قراءة في دفتر العام المنصرم

بسم الله الرحمن الرحيم

قراءة في دفتر العام المنصرم

والمستجدات على الساحة السياسية  في السودان

23/3/2002م

لقد أقبلنا على الحوار مع النظام بنفس مفتوحة واستعداد كبير للانتقال بالبلاد من مربع المواجهات إلى مربع جديد عبر بوابة نداء الوطن.

كان يحفزنا للموقف الجديد أمران:

الأول: أمر طارد، فقد اتضح لنا أن للفصيل الأهم في تحالفنا المعارض أجندة خفية تتجاوز ما اتفقنا عليه في مؤتمر القضايا المصيرية في يونيو 1995م وتتجه لتقويض “الإنقاذ” لا لسودان عدالة جديد ولكن لسودان انتقام بديل يؤسس شمولية اثنية الأيديولوجية ولا يكترث بالديمقراطية أساسا لنظام الحكم.

الثاني: أمر جاذب فحواه أن نظام “الإنقاذ” قد وعى درس الانفراد والأحادية واستعد للانفتاح للتعددية الفكرية والسياسية والتحول الديمقراطي الحقيقي.

وبقدر ما كنا متحمسين للاتفاق بقدر ما لمسنا تحفظات نحو التقدم نحو مربع جديد. تحفظ النظام إعلاميا على استقبالاتنا، وتلكأ في رد حقوقنا المغصوبة، وسمح لبعض عناصره المشدودة للشمولية أن تعرقل إجراءات مشروعه مثل العودة بمجمع بيت الإمام المهدي للحالة التي كان عليها عندما وضعت السلطة يدها عليه. بل كان تناقض مواقف مسئولي النظام في هذا الصدد أن يعرضنا لفتنة دموية عندما شجع بعضهم عناصرنا للإقدام على تملك المجمع وحشد مسئول آخر قوات الأمن لإجلاء عناصرنا بالقوة.

لم يكرم النظام اتفاقه مع حزب الأمة وعودة الحزب للداخل بأي خطوة عملية مع أن كثيرا من نصحائه قالوا بأقوى صورة كان ينبغي أن يتخذ النظام إجراءا يدل على حماسته للخطوات الحاسمة التي اتخذها حزب الأمة. والحقيقة هي أن موقف الحريات والممارسات ضاق بعد عودة حزب الأمة لأن النظام تحرك لسد المداخل التي يتحرك منها المؤتمر الوطني الشعبي لا سيما بعد مذكرة تفاهمه مع الحركة الشعبية في فبراير من عام 2001م.

في فبراير 2001م قدرنا أن المفاوضات بيننا وبين النظام وصلت درجة تسمح لنا باتخاذ قرار بشأنها فرأينا أن نقرر ماذا بعد؟ بحثت أجهزة حزبنا القيادية الموقف واتخذت قرار 18 فبراير 2001م التاريخي.

كان القرار مرآة حقيقية لرأي وشعور حزبنا لذلك حقق حوله دويا إجماعيا هائلا وتقديرا وطنيا عاما وخلاصته:

  • إقرار مبدأ المشاركة.
  • أن تكون المشاركة ضمن مشروع سلام عادل وتحول ديمقراطي حقيقي.
  • مواصلة الحوار والتعاون في القضايا الوطنية العليا.

منذ ذلك الحين بقيت الأوضاع كما هي ولم تتقدم العلاقة بالنظام خطوة إلى الأمام.

وفي يونيو 2001م قدمت دولتا المبادرة المشتركة مذكرة من تسع نقاط كانت أشبه بتبني جوهر ما نص عليه قرار حزب الأمة في فبراير 2001م. قبلت الحكومة المذكرة دون قيد أو شرط ونحن في حزب الأمة قبلناها وأضفنا جوانب نراها هامة لدوى المبادرة في إطار اتفاقية السلام وتطلعنا لمواصلة الحوار مع النظام تحت مظلة المبادرة المشتركة. ولكن المبادرة لعوامل كثيرة راوحت مكانها.

ماذا جرى في العام المنصرم؟

  1. واصل النظام تطبيع علاقاته مع دول الجوار والأسرة الدولية. قاعدة تعامله مع القوى السياسية بالداخل ضاقت، فعلاقاته بحزب الأمة بقيت معلقة. وعلاقاته بأحزاب السلام من الداخل تراجعت.
  2. واصل حزب الأمة عمله في التنظيم والتعبئة والحوار مع القوى السياسية المختلفة. وعمله في تعبئة إعلامية ودبلوماسية لصالح الأجندة الوطنية.
  3. واصلت الحركة الشعبية موقفها الحربي الذي اتخذ طابعا جديدا بتحالف حربي مع إريتريا أدى لنقل قوات من الجيش الشعبي لحدود إريتريا مع السودان. وأدى لاندماج قوات التحالف مع الحركة الشعبية وجيشها وهي خطوة تظهر عليها بصمات إريتريا. ولكن الجديد في موقف الحركة الشعبية هو انتقالها لموقف هجومي سياسي وصل قمته قبيل استعداد قيادتها للسفر لواشنطن لمقابلة المسئولين الأمريكيين هناك.
  4. مبادرة الإيقاد في إطارها المعهود وصلت لطريق مسدود فأقدم رئيسها (الرئيس موي) نحو إطار جديد، إطار قمة رباعية. هذه القمة بمكن أن يحول دونها تحفظ مصري إذا كانت ستعقد على أساس إعلان مبادئ الإيقاد.
  5. المبادرة المشتركة شلتها المناورات ولم تستطع مراجعة موقفها ولا آلياتها لتهزم المناورات لذلك صارت شبه مجمدة.
  6. منذ نوفمبر الماضي تحرك جهد أمريكي عبر النقاط الأربع التي اقترحها فحقق تقدما عمليا في مجال وقف إطلاق النار في منطقة جبال النوبة- وفي مجال التحقيق عن مسألة الرق- والممرات الآمنة للإغاثة- واتفاقية حماية الأهداف المدنية التي وقعتها الحكومة ولم توقعها الحركة بعد.

الجهد الأمريكي سوف يتخذ شكلا أوضح في المرحلة القادمة على ضوء تقرير السناتور دانفورث للرئيس الأمريكي. وسوف يكون المفوض شخص ذو إلمام أكبر بالشأن السوداني وعلاقة الصق بالإدارة الأمريكية. ولكن الجديد في أسلوب التوسط الأمريكي أنه تحول من مجرد التوسط للتحكم. ومن التوسط الساكن إلى الضغط.

ما هو الموقف الآن؟

أهدافنا واضحة خلاصتها:

  • السلام العادل.
  • التحول الديمقراطي الحقيقي.
  • الربط بينهما.
  • تحقيق أعلي درجات الاتفاق بين القوى السياسية السودانية حول مبادئ الحل السياسي الشامل.
  • الاستفادة من هامش الحرية المتاح لتنظيم حزبنا وكياننا.

الوسائل:

  1. تكملة التفاوض مع النظام إلى أقصى درجة ممكنة.
  2. التفاوض مع كافة القوى السياسية الأخرى.
  3. التعبئة على الأصعدة: الشعبية- الدبلوماسية- إعلامية.

بعد هذه المقدمة أقول:

في منتصف شهر مارس قدم الأخ رئيس القطاع السياسي رؤية للموقف السياسي للجهاز التنفيذي تشمل قراءة معينة للموقف السياسي والمستجدات. ولدى تنوير رئيس الحزب في اجتماع المجلس القيادي قبل الأخير لخص رئيس القطاع السياسي تلك الرؤية. وبعد ذلك أعلن رئيس الحزب أن علينا أن نعقد جلسة خاصة لقراءة الأحداث وتقيمها وتحديد ماذا بعد؟ ثم وزع رئيس القطاع السياسي مذكرة بدون تاريخ على المكتب السياسي في يوم الاثنين 13 مارس 2002م. التسلسل الصحيح لتناول هذا الموضوع هو أن يقدم التقييم المقترح للمجلس القيادي وقد اتفق على عقد جلسة لذلك. ثم يناقش الموضوع في المكتب السياسي وما يقرر يحال للجهاز التنفيذي لتنفيذه لا لرسم السياسات.

هذه المسائل معلومة ما فيها من غموض إن وجد إجلاؤه لائحيا. ولكن بصرف النظر عن الخطأ الإجرائي فإن ما ورد في المذكرة رؤية يجب أن تناقش بحدية وموضوعية.

خلاصة ما جاء في المذكرة:

  1. أن موقفنا الاستراتيجي صحيح. وقراءته المبكرة للأحداث صائبة.
  2. لكن الحزب لم يستطع تثمير ذلك في اتخاذ الأهداف المرجوة. أي أن الحزب من الناحية العملية أخفق وإن كان من الناحية الاستراتيجية مصيب.

والآن فإن علينا أن نراجع الأمر بما يمكننا من تفعيل حزبنا.

  1. أبدأ بملاحظتين على هذه القراءة:

الملاحظة الأولى: أن البرامج والسياسات العملية والإجراءات التكتيكية تمثل تنفيذا مرنا للاستراتيجية وليس بديلا عنها وإلا كما قال العز بن عبد السلام: “كل إجراء يناقض مقاصده باطل”.

إن موقفنا الذي سميناه الطريق الثالث هو موقف ملتزم بالتحول الديمقراطي الحقيقي والسلام العادل ويعنى ذلك تمييز موقفنا من شمولية النظام وحربية الجيش الشعبي بل والتدويل الخبيث. نحن استراتيجيتنا ضد هذه الرايات الثلاث.

الملاحظة الثانية: إن في هذا التقييم ظلما على أداء حزب الأمة. الذي حقق الآتي في الساحة السياسية والدبلوماسية:

تطويق النظام بمطلب التحول الديمقراطي الذي ظهر جليا في حملات التعبئة الشعبية الواسعة في النيل الأبيض، والنيل الأزرق، الجزيرة، والشمالية. وبصورة واضحة في الموقف الطلابي حيث يتقدم أبناؤنا وبناتنا كافة التنظيمات الأخرى. وحيثما أجريت انتخابات حرة حققوا رقما انتخابيا متفوقا.

والموقف الآن هو أن الحركة الطالبية بصدد دورة انتخابية حرة في كل من: جامعة النيلين- جامعة الخرطوم- جامعة كردفان- الجامعة الإسلامية- جامعة السودان- جامعة الجزيرة. وتجرى مشاورات بشأن الجامعة الأهلية. والتقدير أن لأبنائنا وبناتنا الفرصة الأكبر لتحقيق نصر انتخابي والتقدير أن موقفهم الفكري والسياسي هو الأفضل والذي يشد إليه الجماهير الطالبية.

هنالك إشعاع ديمقراطي انطلق من الظروف الموضوعية ومن حدة المشاكل وانعكس هذا على موقف المزارعين التابعين للمؤتمر الوطني حيث اسقط القيادة المفروضة وانتخبوا قيادة بديلة. وكان تقدير مؤتمر مزارعي الحزب في الحصاحيصا إنه إذا أجريت انتخابات مزارعي الجزيرة حرة فإن فوزهم مؤكد.

موقفنا في مجال منظمات المجتمع المدني هو الأبرز. على سبيل المثال مؤتمر مركز الدراسات السوداني- ندوة العميد في جامعة الأحفاد- مؤتمر عنتيبي في يوغندا. الحقيقة هي أنه حيثما وجد نشاط لدى هذه الهيئات فإن موقف حزب الأمة في الصدارة.

ومع غياب لسان حال الحزب صحافيا فإن حزب الأمة استطاع أن يدعم حرية الصحافة وأن يجعل مواقف رؤساء التحرير وكتاب الأعمدة غالبا مؤيدة للأجندة الوطنية. والدليل على تغلب اتجاهنا السياسي: الأجندة الوطنية، والتفاوض، والتعبئة، ونبذ العنف أن كثيرا من الأحزاب السياسية التي شجبت موقفنا في الماضي تحولت نحوه كما يبدو واضحا في مواقف: الاتحادي الديمقراطي، والحزب الشيوعي.

ولأول مرة صارت الحركة الشعبية تتعاطى أسلوب الهجوم السياسي اقتباسا من أسلوب حزب الأمة. واجهة الحركة ضغطا كنسيا في اتجاه التجاوب مع مشروع السلام كما بدأ واضحا في بيان قساوسة كمبوني في يناير 2001م وموقف مؤتمر كسومو في يونيو 2001م، وضغطا أفريقيا في موقف الرئيس النيجيري أوباسانجو، وضغطا جنوبيا في موقف المنبر الديمقراطي لجنوب السودان، وهي أنشطة كنا على صلة بها وتعاون معها.

د.جون قرنق وهو يستعد للذهاب لواشنطن سلح نفسه سياسيا بثلاثة أسلحة سياسية فتاكة ضد النظام:

  • أنه- أي جون قرنق- يتحدث الآن باسم كل الجنوب.
  • أنه الآن يتحدث باسم كل السودان ماعدا النظام الحاكم. ووظف دعم هذا الانطباع تحالفه داخل التجمع الوطني الديمقراطي- ومذكرة تفاهمه مع المؤتمر الوطني الشعبي- اندماج قوات التحالف في تنظيمه- ولقاء التطبيع مع حزب الأمة.
  • حملة مركزة على النظام السوداني بأنه مازال يضم “إرهابيين” بل هو طالبان أفريقيا. إنه يتعامل مع القوى السياسية الأخرى التي تحاوره بعدم الوفاء بما يبرم، وبتعدد الألسنة السياسية، وباختراق صفوفهم لإضعاف موقفهم التفاوضي وامتصاصهم في نظامه. وعزز هذا الوصف بشهادة د. رياك مشار صاحب التجربة الحية.
  1. كنا على اتصال مستمر مع جماعة الاتحاد الأوربي وكانوا غالبا يركزون على السلام في السودان. وعبر عشرات المذكرات والاجتماعات أمكننا أن نبرز لهم حقيقة آن السلام مطلب أساسي ولكن لا السلام ولا حقوق الإنسان ولا أية أهداف ينشدونها يمكن أن تحمى إلا ضمن مشروع التحول الديمقراطي. وهذا ما تحقق فعلا، فإن الوزير الفرنسي في زيارته الأخيرة ركز كما لم يحدث من قبل على قضية الديمقراطية. كذلك فعلت الوزيرة البريطانية السيدة كلير شورط. بل أكد مندوب الاتحاد الأوربي (المستر مارشال) أنهم قد قالوا للحكومة السودانية أننا سنواصل حوارات التطبيع ولكن التطبيع مشروط بتقدم الحوار السياسي في السودان. وقالوا: الاتحاد الأوربي ملتزم ضمن اتفاق كوتونو (الاسم الجديد لاتفاقية لومي) بدعم تنموي للسودان يقدر بحوالي 405 مليون يورو أي ما يساوي دخل السودان سنويا من البترول. وأن هذا الدعم رهن نجاح الحوار السياسي. وأن أطراف الاتفاق على دعم كوتونو ثلاثة هي: الاتحاد الأوربي- الحكومة- المجتمع المدني السوداني.

هذه التوجهات تتماشى مع الرؤى التي عبر عنها المفكرون والمثقفون الأوربيون في محاصات الرأي Think Tanks . كان اجتماعنا الأخير في مدينة بادرمون الألمانية بدعوة من مؤسسة برتسلمان وهي أكبر مؤسسة إعلامية أوربية ودعت لهذه الندوة بمناسبة مرور 25 عاما على تأسيسها. وكان الرأي السائد هو:

  • التنمية ضرورة في البلدان الفقيرة.
  • الديمقراطية توفر أفضل وسيلة للحكم الصالح والمساءلة والشفافية وكفالة حقوق الإنسان.
  • هنالك عوامل ثقافية تساعد أو تعاكس التنمية والديمقراطية يجب مراعاتها.
  • محاربة الإرهاب بوسائل أمنية فقط غير مجدية. المطلوب تجفيف مصادر الإرهاب ومن أهمها: القهر والفقر.
  • العالم الغني ينبغي أن يدعم التنمية في العالم الفقير. ولكي يفصل ذلك فإن على العالم الفقير أن تداس بلدانه بحكم صالح يكفل سيادة القانون والمساءلة والشفافية أي حكما ديمقراطيا.

كان هذا التوجه في يوم الأربعاء 17 مارس 2002م والصدفة المدهشة أن الرئيس الأمريكي بوش أعلن في يوم الخميس 18 مارس أن بلاده ستزيد دعمها للتنمية في البلدان الفقيرة بمبلغ 5 مليار دولار  بشرط أن تكون حكوماتها ديمقراطية.

  1. قمنا بحملة عريضة ضد السياسة الأمريكية نحو السودان عندما كانت إدارة الرئيس الأمريكي كلنتون تدعم فصيلا سودانيا واحدا لتصعيد الضغط العسكري، ثم بدأت رياح تغيير تهب أولها مذكرة المجلس العالمي للدراسات الاستراتيجية (CSIS) ثم قرار إدارة بوش اتجاها سياسيا بدعم الحل السياسي في السودان وتحقيق السلام الشامل