محاضرة: ضوء على العسكرية والحياة المدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

محاضرة: ضوء على العسكرية والحياة المدنية

بمناسبة تخرج الملازم أول محمد أحمد الصادق من الكلية الفنية العسكرية المصرية

والملازم بشرى الصادق من الكلية الحربية المصرية

14 أغسطس 2002م

 

مقدمة

نحن قوم ما برح كياننا العام يقدم للسودان النفس والنفيس، ومع ذلك، وربما بسبب ذلك، حرمنا وما زلنا من حقوق المواطنة في أكثر الفترات منذ استقلال السودان الذي كان لأهلنا على الصعيد الخاص والعام قدحا أعلى في تحقيق الأول منه في يناير 1885م وفي تحقيق الثاني منه في يناير 1956م، وبسبب ذلك الحرمان لم نجد فرصا في الكلية الحربية السودانية، وعندما تأهل بعضنا والتحق بالقوات المسلحة السودانية تم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية لا لاتهامهم بأية جنحة أو تهمة ولكن لمجرد اسمهم.

علما بأن الانقلابيين الذين خرقوا القسم والدستور والقانون شهدوا لنا بالامتناع عن محاولات استغلال القوات المسلحة في السياسة، وعلما بأن توجيهنا لمن امتهن العسكرية من أبنائنا كان دائما “التزموا بالعسكرية انضباطا وبالقومية اتجاها”.

المفارقة أن الملتزمين بالانضباط والقومية يعاقبون، وأن المعتدين على الانضباط وعلى الشرعية الدستورية هم الذين يصدرون عليهم أحكام العقوبة!!.

لولا هذا الحرمان لما اضطر بعض فلذات كبد السودان لنيل التأهيل العسكري في المرحلة الأولى في بلد غير السودان.

هذا الاضطرار حمل إلينا مزية في طي بلية. ربما لا يستغرب أحد أن يكون تأهيلهم في الأردن، ولكن بعض الناس يستغرب أن يكون في مصر.

يقولون: مصر حاربت السودان واشتركت في هزيمة جيش المهدية وساستها ما برحوا يطالبون بحق الفتح بالسيادة على السودان.

الحقيقة هي أن مصر التي حاربتنا تاريخيا هي مصر الخديوية التي كانت الطبقة الحاكمة فيها طبقة غير مصرية، وكان المواطن المصري لا يطمع أن يولي فيها وظيفة إلا دنيا. وفي ذلك الوقت أي في الخمس الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي كان الشارع السياسي المصري متجاوبا مع  تيارين: تيار البعث الإسلامي بقيادة جمال الدين الأفغاني ومحمد  عبده،  وتيار البعث الوطني بقيادة أحمد  عرابي وأعوانه. كان التياران معاديين للحكم الخديوي في مصر ومعبرين ضده بنفس التهم التي أطلقتها ضده الثورة المهدية. لذلك كان التياران مرحبين بالثورة فرحين بانتصاراتها.

لقد كانت مصر الوطنية الشعبية مسرورة بانتصارات الدعوة المهدية في السودان. أما مسألة السيادة فقد كانت دليلا على قصر نظر بعض الساسة المصريين لمجاراة المنطق الدولي الاستعماري البائد وقد تخلت عنها مصر فيما بعد معترفة بأن سيادة السودان لأهله.

هكذا انفتح الباب لتصالح مصيري بيننا وبين أهلنا في مصر. تصالح يؤسس لعلاقات تنمو وتتطور بلا سقف نحو مصير مشترك.

إن تخريج حفيدي الإمام المهدي من مؤسسات حربية مصرية يرمز لهذا التصالح التاريخي ويعزز خدمتنا جميعا لقيم حضارية مشتركة.

هاهنا يقول قائل لقد اهتممتم بالعسكرية في مرحلة المواجهة العسكرية في البلاد وها هو السلام  قادم.. أليس هذا رهانا على أمر طارئ تفقده الظروف قيمته؟.. ويستمر قائلا: العسكرية مهنة سيئة السمعة إن كان لها ما يبررها في ظروف الحرب فلا مبرر لها في ظروف السلام.

 

أقول،

لقد ساءت سمعة العسكرية في الأوساط المدنية واللبرالية عامة، وفي السودان خاصة وقد قيل عنها:

  • أنها مهنة الفاشلين أكاديميا وخيار من لا خيار له.
  • أن وسيلتها لحسم الخلافات هي العنف والعنف وسيلة يائسة من الظفر والناب برهانها.
  • أنها مصدر الانقلابات والإطاحة بالنظم الشرعية وتأسيس العسكرتارية.
  • إن الحكام الذين ولتهم الانقلابات العسكرية كانوا الأجهل والأفشل في الحياة السياسية السودانية استطالت أعمار نظمهم لما أعطوا لأمن النظام من أولوية وساءت أعمالهم.

أقول، كثير من تجارب الواقع تغذي هذه الانطباعات والمقولات ولكن:

  • العسكرية ليست مجرد مهنة. إنها جزء من التربية الصحيحة لأي مواطن.. إنها برنامج تربوي مطلوب للناس جميعا.
  • العسكرية ضرورة أمنية ودفاعية لأية جماعة مهما كانت آمنة، فالدفاع كالإدارة وتدبير المعيشة والخدمات الاجتماعية جزء لا يتجزأ من كيان الجماعة.
  • التنازع والاقتتال جزء من طبيعة الاجتماع البشري فلم يوجد اجتماع بشري خال منه. العسكرية هي وسيلة الاستعداد لهذه المهمة الطبيعية. وللاقتصاد فيها ما أمكن ذلك لأنها مثلما تحرص على التدريب والهجوم تحرص على استخدام القوة المناسبة لا أكثر، وعلى الانسحاب إذا لزم.. لذلك أفضل وسيلة لأداء دورها الدفاعي هو أن تردع العدوان وتمنع  المعتدين على نحو ما في الآية : }وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم{.. القوة المانعة تغني عن استخدامها!!.
  • التفكير في توظيف هذه المهنة الشريفة للتسلط على الآخرين تجاوزا لشرعية نظام المجتمع مرض أسبابه انحراف مشترك بين طموحات عسكريين غير منضبطين ومؤامرات مدنيين متسلطين.. إنها مرض مجتمعي جراثيمه عسكرية ومدنية.
  • العسكري المنضبط بطبيعة حاله ليس انقلابيا، الانقلابيون عسكريون يخرقون قواعد المهنة قبل أن يخرقوا شرعية الحكم.
  • العسكرية تربية فاضلة.. والعسكريون الذين دخلوا السياسة من أبوابها كآيزنهاور وكولين باول أو في محيطنا السوداني صلاح عبد السلام، وفضل الله برمة، ويوسف أحمد يوسف، وعبد الماجد حامد خليل كانوا مثلا طيبا لساسة ناجحين.
  • الحق المجرد عرضة لهجوم المعتدين. لقد كنت أقول لجدي ولأبي -والأول كان يشجعني رغم صغر سني حينها أن أدلي بالرأي مهما كان جريئا- أقول لهما: حبذا لو كان عدد منا نحن أبناءهما في القوات المسلحة. وكنت أتمنى ذلك لنفسي لا لكي نستخدم القوات المسلحة لأغراضنا الخاصة أو السياسية. ولكن لكي نحول دون استخدام آخرين معتدين لها فيفرضون على البلاد رؤاهم غير المشروعة ويحرموننا حقوقنا المشروعة.

الحق ينبغي أن تدعمه القوة.وأكثر المجتمعات المعاصرة قوة عسكرية هي تلك التي تكفل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. إن أقوي المجتمعات عسكريا، وشرطيا، وأمنيا، هي المجتمعات الديمقراطية. وأقوي الكيانات العسكرية تدريبا وكفاءة قتالية هي العسكرية القائمة على الضبط والربط المغلفة تماما من صراعات السلطة السياسية. وأضعف الكيانات العسكرية هي تلك التي تخوض في صراع السلطة السياسية فتفقد الانضباط وتظهر أداء متدنيا في إدارة السياسة والاقتصاد. كل التجارب الانقلابية في جنوب أوربا وفي آسيا وفي أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا أثبتت هذه الحقيقة.

  • العسكرية علم معارفه واسعة الآفاق توجب الحرص على اكتساب المعارف العسكرية بلا حدود. وهي مع ذلك تفتح الباب لأصحابها لاكتساب معارف أخرى  وللخوض في أنشطة مدنية كثيرة كالمشاركة في التنمية وفي تشييد البنيات التحتية. إن للعسكرية دورا فكريا، وثقافيا، وتنمويا  كبيرا في المجتمع إذا هي أقدمت على هذه المهام من أبوابها.
  • إن للتربية العسكرية والتدريب للمدنيين أهمية خاصة في المجتمع والتربية العسكرية والتدريب لكل المجتمع واجب وطني. كما أن تمدد العسكريين في الأنشطة المدنية من أبوابها واجب وطني. هذه المهام العسكرية للمدنيين، والمدنية للعسكريين مطلوبة وهي تؤكد تكامل هذه المهام في المجتمع مع الحرص على التخصصات وإتيان الأمور من أبوابها وهذا من شأنه أن يحقق عافية المجتمع ويزيل التضاد الحاد بينما هو عسكري وما هو ملكي.
  • في مجالنا الخاص، كان النظام في المهدية يوجب تطابقا محكما بينما هو ملكي وعسكري. في المرحلة الثانية للمهدية كان التمايز تاما بينما هو مدني وسياسي وما هو عسكري. في المرحلة الثالثة الحالية المطلوب التمايز الوظيفي والتكامل المجتمعي.
  • إنني إذ أرحب بالإضافة الجديدة التي يمثلها التحاق الشابين محمد أحمد وبشرى بركب الحياة العامة في بلادنا أرجو أن تفسح قومية القوات المسلحة لهما المجال لممارسة مهنتهما، وأن يكونا سفيرين لجيلهما من العسكريين للعسكرية المنضبطة في وظيفتها الواعية بمجتمعها المستعدة لخدمته من أبواب المهمات المختلفة المعرضة تماما عن التفكير الانقلابي الذي ما أورث قواتنا المسلحة وبلادنا إلا الشر والضرر والضرار.