ورقة: أيديولوجية المهدية: تركيزا على التجربة السودانية

بسم الله الرحمن الرحيم

هيئة الأعمال الفكرية بالتضامن مع المستشارية الثقافية الإيرانية

سمنار: المخلص  والمهدي في التراث الإنساني والديني

12 شعبان 1427ه، الموافق 6 سبتمبر 2006م

ورقة:

أيديولوجية المهدية:

تركيزا على التجربة السودانية

الإمام الصادق المهدي

هنالك عقائد لاهوتية تجعل الأمر كله ثيوسنترك Theo centric  بصورة تجعل الإنسان  مجرد متلق. وهنالك أفكار ناسوتية تجعل الأمر كله انثروبوسنترك Anthropocentric  تجعل الإنسان مقياس كل شئ. الوسطية الإسلامية لا تقبل هذا الشطط بطرفيه فالله هو الخالق ولكنه أودع في الإنسان قبسا من روحه وجعله خلاف سائر المخلوقات مخيرّا.

الفصل الحاد بين  اللاهوت والناسوت شطط والصحيح هو الوصل على نحو ماجاء في الآية: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ[1]).

إن للإنسان حاجات فطرية والدين يشبع تلك الحاجات لذلك لم يخل مجتمع إنساني من الاعتقاد الديني. الفكر العلماني يستدل بهذه الحقيقة على أن الدين من صنع الإنسان اشباعا لحاجاته. ولكن الصحيح أن يستشهد بهذه الحقيقة على وجود الخالق لأنه هو الذي خلق الإنسان وطبع فيه تلك الفطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[2].

سأتناول أطروحتي عن فكرة المهدية (بالتركيز على التجربة السودانية) عبر سبعة محاور: في المحور الأول أناقش الحالة الإنسانية والحاجة لمخلّص؛ في الثاني أتحدث عن الحاجة للدين في المجتمعات الإنسانية؛ في الثالث أتحدث عن فكرة المخلص في الأديان؛ في الرابع أناقش فكرة المهدية في الإسلام: استدعاءاتها، أصولها التاريخية ومرجعياتها النقلية؛ في الخامس أذكر أهم عشر مدارس للمهدية في الإسلام (شيعية- سنية- صوفية وفلسفية)؛ في السادس أفصل الحديث عن مدرسة الإمام المهدي في السودان وملامح أيديولوجيتها؛ وفي المحور السابع والأخير أنظّرلمخطط للتعامل الحكيم مع الاختلافات القائمة حول فكرة المخلص عامة وحول المهدية داخل الإسلام.

المحور الأول: الحالة الإنسانية والحاجة لمخلص:

هذه الحاجة تنطلق من أربعة عوامل هي:

  • العوامل النفسية: وهي ثلاثة:
    • الرفض النفسي لسوء الحال في الواقع يجعل النفس مستنكرة للسوء برمته.
    • النفس المتألمة من هيمنة الباطل تمنى نفسها بحتمية زواله.
    • كافة الموجودات مستقرة بموجب قوانين الطبيعة إلا الإنسان الذي يدرك الفرق بينما ينبغي أن يكون وماهو كائن فيصيبه القلق والذي يسعى لاحتوائه.
  • العوامل السوسيولوجية وهما اثنان:
    • في كل مجتمع فرق بين المبادئ التي تسعى إليها دعوة الاصلاح وبين مايجري تحقيقه في الواقع فتنشأ فجوة بين الدعوة ونتائجها في الواقع.
    • لكل نظام اجتماعي غاية ينشدها.
  • هنالك على الصعيد الانثروبولوجي فرق بين الثقافة المثالية للمجتمعات الإنسانية والثقافة الواقعية فيها.
  • فلسفيا يتطلع الإنسان لقانون أخلاقي يجعله يعتقد حتمية انتصار الحق والعدل.

هذه العوامل الأربعة تجعل الإنسان يجسد أشواقه في التطلع لمخلص يحققها.

المحور الثاني: الحاجة للدين:

الدين عم كافة المجتمعات الإنسانية لأنه لبى حاجات البشر في كثير من المجالات وأهمها:

  • أشبع تساؤلات الإنسان عن البداية والمآل لنظام الكون وهي تساؤلات تشغل بال الإنسان.
  • أجاب على جدلية عالم الغيب وعالم الشهادة.
  • أعطى تفسيرا لجدلية الوحدة والتنوع في الكون.
  • منح مظلة للقانون الأخلاقي.
  • أعطى الإنسان البــرِم بواقعه فسحة الأمل.
  • أرضى تطلع الإنسان الفكري المستمر لصورة مثالية لأوضاع الكون.
  • أشبع الحاجة لمخلص تتطلع إليه الحاجة الإنسانية في المجالات المختلفة.

المحور الثالث: الأديان والمخلص:

كثير من الأديان غير الكتابية اشتملت على عقائد ورؤى انبعثت فيما بعد في العقائد الكتابية وهذا يعود لحقيقة أن ما نعلمه من الرسالات والكتب محدود بينما هي في الواقع أكثر مما نعلم: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)[3].

أو يعود لاكتشاف النفس الإنسانية للحقيقة بذاتها على نحو ما قص ابن طفيل في قصته “حي بن يقظان” وهي ظاهرة عرفت في التراث العربي قبل الإسلام أمثال أمية بن أبي الصلت.

في الحضارات الإنسانية كالفرعونية، والسومرية، والبابلية، والآشورية، والكوشية، والهندوسية، عقائد ومبادئ تجلت فيما بعد في الأديان الكتابية.

لقد كان للهندوسية أثراً كبيرا في الأديان الإبراهيمية لا سيما فيما يتعلق بعقيدة المخلّص. ففي الهندوسية وفي ظروف السوء والاضطراب تحل روح الكون “البراهما” في بشر يكون هو المخلص للبشرية.

اليهودية تقوم على نمط مماثل إذ تعاقب الانبياء وتواتر ظهورهم في ظروف الشدة لإنقاذ الجماعة، وفي اليهودية اعتقاد بمجئ المسيح الذي يكون على يديه الخلاص النهائي.

المسيحية في بدايتها طائفة يهودية آمنت بأن عيسى بن مريم هو ذلك المسيح المخلص. المسيحية تؤمن بعودة ثانية للمسيح ليقيم مملكة السماء وينتصر للحق ويهزم الباطل هزيمة نهائية.

إن دور عيسى عليه السلام في المسيحية كمخلص يقوم على عقيدتين: الأولى أنه مات فداءً للبشرية وغسلا لذنبها بموجب الخطئية الأولى. والثانية أنه سيعود ليقيم مملكة السماء.

بعض المسلمين ينظر للإسلام على أنه قائم بذاته ويستنكر أية صلة بينه وبين الأديان الأخرى، مع أن كتاب الله واضح في أن الإسلام حلقة أخيرة في سلسلة الرسائل وأنه واسطة في عقدها. قال تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ[4]). وقال : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[5].

الإسلام متصل بمنظومة دينية وليس منفصلا عنها، مع ما فيه من خصوصية لأنه للناس كافة وكانت لأقوامها، ومع أنه خاتم الرسالات.

ختم النبوة لا يعني الجفاف الروحي ولا انقطاع الوصال الروحي. قال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)3.

وجاء في الحديث القدسي قوله: “مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”[6].

جاء في أحاديث رسول الله(ص) بيان واضح إذ قال: ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ ‏)‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏[7]( “[8]. وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قول النبي (ص) “إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ.[9]” هؤلاء هم المحدثون بفتح الدال. قال الإمام القرطبي: ” محدثون اسم مفعول جمع محدّث أي ملهم أو صادق الظن. وهو من ألقى في نفسه شئ على وجه الالهام والمكاشفة. من الملأ الأعلى، أو من  يجري الصواب على لسانه بلا قصد أو تكلمه الملائكة بلا نبوة، أو إذا رأي رأيا أصاب كأنه حدث به أو القى في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ماوقع له.”

المحور الرابع: المهدية في الإسلام:

المهدية في الإسلام تطلع للمخلص. بصرف النظر عن الأدلة النقلية للمهدية في الإسلام وسوف نذكرها فيما بعد فإن ثمة استدعاءات للخلاص أوجبها الواقع الإسلامي.

الاستدعاءات الإسلامية لفكرة المخلص:

القرآن يشتمل على آيات تدل على. تكليف أناس بأمر الهداية العامة ومحاربة الضلالات.

قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)[10].

وفي تفسير هذه الآية روى ابن كثير الآتي: “قال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر سفيان، عن عبد الملك بن عمر، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا. ثم تكلم رسول الله كلمة خفيت علي، فسألت أبي فقال: كلهم من قريش. ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير”. قال ابن كثير: (وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا. وليسوا بأئمة الشيعة، فإن كثيرا من هؤلاء لم يكن لهم من الأمر شيئا ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا. وقد وجد منهم أربعة على الولاء هم الراشدون. ثم كانت بعدهم فترة. ثم وجد منهم ما شاء الله. ثم قد يوجد منهم من بقى في الوقت الذي يعلمه الله. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله وكنيته تطابق كنيته يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما).[11]

وثمة آيات أخرى: قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا)[12]. قال فخر الدين الرازي: الشهيد المقصود هنا ليس هو الذي قتله الكفار. بل الشهيد فعيل بمعنى فاعل: وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى: تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط.

وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار في تفسير قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[13]، أن الشهادة التي تقوم بها حجة أهل الحق على أهل الباطل تكون بالقول والعمل والأخلاق والأحوال. فالشهداء هم حجة الله تعالى على المبطلين في الدنيا والآخرة بحسن سيرتهم. وروى الشيخ حديثا في هذا الصدد عن على بن أبي طالب أنه قال: إن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة.

وفي آية أخرى قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ)[14].

وقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ)[15].

وقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)[16].

وقال: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)[17].

وقال: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[18].

وقال: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[19].

هذه الآيات صريحة في تكليف أفراد بالهداية والرشاد.

الأصولية التاريخية  للفكرة

  • في كل تراث الإنسان نجد مقدارا من التباين ما بين المبادئ المثالية المنشودة. والتطبيقات العملية لتلك المبادئ. وفي التراث الإسلامي منذ الصدر الأول بدأ بعض الصحابة يلمسون تباينا ما بين المبادئ النظرية كما نصت عليها سور القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين تطبيقاتها العملية: لقد اتهم الخليفة الثالث عثمان بن عفان في الصدر الأول بأنه يجافي العدل ويعمل بالمحسوبية وكان الصحابي المعروف أبو ذر الغفاري أحد خصوم الخليفة عثمان في هذا الصدد حتى غضب عليه الخليفة ونفاه. وعندما قام العهد الأموي ازداد التباين بين العدل الذي يوجبه الشرع والحكم الأموي فاتسعت المظالم الاجتماعية واكتسب الحكم غضب النقاد حتى قال الشاعر الأموي:

مهر الفتاة بألف ألف كامل        وتبيت سادات الجنود جياعا

لو لأبي حفظ أقول مقالتي        وأقص ما سأقصكم لارتاعا

  • وبمرور الزمن صار الحكم كسروي الملامح قيصري القسمات: لقد كان أهل السنة يشترطون في الخليفة الذي هو إمام المسلمين أن يكون حائزا على مؤهلات: أن يكون عالما بأحكام الله منفذا لها، مجتهدا غير مقلد، عادلا لإقامة الأحكام وحماية بيضة الإسلام. ولكن بعد الصدر الأول تدهور أمر الخلافة حتى وليها ذات يوم الوليد بن يزيد الذي تبارى الرواة بحق وبباطل في تصوير مجونه. رووا أنه ذات يوم فتح المصحف فوجد فيه آية وعيد، فرمى المصحف بالسهام وأنشد:

أتوعــــــد كل جبار عنيد          وهـــــــا أنذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر        فقل يا رب مزقني الوليد!!

وهكذا ضاعت هيبة الملك إلا من قليل من خلفاء بني أمية مثل عمر بن عبد العزيز الخليفة الورع وعبد الملك بن مروان.

وكان حال خلفاء بني العباس إذا استثنينا عددا قليلا منهم مثيرا لسخط الناس، ومشيرا لفجوة كبيرة بين العدل الذي ينشده الإسلام في الأحكام والواقع الذي طبقوه قال دعبل الخزاي ساخطا على بعض خلفاء بني العباس:

خليفة مات لم يحزن له أحد       وآخر قام لم يفرح به أحد

فمر ذاك ومر الشؤم يتبعه        وقام ذا فقام النحس والنكد

وقال:

أنى يكون وكيف ذاك بكائن       يرث الخلافة فاسق عن فاسق

والخلفاء ماضون في سبيلهم يجندون الأجناد لحماية ملكهم، ويحرمون الرعية من حق الشورى، ويتوارثون السلطان ولا يجد الناس سبيلا يقومون به الحكام. وبمرور الزمن صار ولاة العهد معزولين تماما من الناس: نشأتهم في عرصات القصور وأفياء البساتين. ظنوا منذ نعومة أظفارهم أن ولاء الناس لهم أمر طبيعي وأن توارثهم الملك من سنن الحياة فما بذلوا جهدا لتأهيل أنفسهم علما وفضلا ودينا، ولا لاستمالة الناس نحوهم كما كان يفعل أسلافهم الذين أسسوا هذا الملك!! وعندما تولى الخلافة هذا النوع من أمراء بني العباس تكشفت مطاعنهم لكل طاعن حتى قال الشاعر العباسي مخاطبا بني أمية واصفا حال الخليفة العباسي في وقته:

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الزق والعود

  • أضف إلى هذه المساوئ السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، حالة التفرق والتمزق التي أشرنا إليها لتدرك الأسباب التاريخية لفكرة الزعيم المخلص الذي ينتظر لبعث الروح في الجماعة الإسلامية، وهي جماعة تعتقد أن اليأس قرين الكفر. قال تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)[20]وتعتقد أيضا اعتقادا عميقا أنها مستودع الخير في العالم إلى يوم القيامة. أيجوز أن تترك هذه الأمة هكذا مفتونة بالباطل دون الإنقاذ المنتظر؟.

المرجعيات النقلية للفكرة

هنالك أحاديث تتحدث عن خليفة عادل أو عن مجدد للدين كما رويت أحاديث نبوية تذكر اسم المهدي بوجه خاص، وقد أخرج جماعة من الأئمة هذه الأحاديث منهم: الترمذي، وأبو داود، والبزاز، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلي الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة رفعوها إلى رسول الله هم: على، وابن عباس، وطلحة، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأنس، وأبو سعيد الخدري، وأم حبيبة، وأم سلمة، وثوبان، وقرة ابن أياس، وعلى الهلالي، وعبد الله بن الحارث بن جزء بأسانيدها.

وقد بلغت الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم في كتب هؤلاء الأئمة مئات الأحاديث تخبر عن المهدي. لقد تعرض بعض النقاد لهذه الأحاديث فرموا بعضها بالضعف، ووجدوا بعضها حسنا، وبعضها على شرط الشيخين، وكان ابن خلدون أشهر هؤلاء النقاد: ففي المقدمة تناول ابن خلدون أكثر تلك الأحاديث فطعن في صحة أكثرها، ولكنه اعترف بقوة أسانيد بعضها مثل الحديث الآتي: (روى الحاكم عن طريق عوف الإعرابي عن أبي الصديق النجي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا. ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا”. وقال فيه الحاكم:  هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)[21].

ويرى كثير من العلماء على أن أحاديث المهدي بلغت حد التواتر المعنوي , ومنهم القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني في رسالة سماها “التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح” قال فيها “والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً في الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك”.

سنتعرض هنا لأهم هذه الأحاديث:

  • ” إنَّ الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”.

جاء في سنن أبي داؤد عن أبي هريرة: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” .  روى هذا الحديث أيضا أبو داؤد والحاكم والبيهقي والطبراني.

(2) يخرج قوم من قبل المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه

جاء في المعجم الأوسط للطبراني: “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، فَيُوَطِّئُونَ لِلْمَهْدِيِّ سُلْطَانَهُ”.

وجاء في سنن ابن ماجة: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، (أي ابن مسعود) قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ أَقْبَلَ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، فَلَمَّا رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ ، قَالَ ، فَقُلْتُ : مَا نَزَالُ نَرَى فِي وَجْهِكَ شَيْئًا نَكْرَهُهُ ، فَقَالَ : ” إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا ، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وَتَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا ، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ ، فَيَسْأَلُونَ الْخَيْرَ ، فَلَا يُعْطَوْنَهُ ، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُونَ ، فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا ، فَلَا يَقْبَلُونَهُ ، حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا ، كَمَا مَلَئُوهَا جَوْرًا ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ ، فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ ”

وخروج (قوم من قبل المشرق) رواه عبد الله ابن مسعود، وسهل بن حنيف، وعبد الله بن الحارث، في أحاديث أخرجها ابن ماجة وأحمد والطبراني والبيهقي.

  • “يخرج رجل من عترتي” و “المهدي من عترتي”

وحديث آخر رواه الحاكم عن طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد، أن الرسول قال: ” تملأ الأرض جورا وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا، أو تسعا، فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما”.

أما أبو داؤد فقد أخرج حديث (المهدي من عترتي): عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي ، مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ “.

وأخرج أبو داؤد عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه َنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ ، فَقَالَ : ” إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ – ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً – يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا “.

  • اثنا عشر خليفة

جاء في سنن أبي داؤد: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً ، كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ ” ، فَسَمِعْتُ كَلَامًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَفْهَمْهُ ، قُلْتُ لِأَبِي : مَا يَقُولُ ؟ قَالَ : ” كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ “.

إن أحاديث الخلفاء الاثنى عشر تشكل أساس عقيدة الشيعة الاثنى عشرية، ولكن كما أوردنا في كلام ابن كثير آنفا فهو يراها على نحو مغاير، حيث رآهم غير متتابعين ومنهم المهدي. هذه الأحاديث أخرجها عن جابر بن سمرة مسلم  في صحيحه وأبو داؤد في سننه والحاكم في المستدرك على الصحيحين وابن حبان في صحيحه وأبو عوانة في المستخرج.

  • في وصف المهدي (أجلى أقنى)

جاء في مسند أحمد : ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ‏ ‏قَالَ ‏:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي أَجْلَى ‏ ‏ أَقْنَى ‏ ‏يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ قَبْلَهُ ظُلْمًا يَكُونُ سَبْعَ سِنِينَ.

وفي سنن أبي داؤد :عن  أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ‏ ‏قَالَ: ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏الْمَهْدِيُّ مِنِّي ‏ ‏أَجْلَى ‏ ‏الْجَبْهَةِ ‏ ‏أَقْنَى ‏ ‏الْأَنْفِ يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ.

وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ أَشَمُّ الْأَنْفِ أَقْنَى أَجْلَى ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا ، يَعِيشُ هَكَذَا ” وَبَسَطَ يَسَارَهُ وَإِصْبَعَيْنِ مِنْ يَمِينِهِ الْمُسَبِّحَةَ ، وَالْإِبْهَامَ وَعَقَدَ ثَلَاثَةً”.

  • يملك العرب رجل من أهل بيتي

جاء في سنن الترمذي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ  (ابن مسعود) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ العَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي ”  وَفِي البَابِ عَنْ عَلِيّ، وَأَبِي سَعِيدٍ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.

حديث “يملك العرب رجل من أهل بيتي” روي عن الصحابة المذكورين وأخرجه بخلاف الترمذي أبو داؤد والبزاز والطبراني.

  • في صفة المهدي “يواطئ اسمه اسمي”

جاء في سنن أبي داؤد:  أن  النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ  لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي ، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا ، وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا”.

مئات الأحاديث التي خرجها أئمة الحديث تذكر رواية أن اسم المهدي يواطئ اسم رسول الله (ص)، وهذا موجود في أحاديث رواها من الصحابة علي  وأم سلمة وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وعبد الله بن مسعود وثوبان وغيرهم ، وأخرجها من أئمة الصحاح التسعة أبو داؤد والتمرذي وابن ماجة وأحمد، كما أخرجها الحاكم والبزاز والبيهقي.

 

 

  • أبشركم بالمهدي

جاء في مسند أحمد : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أُبَشِّرُكُمْ بِالْمَهْدِىِّ ، يُبْعَثُ فِي أُمَّتِي عَلَى اخْتِلَافٍ مِنَ النَّاسِ وَزَلَازِلَ ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا ، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا ، وَيَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ، وَسَاكِنُ الْأَرْضِ ، وَيَمْلَأُ اللَّهُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غِنًى ، فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ”.

(9)  خليفة الله المهدي

جاء في مسند أحمد : ‏عَنْ ‏ ‏ثَوْبَانَ ‏ ‏قَالَ ‏ : “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّايَاتِ السُّودَ قَدْ جَاءَتْ مِنْ ‏ ‏خُرَاسَانَ ‏ ‏فَأْتُوهَا فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ ‏ ‏الْمَهْدِيَّ”.

  • المهدي حق:

جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم: َقالت أم سلمة: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْمَهْدِيَّ ، فَقَالَ : ” نَعَمْ ، هُوَ حَقٌّ وَهُوَ مِنْ بَنِي فَاطِمَةَ “.

(10) وصف علي بن أبي طالب للمهدي

جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمَهْدِيِّ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَيْهَاتَ ، ثُمَّ عَقَدَ بِيَدِهِ سَبْعًا ، فَقَالَ : ” ذَاكَ يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ : اللَّهَ اللَّهَ قُتِلَ ، فَيَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ قَوْمًا قُزُعًا كَقَزَعِ السَّحَابِ ، يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَا يَسْتَوْحِشُونَ إِلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْرَحُونَ بِأَحَدٍ ، يَدْخُلُ فِيهِمْ عَلَى عِدَّةُ أَصْحَابِ بَدْرٍ ، لَمْ يَسْبِقْهُمُ الْأَوَّلُونَ وَلَا يُدْرِكُهُمُ الْآخِرُونَ ، وَعَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ”.

(11) يخرج في آخر أمتي

جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” يَخْرُجُ فِي آخِرِ أُمَّتِي الْمَهْدِيُّ يَسْقِيهِ اللَّهُ الْغَيْثَ ، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا ، وَيُعْطِي الْمَالَ صِحَاحًا ، وَتَكْثُرُ الْمَاشِيَةُ وَتَعْظُمُ الْأُمَّةُ ، يَعِيشُ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا “.

المحور الخامس: المدارس المهدية في الإسلام

إن في الفكر الإسلامي عشر مدارس عن المهدي والمهدية:

أ – ثلاث مدارس شيعية هي :

  • المدرسة الإثنا عشرية التي تقول أن سلسلة الأئمة الواجب على الأمة اتباعهم بعد النبي (ص) هم : على، الحسن، الحسين، على زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق، موسى الكاظم ، على الرضا، محمد التقي ، على النقي ، الحسن العسكري، والثاني عشر من الأئمة هو ابنه محمد وهو المهدي ، ومحمد الحسن العسكري هذا في غيبة يعود بعدها عندما يحين أوان ظهوره.
  • المدرسة السبعية وإليها ينتسب الفاطميون وهي ترى أن المهدي هو الإمام السابع وهو إسماعيل بن جعفر الصادق.
  • المدرسة الزيدية وهي تنسب لزيد بن على زين العابدين بن الحسين، واعتقادها أن كل فاطمي (جدته السيدة فاطمة) عالم تقلد بقلائد الدين وخرج من أجل الإصلاح مهدي واجب الاتباع.

ب – أربع مدارس سنية:

  • القائلون بالمهدي المنتظر الذي يظهر قبل آخر الزمان.
  • القائلون بأن المهدي هو إمام القرن مصداقا للحديث : “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”.

هنالك نص عام جاء في الحديث الشريف : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي . قال الإمام أحمد : ان عمر بن عبد العزيز كان راشدا مهديا. ههنا أساس لتوقع مهديين يظهرون في مستقبل الأمة مما أدى لنشوء مدرستين حول هذا الدور هما :

  • مدرسة الإمام ابن كثير . وقد تطرقنا آنفا لتفسيره للآية 55 من سورة النور، حيث روى الحديث “لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا”. واعتبر أن منهم المهدي.
  • مدرسة الإمام فخر الدين الرازي وقد أوردنا تفسيره للآية 69 من سورة النساء، ذاكرا أن الشهيد هو الشاهد بصحة الدين، والشهداء هم القائمون بالقسط، معضدا قوله بحديث عن علي (رض) أن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة .. وأكدنا أنه وإن لم يسم القائم بالقسط أو القائم لله بالحجة مهديا ولكن دوره يفيد نفس المعنى.

ج-  مدرستان صوفيتان :

  • القائلون بأن المهدي هو غوث الزمان أو خاتم أقطاب الزمان.
  • قول الشيخ محي الدين بن عربي بأن المهدي هو خاتم الأقطاب والساعد الأيمن للنور المحمدي الذي به قوام الكون .
    • مدرسة فلسفية:

الفارابي الفيلسوف ، وفي كتابه الشهير عن أهل المدينة الفاضلة تحدث عن مدينة مثالية (طوباوية) رتب أحوالها وجعل لها رئيسا ذا صفات مثالية هو في نظره المهدي، إنه تصوير فلسفي لفكرة المهدي.

المحور السادس: مدرسة الإمام المهدي في السودان

المكتبة الإسلامية التي كانت رائجة في السودان في عهد الفونج والفور، والحكم التركي المصري مكتبة محدودة جدا لم تتجاوز بعض تفاسير القرآن، والحديث، وبعض كتب الفقه، وكثير من كتب التصوف. ليس بين المراجع الإسلامية التي عرفت في السودان كتب عن التشيع بمعناه المعروف .. هذا مع أن المسلمين من أهل السودان كانوا ولا زالوا من أكثر الشعوب الإسلامية حبا للنبي (ص) وآل بيته، حبا فاضت به أشعارهم وأناشيدهم ومدائحهم . لذلك يوضح تاريخ السودان أنه لا وجود للعقيدة المهدية بصورها الشيعية في السودان .

نعم وجدت أفكار عن المهدية في السودان ، وكان لها رواج،  ولكنها كلها من أصول سنية وأصول صوفية . أهم روافد الفكرة المهدية في السودان هي :

  1. السمانية من الطرق الصوفية المتفرعة من الخلوتية والتي حققت نجاحا باهرا في السودان لا سيما في أواسط سودان وادي النيل. وفي الفصل الأول من كتابه السودان والثورة المهدية لخص د. مكي شبيكة المصادر السمانية العديدة التي تحدثت عن المهدي والمهدية حيث نسب للشيخ السمان أنه قال أنه وزير المهدي وأنه يمهد لزمان المهدي [22]. ويشار إلى أن بعض تلك المصادر بث الاعتقاد أن المهدي سوف يكون من صفوف أتباع السمانية[23].
  2. السيد محمد عثمان الميرغني (الختم) وهو مؤسس الطريقة الختمية ذكر المهدي كثيرا وذكر أن مقام الختم يأتي ثالثا بعد النبي (ص) والمهدي. وقد نقل مؤلف كتاب الإجابة والإبانة كثيرا من أقواله في هذا الصدد. كذلك وردت نصوص في كتاب “الرسائل الميرغنية” وهي مجموعة مقالات كتبها السيد محمد عثمان وعدد من حفدته[24].
  3. الإسماعيلية طريقة أسسها السيد إسماعيل الولي متفرعة من الختمية وصار نفوذها الأكبر في الغرب الأوسط في كردفان. ذكر يوسف أحمد محمد عوض السيد إن للسيد إسماعيل الولي كتابا عن المهدي المنتظر عنوانه : “جامع الكلم وأوجز النظم في معرفة سيدي الإمام المهدي المنتظر والختم “[25] .
  4. تردد على لسان الشيخ محمد شريف نور الدائم وهو حفيد الشيخ أحمد الطيب البشير مؤسس الطريقة السمانية في السودان أقوال جاء بصددها: ” وقد سمعتك غير مرة تقول أمدادنا هذه من أنفاس المهدي . فلما كنت عالما بذلك فلا تقف عن الرشاد”.[26]

تلك الحقائق توضح انتشار الفكرة في أواسط سودان وادي النيل والغرب الأوسط ولكن غرب السودان وما دونه كان أيضا مجالا لانتشار الفكرة وبيان ذلك :

  • لقد أسس الشيخ عثمان دان (ابن) فوديو (الفقيه) خلافة إسلامية في السودان الغربي في عام 1804م، وكان فقيها مجاهدا ورجل دولة وكاتبا وشاعرا . في كتابه الخبر الهادي في أمور الإمام المهدي ، قال الشيخ عثمان : المهدي يواطئ اسمه اسم النبي (ص) واسم أبيه اسم أبيه، ويظهر في الشرق وسأتبعه إن كنت حيا فعلى المؤمنين تأييده والهجرة لنصرته.
  • وكتب محمد بيلو بن عثمان دان فوديو في كتابه “الجفر والخوافي” أن الإمام المهدي سيظهر في 1280 هـ . وقال في كتاب آخر (القول المختصر) أن المدة بين وفاة الشيخ عثمان دان فوديو وظهور المهدي 57 سنة أي سيكون ظهوره 1289هـ.
  • وكان للشيخ ابنة فقيهة هي السيدة مريم بنت الشيخ. هذه السيدة صنفت مؤلفا سجلت فيه مراحل الهجرة شرقا حتى بلاد النيل كما سمعتها من والدها[27]. وقال محمد بيلو راويا عن والده أنه قال : لا ينقضي جهادنا هذا حتى يفضي إلى المهدي[28].

هذه البشارات دفعت كثيرا من أهل السودان الغربي للإيمان بالفكرة المهدية وبدنو وقت ظهور المهدي فهاجروا شرقا تطلعا إليه. ومن بين هؤلاء المهاجرين شرقا والد الخليفة عبد الله.          كان جد الخليفة عبد الله واسمه على الكرار قد جاء إلى دار التعايشة وفيها استقر وتزوج وولد ابنه محمد الذي اشتهر بالصلاح ولقب تور شيل. محمد هذا اصطحب أسرته وفيها ابنه عبدالله حتى استقر في دار قبيلة الجمع وهناك توفى الوالد وواصل الابن مسعاه[29].

هذه الحقائق وغيرها مثل الأقوال التي نسبت للشيخ القرشي ود الزين عن المهدي واقتراب وقت ظهوره تؤكد ذيوع الفكرة في سودان وادي النيل وفي السودان الغربي (غرب السودان). وتؤكد أن مصادر الفكرة في المناطق السودانية سنية وصوفية . لقد لخص د. مكي شبيكة هذا المناخ المفعم بفكرة المهدي والمهدية بقوله : تطلع أهل السودان للخلاص وحياة أفضل لذلك كلما رأوا رجلا صالحا يفضلهم عقلا ودراية وله الغيرة على الدين وأهله ظنوه المهدي[30].

مفهوم المهدية لدى صاحب الدعوة في السودان

لقد ذكرنا أن في الفكر الإسلامي عشر مدارس عن المهدي والمهدية . وذكرنا أن فكرة المهدي والمهدية راجت في أواسط سودان وادي النيل وفي غرب السودان مما شكل تمهيدا للدعوة المهدية عندما جهر بها الشيخ محمد أحمد في عام 1881م. فما هو جوهر تلك الدعوة والى أي المدارس انتماؤها؟.

هذا الموضوع تعرض لكثير من الخلط في أذهان مناهضي الدعوة بل في أذهان كثير من مناصريها أيضا. إنه موضوع لم يحظ بقدر كاف من التحليل والتنظير فأحاط به الغموض. لقد سبرت غور هذا الموضوع من قبل في عدة كتابات أهمها: يسألونك عن المهدية (1975م)، أيديولجية المهدية (1986م)، و”عبد الرحمن الصادق إمام الدين” (1996م. وفيما يلي أورد حجتي مستمدا شواهدي من إنذارات ومنشورات وأحكام وخطب ومجالس الإمام المهدي، وهذه المراجع كلها الآن منشورة بتحقيق وضبط علمي رائع[31].

النظرة الثاقبة لتلك المراجع تؤكد أن للإمام المهدي مدرسة مهدوية لا تطابق المدارس العشر المذكورة بل تشكل مدرسة حادية عشر بيانها :

أولا: إن توقيت ظهور المهدي في زمان معين وفي مكان معين ليس صحيحا وفي هذا الصدد قال في خطاب له بتاريخ 1300هـ: “والنبي لم يوقت ولم يعين . بل قال كذب الوقاتون” وقال : ” واعلم وإن كان لا يخفى عليك أن علم المهدي كعلم الساعة والساعة لا يعلمها على الحقيقة إلا الله تعالى. كما بين ذلك المحققون كالسيد أحمد بن إدريس فإنه قال : كذبت في المهدية أربع عشرة نسخة من نسخ أهل الله . وقال سيخرج من جهة لا يعرفونها وعلى حال ينكرونها “[32].

ثانيا: البحث عن علامات وأشراط للمهدية لا يجوز. جاء في منشور الدعوة الصادر في شوال1298 هـ : ” ولا يتوقف عطاء الله على علم الخلق تعالى الله عن ذلك. بل لا يتقيد علم الله سبحانه وتعالى بضبط القوانين ولا علوم المتفننين “، وجاء فيه: ” والكشف يتخلف ويثبت الله غيره : وقال تعالى : (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[33] .وقال : وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [34] )  إن الله يفعل ما يريد (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء[35])”[36].

ثالثا: إن تفشى الظلم والفساد وتفرق كلمة المسلمين وخضوعهم لسلطان أجنبي يسومهم الإذلال يحرك المسلم غيرة على دينه لإزالة المنكر، قال : ” وحيث أنه لم يبق من الدين إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه حصلت الغيرة، وغيرة المؤمن على حرم الله أشد من غيرته على حرمه  “[37].

رابعا: إن بعث الإسلام وإصلاح حال المسلمين لا يكون إلا بإحياء الكتاب والسنة المقبورين، قال : “فها أنا أوصيكم وإياي بتقوى الله واتباع سنة رسول الله، وأعلموا أن المهدية قائمة بهذين “[38].

خامسا: البيعة التي جعلها المهدي رباطا بينه وبين أصحابه حددت واجباتهم في الآتي :

“بايعنا الله ورسوله وبايعناك على طاعة الله، وألا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه، ولا نعصيك في أمر بمعروف ولا نهي عن منكر. بايعناك على زهد الدنيا وتركها. وألا نفر من الجهاد رغبة فيما عند الله “.

سادسا: أنه، أي محمد أحمد ، كان ساعيا في إحياء الدين وتقويم السنن “واستبعد عن نفسي أن أكون ولى الأمر الذي على يديه الخلاص، وانتظره لأكون له عونا وخادما ” ..” حتى هجمت على الخلافة الكبرى من الله ورسوله وأعلمت بأني المهدي المنتظر”[39].

سابعا: كان واضحا من أقوال وأفعال المهدي أنه ليس في آخر الزمان فالأمة الإسلامية مستمرة بعده بدليل أنه اختار من بين أصحابه خلفاء لخلفاء رسول الله (ص). وإن قال قائل إن هذه المناصب قرينة لمكانتهم بعد وفاته. الدليل الآخر على أنه كان يعتقد استمرار الأمة أنه وضع مقياسا لحركة الإصلاح الديني بقوله: ” لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”.

وعلى كثرة ما قال الإمام المهدي وكتب فانه لم يشر من قريب أو بعيد لظهور النبي عيسى على نحو ما جاء في النصوص الإسلامية عن تتابع ظهور المهدي ثم ظهور عيسى في أشراط آخر الزمان. كما لم يرد في أي من كتاباته الغزيرة أنه اعتبر كلامه خاتما أو أنه جاء في زمان خاتم.

الخلاصة : الإمام المهدي في تعاليمه عن دعوته :

  • فصل ما بين المهدية وتوقيتات آخر الزمان.
  • وتخلي عن الأشراط والعلامات التي تبحر فيها الآخرون.
  • وربط بين الدعوة والحاجة الملحة إلى ملء الفراغ القيادي بالجلوس على مقعد الخلافة عن النبي (ص) الشاغر.
  • تلك الضرورات الموضوعية اقترنت بتجربة ذاتية هي صدورأمر غيبي له ألزمه بأداء تلك الواجبات وألزم الأمة بطاعته لتحقيقها إلزاما مخصوصا تنفيذا للإلزام القرآني العام : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ )[40].

تعاليم الإمام المهدي بشأن المهدي والمهدية تشكل مدرسة سنية جديدة هي المدرسة الحادية عشر في ترتيب المدارس المهدوية الإسلامية. الأثر الإسلامي الفريد والباقي للدعوة المهدية والذي من شأنه تكوين أساس لتوحيد أهل القبلة يلخص في سبع نقاط هي:

أولا: الدعوة المهدية ركزت على أن إحياء الدين الإسلامي يتوقف على إحياء الكتاب والسنة دعما لأهم مبدأ لدى أهل السنة.

ثانيا: أكدت الدعوة أن للتكاليف والأحكام الإسلامية جذورا روحية تدعيما للمبدأ الأول للتصوف.

ثالثا: ركزت على دور الإمامة في القيادة الدينية توافقا مع أهم مبادئ الشيعة وإن ربطتها بالتأهيل لا بالنسب. وربط الإمامة بعيدا عن النسب بـ “من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين” يوافق الأباضية .

رابعا: أكدت ضرورة الحركة في الفقه الإسلامي على أساس (لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال). وهو مبدأ يحرص عليه العقائديون الإسلاميون .

خامسا: أحيت فريضة الجهاد. المبدأ الذي يركز عليه الحركيون الإسلاميون.

سادسا: جعلت الولاء لقطعيات الوحي متجاوزة الالتزام بالفرق والمذاهب، جاعلة ما ليس قطعيا محلا للاجتهاد والشورى . مبدأ الصحويين الإسلاميين.

سابعا: همشت دور الصور الجامدة للمهدية وجعلتها مرتبطة بوظيفة إحياء الدين.

هذا المعنى الوظيفي هو الذي نص عليه أحمد العوام وهو أحد زعماء الثورة العرابية في مصر ومن الذين نفاهم جيش الاحتلال البريطاني إلى السودان حيث قال في الرسالة التي سجل فيها رأيه في الدعوة المهدية ووجه في نهايتها نداء للمسلمين لتأييد الإمام المهدي وهي بعنوان(نصيحة العوام للخاص والعام من أخواني أهل الإيمان والإسلام):

(حال الإسلام يتطلب أن ينهض ناهض بأمر الدين فنسأل الله أن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا وفاء لصادق وعده، وتصديقا لحديث نبيه، سواء كان بالإمام المهدي هذا عليه السلام فقد ظهرت كواكبه، ولاحت بوارقه، أو بغيره من عباده الصالحين). وحينما اطلع الإمام المهدي على هذه الرسالة أجازها وأمر بطباعتها فطبعت.

قال  د. عبد الودود شلبي عن المهدية في السودان: ” كانت حركة تمثلت فيها كل حركات الإصلاح في عصرها”[41].   وهذا يفيد المعنى الوظيفي بالسعي للإصلاح.

المدرسة الحادية عشر المهدية ( السودانية) أكدت عقيدة المهدية ولكنها فصلتها من سلسلة النسب الصارمة لدى المدارس الشيعية ومن التوقيتات القاطعة لدى المدارس السنية.

المحور السابع: التعامل مع اختلاف العقائد والتصورات

بعض المسلمين لأسباب وحجج ذكروها يريدون صرف النظر عن العقيدة المهدية جملة وتفصيلا. هذا النهج مع قوة حجة الآخرين لا يجدي.

دعوة الإمام المهدي في السودان الوظيفية تجد وصفا وظيفيا مماثلا في مجدد القرن، ورؤية الرازي ورؤية ابن كثير ورئاسة أهل المدينة الفاضلة لدى الفلاسفة وغوث الزمان لدى الصوفية على النحو الذي فصلنا آنفا.

شخصنة أمر المهدية لدى معتقديها وما تقتضي من تمسك كل فرقة باعتقادها وشخصية صاحبها يجعل العقيدة المهدية سببا إضافيا من أسباب اختلافات المسلمين. ولكن التحول من سلسلة النسب وصرامة المواقيت إلى الوظيفية يشكل تقاربا بين الفرق والمدارس الإسلامية ويزكي مقولة الإمام محمد أحمد المهدي في السودان.

وبقدر ما تشكل عقيدة المهدية أسباب خلاف بين فرق ومدارس المسلمين تشكل عقيدة العيسوية أسباب خلاف بين كافة أهل الكتاب فلليهود عقائدهم، وللمسيحيين عقائدهم وللمسلمين عقائدهم حول هذا الموضوع.

بصرف النظر عن تلك الخلافات- سواء حول فكرة المهدية بين المسلمين، أو حول فكرة العيسوية بينهم وبين النصارى واليهود- فإن البشر يستطيعون تجاوز مساوئها لا عبر توحيد رؤاهم أو تجاهل الاختلافات، ولكن عبر تأمين حدود دنيا للاتفاق حول طائفة من المفاهيم التي تحقق التعامل الحكيم مع تلك الاختلافات بحيث تظل تثري رؤى البشر وعقائدهم بدون أن تسبب النزاعات الدموية أو تعرقل مسيرة التفاهم بين الجميع داخل المجتمع الواحد أو بين الحضارات المختلفة:

القانون الطبيعي:

الفكر الإنساني قد اهتدى لمعرفة قوانين الطبيعة مما يشكل نظرة يرجى أن يقبلها الجميع بأن للكون سننا طبيعية راتبة وأن للإنسان أن يكتشفها ويسخرها لأغراضه عن طريق العقل والتجربة.

القانون المعرفي:

ويرجى أن يتمكن الفكر الإنساني الديني والفلسفي من الاتفاق على قانون معرفي أبستمولوجي يقرر وسائل المعرفة الأربع:  الوحي- الإلهام- العقل- والتجربة. ويخصص لكل مجاله المشروع فيحسم الجدل الديني العلماني.

القانون الأخلاقي:

ويرجى أن يتفق الناس على مصادر القانون الأخلاقي وهي المماثلة- والكلية- والإيثار. فيحسم الجدل حول علم الأخلاق Axiology.

حقوق الإنسان

ويرجى أن يتفق على حقوق الإنسان القائمة على الحرية والعدل والكرامة والمساواة والسلام .

 

هذا العالم الفاضل القائم على حسم تلك القضايا هو جوهر ما يرجوه المؤمنون من نصر نهائي للحق وهزيمة حاسمة للباطل.

لقد بينا أعلاه أسلوب التعامل الأفضل مع الخلافات بشأن المهدية، أما بالنسبة للعيسوية فلتستمر الخلافات حول العيسيوية حسب نصوص الملل المختلفة وهذا أمره إلى الله، قال تعالى: (فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[42].

ليس من الممكن توحيد الرؤى حول العقائد عبر الحوار، ولكن الممكن عبر حوار الأديان وحوار الحضارات وغيرها من آليات الوفاق التطلع لوضع إنساني فاضل وحر وعادل هذه معالمه. ومن دلائل صلاحيات الإسلام أن يكون دين الإنسانية أن مبادئه وعقائده تستطيع أن تحتضن هذا التطلع الإنساني المشروع لمصير نوراني.

 

الهوامش

[1]  سورة الذاريات الآيتان 20-21

[2]  سورة الروم الآية 30

[3] سورة النساء الآية

[4]  سورة الأحقاف الآية 9

[5]  سورة الشورى الآية 13

(3 ) سورة الحديد الآية (28)

[6]  رواه البخاري

[7]  سورة الحجر الآية 75

[8]  رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري

[9]  أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وأخرجه مسلم والترمذي وأحمد والنسائي والحاكم من حديث عائشة

[10] سورة النور- الآية55.

[11] تفسير ابن كثير، الجزء الثالث، ص 30.

[12] سورة النساء، الآية 69.

[13] سورة البقرة، الآية 143.

[14] سورة هود، الآية 116 .

[15] سورة الأنبياء، الآية 105.

[16] سورة آل عمران ، الآية 104.

[17] سورة الرعد، الآية 7.

[18] سورة الحج، الآية 41.

[19] سورة المائدة، الآية 54.

[20] سورة يوسف، الآية 87.

[21] مقدمة ابن خلدون، ص 563.

[22]  مكي شبيكة ، السودان عبر القرون  ص13-14.

[23] راجع يحي محمد إبراهيم، تاريخ التعليم الديني في السودان. ص 329، حيث يورد العديد من الروايات عن قرب ظهور المهدي منها أن جماعة سألوا الشيخ الطيب البشير عن قرب زوال ملك الأتراك فأخبرهم باقتران ذلك  بظهور المهدي، ويقال إنه وجد تقييد بخطه نص على أن المهدي منا وقد أطلعني عليه ربي كأني أنظر إلى جلالته.

[24] أبو سليم، الحركة الفكرية في المهدية. ص 7.

[25] نفسه ص 7.

[26] أبو سليم، الآثار الكاملة للإمام المهدي، في خطاب من المهدي لمحمد شريف، ج3، ص 78. وأيضا إشارة لذلك في خطاب آخر 1300هـ يقول له: ” وبالجملة فأمر المهدية هذا قد أطلعك الله عليه قبل كل العارفين في زمانك فأخبرتني وأخبرت غيري كما أخبرني بذلك غير واحد” ج1 ص 423.

[27] الطيب عبد الرحيم الفولاني والمهدية.

[28] محمد بيلو، اتفاق الميسور في تاريخ التكرور ص 105. الجدير بالذكر أن ما أورده محمد بيلو لم ينسبه لنبوية والده وإن بشر بدنو وقت ظهور المهدي  وأشار لأنه يظهر في الشرق لم يوقت أو يحدد زمنا، بلك كذب الأحاديث التي توقت للمهدي مستندا على المنطق فالتاريخ الهجري لم يعمل به إلا في عهد عمر بن الخطاب (رض). وقال في قصيدته الفولانية “بنقاري المهدي” أي “علو شأن المهدي”:

دعكم من تعيين ما لم يعينه النبي

كل ما عليكم هو الاعتقاد بمجئ المهدي

انظر في هذا د. الأمين أبو منقة، العلاقات السودانية النيجيرية في إطار المهدية، مجلة دراسات أفريقية، ديسمبر 1991م.

[29] أحمد محمد الحاج ، الحركة المهدية في غرب السودان، ص 179.

[30] مكي شبيكة، السودان عبر القرون.

[31] الآثار الكاملة للإمام المهدي تحقيق د. محمد إبراهيم أبو سليم ، دار جامعة الخرطوم للنشر-7 مجلدات نشرت تباعا من 1990 الى 1994م.

[32] نفسه ج1 ص 337.

[33]  سورة النحل الآية 8

[34]   سورة الأنعام الآية 59

[35] سورة البقرة الآية 255

[36] الآثار الكاملة ج1- سابق ص 97.

[37] نفسه ص 69.

[38] نفسه ص

[39] آثار ج1ص97

[40] لقمان آية 15، الاستشهاد ساقه المهدي في الآثار الكاملة ، مرجع سابق، ج1ص137.

 

[41] الدكتور عبد الودود شلبي الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته – دار المعارف- القاهرة 1979 ص 248.

[42] سورة البقرة الأية 113