في ذكرى السيد زين العابدين

بسم الله الرحمن الرحيم

في ذكرى السيد زين العابدين

30/9/2006م

إخواني وأخواتي. أبنائي وبناتي

سنة حسنة أدامها الله ووفق أصحابها أن تقوم الأحفاد الصرح العلمي الوطني الأول في السودان برعاية تكريم، وتأبين، أعلام الوطن. فإن في مثل هذا التكريم تحفيزا للآخرين لبذل العطاء في سبيل العمل العام وهي حقيقة كونية!.

(لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)[1].

إن في مثل هذه المواقف فرصا لرسم معالم القدوة بأصحاب العطاء. فرص لتشييد تمثال معنوي هو خيرٌ وأحسن تأثيرا من تماثيل الحجر و البرونز.

لذلك، وتوثيقا لفضل حبيبنا الراحل سوف أشيد له تمثالا معنوياً قوامه خمس عشرة لبنة تصفه في ذاته وتجعل له على لسان إبراهيم عليه السلام (لسان صدق في الآخرين).

اللبنة الأولى: ابن المدرسة الرحمانية:

كانت الدعوة المهدية دعوة ذات مرجعية غيبية وثورة لتحرير الأمة وطرد ما علق بأحوالها من ملوثات وتجسيد تطلعات أهل القبلة وأشواقهم لبعث الصدر الأول. تزامنت هذه التطلعات مع الهجمة الإمبريالية الأوربية على سائر القارات سيما الأفريقية. الاستعماريون دمروا دولة المهدية على حد تعبير مؤرخهم “دمرنا قدراتهم المادية ولكننا لم نهزمهم”. تصدى الإمام عبد الرحمن دون تفويض من أحد إلا إحساسه بالمسئولية للدعوة المدمرة دولتها فبعثها في ثوب جديد ثوب التحديث المؤصل.  كان فقيدنا وزملاؤه من مواليد أوائل القرن العشرين هم أبناء هذه المدرسة الرحمانية. الجيل الرائد في كل مجال يدفع ثمنا لأن لكل جديد دهشة ربما بلغت درجة الصدمة.

واجه هؤلاء الرواد مشقة التحول من ثقافة قابضة إلى ثقافة منفتحة. كثير منهم دمرتهم مشقة التحول. كان فقيدنا من الذين صمدوا لها وامتصوا آثارها ومارسوا عطاءا معطاء.

اللبنة الثانية: اللبرالي الديمقراطي بدون استلاب:

ثقافة العصر الأوربي الحديث بهرت الصفوة في المستعمرات بنظمها وتقنياتها وديمقراطيتها اللبرالية. بعضهم جرفه الإعجاب حتى الثمالة كما عبر عنها سلامة موسى بقوله: أنا مؤمن بالغرب كافر بالشرق. هؤلاء هاموا بالوافد حتى الاستلاب التام. قلدوا الإنجليز حتى الغليون واللكنة في نطق اللغة العربية. فقيدنا تشرب بالفكر اللبرالي الديمقراطي ولكنه أبقى على صفات ود البلد لونا وطعما ورائحة!.

اللبنة الثالثة: الاشتراكي بلا ماركسية:

اللبرالية الديمقراطية الغربية أفرزت ضدها نقدا اشتراكيا بلغ مداه في الماركسية. فقيدنا من الذين أدركوا قصور اللبرالية الديمقراطية دون العدالة الاجتماعية فقال بعدالة اجتماعية بلا ماركسية في نهج فابي- فابيان. الفابيون عداليون كالأشعريين في تراثنا القديم.

اللبنة الرابعة: الصحافي الوطني:

بعض الدعايات القاصرة رمت المعسكر الاستقلالي بالجهالة حتى قيل حزب اللمة.  العكس هو الصحيح لأن هذا المعسكر هو الذي قاد الثقافة الوطنية:  مدرسة الفجر. وقاد الصحافة الوطنية: الحضارة والنيل. وإليه انتسب أغلب كتاب النثر الفني والشعر. وقاد بحقيبة الفن الصحوة الفنية. وقاد باكورة الوعي السياسي بالسودان للسودانين وتقرير المصير الوطني. سبب هذه الريادة موضوعي لأن المعسكر الآخر سلم إمامة هذه الملفات للجارة الشقيقة.

الاستقلاليون التمسوا إمامة ذاتية فأبدعوا في هذه المجالات. لذلك وفي مجال الصحافة كان والد فقيدنا –السيد حسين الخليفة شريف- رائد الصحافة الوطنية الأول والشيخ محمد عثمان القاضي الثاني وكان الأستاذ أحمد يوسف هاشم أبو الصحافة الوطنية. وكان فقيدنا وزملاؤه من أساطين مدرسة الصحافة الوطنية. كان فقيدنا مثالا حيا للصحافي المهني المؤهل الملتزم بأخلاق المهنة في تحري الخبر الصادق، والتحليل الموضوعي، والرأي السديد. نهج في الصحافة مخالف تماما لصحافة الشمولية المستعبدة، وصحافة الإثارة العبثية، والصحافة المسخرة لأجندات خفية. وبضدها تتبين الأشياء.

اللبنة الخامسة: تجنب التسلق

التسلق داء لحق بكثر من مثقفي بلادنا. إنها صفة أنكرها واعترف بذلك بعض من أصيبوا بدائها على نحو ما فصل السيد مرتضى أحمد إبرهيم في كتابه: “مذكرات وزير متمرد” وعلى نفس النمط قال لي المرحوم عبدالكريم ميرغني قبل وفاته : “عندما ينتهي هذا الظلام المايوي اشنقوا المدنيين الذين دعموه لأنهم في خدمة تسلقهم أوهموا هؤلاء الانقلابيين أنهم أهل لصناعة تاريخ الوطن” .. لكن فقيدنا مع تأهيله تجنب التسلق بل كان مركزه دائما دون تأهيله ولم يقبل فضلا من أحد.

اللبنة السادسة: النزيه

وفي وقت كانت فرص الشراء متاحة لكثير من رجالات كيانه اختار فقيدنا الاعتماد على نفسه في كسبه وعاش مستور الحال بكسب أواسط الناس.

اللبنة السابعة: الولاء للكيان

كان الإمام عبد الرحمن يعلم أن النظام البريطاني الذي يحكم البلاد يرصده بدقة ويستهدفه فاختار أسلوبا مرنا في التعامل معه، مرونة وثق جدواها المؤرخون المنصفون أمثال الأستاذ حسن أحمد إبرهيم وسمى الإمام عبد الرحمن لذلك أهم سوداني في القرن العشرين. ولكن في ذلك الوقت شوهت الدعايات المعادية مواقف الإمام عبد الرحمن وأصدقائه لدرجة خلقت عقدا مستعصية لأبنائهم وبناتهم لا سيما في أواسط المثقفين فهربوا بجلدتهم إلى معسكرات أخرى. لكن فقيدنا مع سعة اتصالاته بالأوساط المثقفة صمد في  الولاء لكيانه السياسي والديني وشارك فيه بعطاء وافر في المجالات الدبلوماسية والسياسية والصحافية.

اللبنة الثامنة: المتدين بلا تزمت

كانت كلية غردون التذكارية أداة تثاقف غربي وكانت الثقافة الغربية المباشرة على يد أساتذة الكلية أو غير المباشرة على أيدي مفكرين وكتاب مصريين أمثال لطفي السيد، وطه حسين وغيرهما. ثقافة بهرت الكثيرين بها على نحو بلغ أقصاه في تركيا الكمالية. هذا التوجه ولّد ردة فعل معاكسة بلغت أحيانا درجة التزمت. استطاع فقيدنا أن يتخذ لنفسه موقفا مقبولا متدينا بلا تزمت. تدين طبع لا تطبع.

اللبنة التاسعة:  الصامد في وجه الترغيب والترهيب

قال الأستاذ جلال الدين الحمامصي ملخصا محادثات مع الرئيس جمال عبد الناصر أنه يرى أن القاعدة الشعبية لا تهتم إلا بالخبر. أما الصفوة المثقفة فلا يعادل جزعها من السجن إلا طمعها في الوظيفة وسوف تمنح ولاءها بهذين الأمرين. النظم الطاغية التي حكمت بلادنا نسخ مسودنة من الأصل الناصري.

كان فقيدنا صاحب اسم وتأهيل مناسب لهذه الصفقات إن أراد. ولكنه لم يفقد أبدا البوصلة الديمقراطية. ولم يجد معه ترغيب أو ترهيب.

اللبنة العاشرة: المطلع

ثقافة كثير من المتعلمين في بلادنا تتعامل مع الكتاب إلى حين نيل الشهادة أو الدرجة المنشودة وبعد ذلك يقع طلاق بائن. بعض المثقفين يواصلون الاطلاع في نهم محمدي للمعرفة من المهد للحد. كان فقيدنا قارئا نهما فأورثه ذلك ذهينة متجددة على نحو ما وصف أبو الطيب:

يغير مني الدهر ما شاء غيرها

وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب

لقد أحسنت أسرته إذ أهدت مكتبته الثرية لجامعة الخرطوم جزاهم الله خيرا لا سيما بنته زينب التي ضربت بأفعالها أروع المثل للبر بوالدها.

اللبنة الحادية عشر: العلاقة بالشقيقة مصر كانت محل انقسام في أوساط النخب السودانية. بعضهم أحبها حتى الهيام على نحو ما قال شاعرنا الفحل محمد سعيد العباسي:

الناس فيك اثنان من  رأى حسنا

فهــــام به وآخر لا يرى!!

وبعضهم رفضها رفضا تاما واعتبرها الخطر الأول على السودان على نحو ما عبر شاعرنا الكبير صالح عبدالقادر:

مصر الأسيفة قد جلا عن الورد تمساح

وأقبل ضيغم أشد من التمساح بأسا وألأم!

كنت قد زرت مصر أول عودتي من الدراسة الجامعية في رحلة فاتحة للذهن وعندما عدت ألقيت محاضرة في دار الأمة قلت فيها: “ينبغي أن نتخلى عن عاطفتي الحب والبغض في علاقتنا بمصر وأن نؤسسها على حتميات المصالح المشتركة”. ثم وجدت في مذكرات الإمام عبد الرحمن التي حررتها ونشرتها فيما بعد نصا صريحا: “لا أنكر العلاقة الأزلية بيننا وبين مصر. ما أنكره هو تأسيس العلاقة على التبعية وجبرية السيادة. نحن كشعب حر صاحب سيادة نستطيع إقامة أوثق العلاقة مع مصر طوعا لا كرها”.

فقيدنا وهو من أقوى الأقلام الاستقلالية أصدر كتابا في بداية التسعينات دعا فيه لاتحاد مصر والسودان من منطلق المصالح المائية المشتركة.

اللبنة الثانية عشر: المرن المجدد

هذه المرونة في التعامل مع المستجدات ظهرت في كثير من مواقف فقيدنا وساهم بها في حركات الإصلاح والتجديد في كياننا. ومن مساهمته أننا بعد أفول الشمولية المايوية اجتمعنا لإعادة تكوين حزبنا واقترحت أن نسميه الحركة الشعبية السودانية.  هذا الاقتراح رفضته الأغلبية. ثم جاء الفقيد والسيد أمين التوم وقالا: نعم لتجديد الاسم ولكن نحافظ على الاستمرارية ونقترح أن يسمى الحزب: حزب الأمة القومي الجديد فأجمع الآخرون على الاقتراح.

اللبنة الثالثة عشر: أخلاقه الحسنة

كان فقيدنا من الموطئين أكنافا الذين يألفون ويؤلفون. يتعامل مع الناس بالحسنى بلا أدنى تعصب أو عناد. كان يصل الرحم ويتفقد الأهل بهمة واتصال، وكان متواضعا في سلوكه كله حتى ملبسه مع نظافته بسيط:

إذا أردت شريف الناس كلهمو

فانظر لسلطان في زي مسكين!

 

اللبنة الرابعة عشر: البشاشة:

كان فقيدنا بشوشا لا يخلو مجلسه من دعابة. وكنا معه في مجلس فمرت علينا نسوة فقال أحد الحاضرين!: “لا حول ولا قوة الشي ما خدات “الشنا” –القبح- مقاولة”؟ ضحك الحاضرون. ولكن الفقيد قال: “الله يكثر الجميلات ويبعدهن عن طريقنا ويكثر الشينات في طريقنا. الجميلات امتحان. والأخريات اطمئنان”. فقلنا والله حكمة!. وقديما استغاث أحد الأدباء بالله من هذا الامتحان:

يارب شوه لي وجوه الغيد

          كيلا أعذّب منهمو بصدود!

أخيرا: القدوة الصحافية

بلادنا سوف تشهد تحولا ديمقراطيا إن شاء الله، والصحافة هي السلطة الرابعة. كانت الصحافة السودانية في درجة أفضل من المسئولية في عهد الديمقراطية الأولى والثانية برغم وجود صحف ناشدة للإثارة، ولكن دور الصحافة  الصحيح قد استلب في عهد الديمقراطية الثالثة، وغاب بشكل كبير فاتحا الباب لصحافة الإثارة وتأجيج الفتن.

إن الله يبتلي الناس بالخير وبالشر لقد ابتليت الصحافة السودانية بالشر في العهود الشمولية وتبتلى بالخير في ظروف الحرية.

حتى في مناخ الحرية المقيدة الحالية يمكننا تصينف الأقلام ما بين قلم حر وقلم عابث وقمل خائف وقلم أجير.

انشدت ذات يوم بيتا لصوفي في العشق الإلهي:

وما حيلتي إن نم عن نفسه الهوى

هو العطر والعطر الزكي نموم

صاح صاحبي حتى حسبته مجذوبا: العطر الزكي نموم!.. كذلك الريح الكريه في بعض الأقلام.

إن في سيرة فقيدنا وأمثاله من أحرار الصحافة مدرسة للصحافة الحرة المنشودة.

الدستور والقانون لا يصنعان الصحافة الحرة بل يحميانها. لكن الصحافيين الأحرار هم الذين يصنعون الصحافة الحرة. كانت الحرية ولا زالت وسطا بين رذيلتي الكبت والفوضى.  وهكذا في كل أمر فإن الفضيلة وسط بين رذيلتين كالكرم بين البخل والإسراف، وهكذا.  وسئل سقراط كيف تعرف هذا الوسط؟ قال لا توجد وسيلة رياضية لتحديده بل فتش عن حيكم وقلده. فقيدنا وأنداده من رواد الصحافة السودانية الحرة بهذا المعنى هم رصيدنا في بناء السلطة الرابعة –الصحافة- في ظل الديمقراطية المستدامة المنشودة.

ألا رحم الله فقيدنا رحمة واسعة ونفع بسيرته مهنته وأمته. آمين.

[1]  سورة إبراهيم الآية 7