قمة مالي الأفريقية

بسم الله الرحمن الرحيم

قمة مالي الأفريقية

26 يونيو 2005م

في إطار مشروع “مبادرة رجال الدولة الأفارقة”، عقدت  “قمة القيادة والحكم الديمقراطي” التي تبنتها منظمات ودول هي: نادي مدريد، والمؤسسة الديمقراطية القومية للعلاقات الدولية (الأمريكية)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، ومؤسسة بيل وميلاندا جيتس،  والمركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، و”المنحة القومية للديمقراطية”NED الأمريكية، والحكومات: المالية، والألمانية، والهولندية والبريطانية. عقدت القمة في الفترة ما بين 5-8 يونيو 2005م الحالي، بباماكو عاصمة جمهورية مالي.  وقد شاركتُ في تلك القمة ضمن وفد نادي مدريد، وسط عدد من رؤساء الدول والحكومات الأفارقة السابقين في شبه غياب لأفريقيا شمال الصحراء.

احتوت القمة على ست حلقات نقاش ألقيت فيها محاضرات ودارت نقاشات حول:

1/ القيادة،  الأمن،  وإدارة النزاعات.

2/ ضوابط نزاهة الانتخابات ومهام المراقبين لها.

3/ التحديات الصحية التى تواجه التحول الديموقراطي فى أفريقيا.

4/ التنمية الاقتصادية وأهداف الألفية للتنمية فى أفريقيا.

5/ التحول الديمقراطي : الحكومة، البرلمان، والمجتمع المدني.

6/ التعاون بين الرؤساء السابقين فى مهام القيادة بعد تخليهم عن المناصب التنفيذية.

كانت المناقشات جادة وشاملة وبها درجة معتبرة من النقد الذاتي للأداء الأفريقي، ومن النقد الهيكلي، والنقد لأداء التعاون بين العالم الفقير والعالم الغني فى كل المجالات. وقد خرجت القمة بإعلان باماكو الصادر عن “مبادرة رجال الدولة الأفارقة”.

أشار البيان للدور الهام الذي يلعبه الرؤساء السابقون بعد التخلي عن المسؤليات التنفيذية، وكيف أن اهتمامهم قد انصب –بعد التخلي- فى تحقيق الأمن والتنمية في القارة وفى التطلع لنظم انتخابية نزيهة وشفافة ومحققة لمشاركة النساء والشباب، كما عملوا كوسطاء فى فض النزاعات وساهموا في التكوينات الإقليمية الجديدة مثل الاتحاد الأفريقي والنيباد ممثلين أفريقيا فى المنابر الدولية. وكيف أن تجاربهم تؤكد باستمرار أن الديمقراطية هى شرط لازم للسلام، وللأمن، وللتنمية، ولتحقيق السلام الاجتماعي، وأنهم يؤكدون التزامهم بالتالي بالعمل بكل الوسائل لدعم التحول الديمقراطي والسلام فى القارة.

ذكر البيان المبادرات المختلفة (لمأسسة) مساهمات الرؤساء السابقين – مثلاً- مجلس الحكماء المقترح فى ظل مبادرة النيباد, وفى إطار الكمنولث, ومبادرة برنامج الأمم المتحدة التنموي لتأسيس معهد “الحوكمة” الأفريقية، مؤكدا ضرورة دعمها، وكذلك دعم كافة المجهودات لبناء مؤسسات ديمقراطية قوية في القارة. وضرورة اقتصار دور المؤسسات العسكرية في الدفاع والأمن وحماية المدنيين بشرط خضوعها للقيادة المدنية.

ناشد البيان الأسرة الدولية أن تساهم فى هذه التطورات وأن تدعم عمليات حفظ السلام الإقليمية والدولية، فالنزاعات التي تقلق استقرار القارة ينبغي حلها على أسس مستدامة تقوم على المصالحة والعدالة والديمقراطية، مؤكدا -بالإشارة للنزاعات الأخيرة فى بعض الدول- أن الحل يكون بالتعاقب السلمي على السلطة عن طريق انتخابات حرة ونزيهة وملتزمة بالمقاييس الدولية ومراقبة مراقبة محايدة لكيلا  تصبح الانتخابات نفسها سبباً في نزاعات جديدة. باعتبار أن الانتخابات الحرة الشاملة التي تحقق المشاركة الواسعة للمواطنين هي الأساس الوحيد الصحيح لحسم التنافس على السلطة، ولا يمكن أن تكون صحيحة ما لم تحترم الحقوق المدنية والسياسية المعترف بها عالمياً، فإن قصرت عن ذلك تضر ولا تنفع.

أكد “إعلان باماكو” عزم القادة الأفارقة على دعم كل ما من شأنه إقامة مؤسسات تشريعية، وقضائية، قادرة على تحقيق سيادة القانون ومساءلة الحكام عبر مؤسسات منتخبة. وتطرق لموجبات البناء الديموقراطي مثل قيام الأحزاب السياسية على أساس ديموقراطي فى تكوينها الداخلي، وأن يكون النظام السياسي نفسه مفتوحاً لصوت الأقليات ومتيحاً لدور المعارضة السياسية؛ ومثل قيام حكم محلي ديموقراطي.

تطرق الإعلان أيضا للمخاطر الصحية فى إفريقيا كالملاريا، والسل، والأيدز، وضرورة اعتبار هذه المخاطر قضايا قومية داخلياً وقضايا دولية خارجياً، مؤكدا أن هجرة العاملين في المجال الصحي من بلدانهم تساهم فى عجز البلدان عن مواجهة المخاطر الصحية والمطلوب تنفيذ برامج تحول دون تلك الهجرة وتحفزهم على البقاء في أوطانهم.

وضع البيان تحقيق التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر والعطالة كأولوية قصوى فى أفريقيا وأهم مدخل لها هو أن تكون الحكومات قائمة على المشاركة والمساءلة الشعبية، ثم تطرق للدور الدولي اللازم لمساندة القارة، فقيام الدول بواجبها عن طريق الحكم الصالح لا يكفي ما لم تصحبه شراكة دولية تحقق الدعم التنموي وتفتح مجال التجارة العالمية أمام الدول الفقيرة بمراجعة سياسات الدول الغنية المعلومة التي تقفل أبواب التجارة أمامها وتزيل أعباء الديون الخارجية التي تراكمت فى ظروف مختلفة، كما أن التركيز على إزالة الفقر وتحقيق الأمن الغذائي والتحول التنموي توجب بالإضافة لمراجعة سياسة الدول الغنية مراجعة سياسات المؤسسات المالية والاقتصادية والتجارية الدولية –كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية- لكي تتمكن الدول الفقيرة من تحقيق تلك الأهداف.

وقد رحب الإعلان بالدعم الدولي للديموقراطية في كافة مستويات الحكم وبصندوق الأمم المتحدة المقترح لدعم الديموقراطية مطالبا بتوفير الإمكانات  اللازمة له.

وعلى هامش الاجتماعات عقد الرؤساء السابقون اجتماعاً مغلقاً استعرضوا فيه فكرة تكوين منبر دائم لرؤساء الدول والحكومات السابقين فى أفريقيا، وقرروا من حيث المبدأ قيام هذا المنبر على أن تجرى مشاورات موسعة للاتفاق على التفاصيل، يقوم بتنسيقها جواكيم شيسانو رئيس موزمبيق السابق.

إن هذه القمة هي مجرد دفقة في موجة الديمقراطية المكتسحة لمناطق العالم التي تأبت عليها  في البداية، فقد انطلقت موجة الديمقراطية من أوربا الجنوبية في سبعينات القرن العشرين (أسبانيا- البرتغال- اليونان) وعمت أمريكا اللاتينية في الثمانينات (ما يسمى بالموجة الأولى) وتمددت في أوربا الشرقية في التسعينيات (الموجة الثانية) ثم توجهت لأفريقيا فيما بعد ولا زال مدها متواصلا (الموجة الثالثة).. إن إفريقيا اليوم تتحول، وقادتها يحزمون أمرهم ويمضون في تحطيم آخر جنبات السور الأوتقراطي ليمر النور للأجيال الأفريقية القادمة.. نعم إن أمامهم تحديات جمة تكمن في توطين الديمقراطية في البيئة الأفريقية الثقافية والسياسية الماثلة، وفي مواجهة قضايا الفقر والأوبئة والتردي التنموي، ولكنهم قد عرفوا الباب فلن يكل طارقهم.

إن غياب أفريقيا شمال الصحراء عن مثل هذه المنابر راجع لدرجة كبيرة للعزل المفروض على القارة -من بنيها ومن العالم- بين شمالها وجنوبها وهو عزل يجانبه الصواب. سبب آخر ربما: هو أن الوعي بضرورة التحول الديمقراطي لم يبلغ في شمال القارة مبلغه جنوبها.

يبقى لنا الآن أن نعمل وليس فقط نحلم بالموجة الرابعة التي نرجو أن تكتسح آخر قلاع الشمولية في المعمورة: العالم العربي، وألا يكل في ذلك طارقنا، إذ كما يقول أهلنا في السودان “المطرودة ملحوقة”!.