات وفيها رفض لمنكر وإيجاب لمعروف إذا تحدثنا عن السياسة والأخلاق فالسياسة لا يمكن أن تفصل عن الدين لأن الدين مصدر مهم للأخلاق وحتى الالتزامات والمبادئ والقيم الموضوعية غير المستمدة من التعليمات الدينية هي نفسها يوجبها الدين ويشملها ويرتب لها جاء أخرويا. إذن مستحيل أن نتحدث عن فصل بين السياسة والدين إذا كانت السياسة التي نتحدث عنها ليست الميكافيلية.

الدولة: ما هي الدولة؟ الدولة شعب وأرض وسلطات ثلاث: تشريعية، وقضائية، وتنفيذية، لنأخذ هذه المفردات.

الشعب: هل نستطيع أن نفصل الشعب عن الدين؟

السلطة التشريعية: ستكون هناك قوانين حتى في إطار الأحوال الشخصية أو حتى في إطار حماية المجموعات الدينية المختلفة من أي تغول.

القضاء: هل نستطيع أن نفصل القضاء عن اليمين؟

هل يمكن أن نقول: القضاء يقوم على أساس ليس فيه يمين.

السلطة التنفيذية نفسها يمكن أن نقول أن من يتولاها يمكن أن يتقدم إليها دون أي صفة دينية معينة ولكن هل نستطيع أن نقول إن الذين يصوتون له سوف يتخلون عن اعتبارات دينية في تأييده أو عدم تأييده؟

الأصوات التي نالها بوش في الانتخابات الأخيرة جزء كبير منها كان بسبب استقطاب الرأي العام المسيحي لصالحه وصوت له منهم 63%.

النقطة المهمة أقول: إننا نتحدث عن أمور لا يمكن أن نحققها في واقع الحال باعتبار أن هذه الاعتبارات متداخلة. والذي أدى إلى هذا التداخل والحدة فيه هو المطاردة لهذه الاعتبارات من وضعها.

مثلا: لا شك أبدا أن الاستعمار في السودان حاول جاهدا أن يغير هوية البلاد بالنسبة للانتماء الديني أو الإسلامي ولا شك أيضا أن مايو كنظام في أول عهده حاول محاولة مماثلة واتخذ خطا مستفزا للمشاعر الدينية في السودان ولا شك أيضا أنه بعد ذلك عكس الآية واتخذ خطا مستفزا للآخرين بقوانين سبتمبر. كثير من الناس يعتبرون أن قوانين سبتمبر هي الشريعة وهذا موضوع طويل، وهي في الحقيقة تشويه للشريعة ولجأ إليها النظام ليستغلها لتدعيم سلطانه، هذه القوانين خلقت تصعيدا أدى إلى الاستفزاز في الاتجاه المضاد وكذلك جاء نظام الإنقاذ ليختصر الطريق للالتزام الإسلامي هذا الاختصار كان على حساب مشاعر الآخرين وكان البذرة التي خلقت المناخ الجديد الذي تحدثنا عنه. في رأيي: المواطن السوداني غير المسلم وغير العربي له الحق في أن يقول: أنا أريد حقوق المواطنة محمية وأريد حرية دينية لعقيدتي، وأريد اعترافا بهويتي الثقافية، وأريد أن لا تنال مجموعة دينية أخرى أو مجموعة دينية وطنية امتيازات معينة، وأريد أيضا أن ما يطبق على من أحكام لا يأتي من مصادر أنا غير مؤمن بها، ويستطيع أن يقو أيضا أنا- كمواطن- أريد أن يكون عندي الحق في أن أشترك في أي حزب سياسي سوداني يسعى للتداول السلمي للسلطة.

أعتقد أن المواطن غير المسلم وغير العربي يمكنه أن يتحدث عبر الحوار الذي دخلنا فيه الآن عن ماذا يريده ضبطا للعلاقة بين الدين والسياسة، وضبطا للعلاقة بين الدين والدولة، لا فصل مثلما يقول هذا الشعار، وهذا ما حاولناه عبر نقاش مستفيض في نيروبي عام 1993م وفي أسمرا عام 1995م وتوصلنا إلى أسس منظورة من كل الأطراف التي كانت في ذلك الوقت معارضة وقد تجنبت الحديث عن العلمانية قصدا، وتجنبت الحديث عن فصل الدين عن الدولة قصدا، واتفقت على وضع ضوابط للعلاقة في هذا الأمر حماية لحقوق المواطنة، وأعتقد أن هذه الأمر نظريا صار مسلما به لدى السلطة الآن، ولكن توجد مناطق تحتاج إلى بعض التفصيل وبعض التطمين، ولكن ما تم الاتفاق عليه في نيروبي وفي أسمرا كان واضح المعالم في هذه المسائل، وعندنا الآن هذه الاتفاقيات منظورة وقد قلت في فترة ماضية أن النظام يمكن أن يختصر الطريق كثيرا إذا وقع على هذه الوثائق أو قبلها بصورة محددة لآنها تجنبت النزاع الفلسفي والمسائل الاستقطابية وركزت على ضبط العلاقة بين الدين والدولة.

مداخله من أحد الحضور: هل تطرق اتفاقكم هذا لموضوع الحدود.؟ وما موقف حزب الأمة من الحدود.

الإجابة: لا لم نتطرق لها ، وهذه أمور فرعية نتكلم عنها فيما بعد.. مقاطعة: كيف تكون الحدود فرعية ولها علاقة بحقوق الإنسان!!.

لا أعني بفرعية أننا لن نتحدث عنها، يمكن أن يكون هناك اتفاق بشأنها لاحقا.

نحن الآن دخلنا من نوع من المزايدات التهريجية باعتبار أن هناك أساس لاتفاق صحيح يمكن أن تكون هناك مناطق تفصيلية يضاف بحثها وقد تحدثنا عن هذا كله في البرلمان عندما تحدثنا عن القانون الجنائي الذي طرح عام 1989م تناولنا هذه المسائل كمشاكل ويمكن أن يعاد البحث في هذا الموضوع الآن. لكن المهم الآن هو أن أمامنا الآن أطروحة: أساس تعامل متفق عليه في ضبط العلاقة بين الدين والدولة وضبط العلاقة بين السياسة والدين.

هذا التعاقد يصلح كأساس لاتفاقية واضحة المعالم لا تضعنا أما خيار أن نتخلى عن التزامنا الديني بموجب العلمانية أو القبول بتقرير المصير فالانفصال.