كلمة تأبين الحاج مضوي محمد أحمد

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الإمام الصادق المهدي
في تـأبين الحاج مضوي محمد أحمد
17/8/2009م

اللهُمَّ إنِّي أحْمَدُكَ وأُثْنِي لَكَ الحَمْدَ يَا جَلِيلَ الذَاتِ ويَا عَظِيمَ الكَرَمِ، وأَشْكُرُكَ شُكْرَ عَبْدٍ مُعْتَرِفٍ بِتَقْصِيْرِهِ فِي طَاعَتِكَ يَا ذَا الإِحْسَانِ والنِعَمِ، وأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِحَمْدِكَ القَدِيْمِ أَنْ تُصَلِّيَ وتُسَلِّمَ عَلَى نَبِيِّكَ الكَرِيْمِ وعَلَى آلِهِ ذَوِيْ القَلْبِ السَلِيْمِ، وأَنْ تُعْلِيَ لَنَا فِي رِضَائِكَ الهِمَمَ، وأَنْ تَغْفِرَ لَنَا جَمِيْعَ مَا اقْتَرَفْنَاهُ مِنَ الذَنْبِ والّلمَمِ.
أما بعد،
أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي
مع حفظ الألقاب والمقامات لكم جميعا، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
كلما يفرض عليّ الوفاء والحزن أن أقف مؤبناً علماً من أعلام الوطن أحث نفسي أن أدحض مقولة أبي العلاء المعري العدمية:
إن صيحة في ساعة الموت آلاف سرور ساعة الميلاد
لدحضها وجعل الموت الحسي إحياءً معنوياً، بل اتخاذ سيرة الراحل أو الراحلة مادة لإقامة تمثال معنوي يكتب للراحلين حياة في الدنيا بعد الموت على نحو مقولة إبراهيم عليه السلام: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) . تمثالا معنويا يستنهض بقدوته الأجيال ويستنطق الأفعال من باب:
وفي حياتك كانت للألي عبر وفي مماتك كانت للألي عبر
فيما يلى انحت تمثالاً معنوياً لفقيدنا الراحل:
أولا: الحاج مضوي يمثل عبقرية الإنسان العادي الذي تفجر طاقاته الحركات التاريخية الكبرى. طاقات الحاج مضوي فجرتها حركتان تاريخيتان هما: حركة استرداد السيادة الوطنية من الاستعمار؛ والثانية: حركة استرداد الديمقراطية من النظم الانقلابية التي مهما أدعت لنفسها من نوايا وأهداف صادرت الحريات العامة ومرغت كرامة المواطن. وفي المجالين أبلى فقيدنا بلاءا حسنا يواجه ويناضل:
أصم عن غضب من حوله ورضا في صولة تلد الأبطال أو تئد
ثانيا: كواسر الحيوان وبعض البشر يملكون شجاعة غريزية كالتي وصفها بشر لدى لقائه أسدا:
أفاطم لو شهدت ببطن خـبت فقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذن لـرأيـت ليـثا أمّ ليثـــــــا هزبـرا أغلـــبـا لاقى هزبرا
أما الشجاعة الأدبية فهي من باب مقولة النبي (ص): “أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” .
خصلة وصفها أمير شعراء السودان في عصره عبد الله البنا في رثاء والده:
قد كان يؤثر أن يقول الصدق لا يبغى به بدلا ولا يتخوف
هكذا كان موقف الراحل العزيز في عهود الطغيان.
ثالثا: بعض الناس يظن أن المعرفة بالشهادات وقد عرفت بعضهم يباهي بعدد شهادات الدكتوراة التي حصل عليها ولكنه لدى الامتحان في دروب الحياة حاله:
كم منجب في تلقي الدروس تلقى الحياة ولم ينجــــب
وآخرون يرون أن الأمي أو قليل التعليم النظامي جاهل بينما التاريخ زاخر بهؤلاء متصفين بالحكمة وفصل الخطاب.
كان فقيدنا موشحا بالحكمة ووضوح الرؤية: “أناجيلهم في صدورهم” يسدد آراءه كالسهام:
لربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران
هذا ليس تهوينا من شأن الشهادات، ولكن تأكيدا أنها وحدها لا تكفي. ولا هو عزوف عن التعليم النظامي ولكنه بيان بأن مواهب الإنسان أوسع من مقاساته.
رابعا: في صراع الرؤى بين المركز والأطراف في السودان خص كثيرون الجلابة بنقد غير موزون. إن للجلابة دورا هاما في بناء السودان الحديث: دفعوا استحقاقات الاغتراب عن أوطان مولدهم مغامرين في مناطق صعبة. ودفعوا استحقاقات الاستثمار بالادخار على حساب مطالبهم الاستهلاكية ناقلين السلع من أماكن إنتاجها للأسواق ومتحلين بأخلاق التدبير على نحو أوصاف ماكس فيبر. وكان لهم عطاء في مجالين هامين:
الوعي بالسودان الوطن الموحد، وتوسيع اقتصاد السوق حيث يرزق الناس بعضهم بعضا.
كان فقيدنا من هذا الفصيل النافع الذي سوف يعترف التاريخ بفضله لا سيما بعد أن تآكلت الطبقة الوسطى فتآكل معها الوطن.
نعم على الجلابة بعض المآخذ ولكن:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
خامساً: ساسة الديمقراطية وأحزابهم نالوا قسطاً كبيراً من القدح لا سيما من أبواق دعايات الشمولية. ولكن مع قصر الفترات الديمقراطية بسبب الاجهاضات الانقلابية فإن لهذه الفئة من ساسة الديمقراطية الحاج مضوى وأقرانه أن يباهوا:
• لا أحد منهم أثرى من الحكم أو تكسب بالسياسة مثلما أثرى كثير من ساسة الشموليات من الحكم وتكسبوا بالسياسة حتى نشأ أثرياء حكم على وزن أثرياء حرب.
• لا أحد منهم تعدى على حقوق الإنسان، ولا على الحريات العامة، ولا على استقلال القضاء، ولا على حياد الخدمة المدنية، ولا على قومية القوات النظامية بينما النظم الشمولية تعدت على كل تلك الحرمات.
• وعلى كثرة التآمر على الديمقراطية الفاشل والناجح لم تُعدِم الديمقراطية أحداً مدنياً كان أو عسكريا لأنها تمسكت بالضوابط القانونية ولم تأخذ بالشبهات. بينما النظم الانقلابية فعلت الأفاعيل على نحو مقولة حيص بيص:

كافة القوى الوطنية والمدنية من كل الأحزاب مستلهمة السودان العريض قادرة بحكم تكوينها ونهجها على إدارة التنوع لبناء الوطن وسد منافذ التمزق والتدويل ولاول مرة فتح نظام مغلق فرصة تجعل التداول السلمي للشأن الوطني ممكن إذا توافرت مع ذلك بعض الاستحقاقات هذا تطلع الفقيد وآخرون وهو الترياق الوحيد المضاد للتمزق والتدويل.
يقول بعض الناس هذا حلم لن يتحقق ولكن تحقق مرات في تاريخ السودان. وأما اخفاقنا في تحقيقه مؤخراً فلا ينبغي أن يثنينا لأن الظروف توجيه والمستقبل يتطلبه.
قال أحد الحكماء لا تقل فشلت عشرة مرات بل قل اكتشفت عشرة طرق تؤدى للفشل واستعد لمحاولة جديدة.
فما ضاع حق قام عنه مطالب والحق موعود بالنصر: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) .
ألا رحم الله الحاج مضوى محمد أحمد وأحسن عزاء أسرته الخاصة زوجة السيدة زينب وأبنائه عمر وأخوانه وبناته عائشة واخواتها وسائر أرحامهم وأصهارهم واحسن الله عزاء عشيرته وحزبه والوطن عامة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).